رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خطبة الجمعة


الدين هو اليسر وهو اللين، ويبدو أن بعض الناس يفهمون من أن الرسول صلى الله عليه وسلم «بشيراً ونذيراً» على أنه «نذير ونذير» ونسوا بشيرا أو شطبوها من قاموسهم الخاص.

كنت على مرمى حجر من شيخ المسجد وهو يخطب فى المصلين خطبة الجمعة.. كان يخطب وكأنه ينفخ فى الكير ويصب الزيت المغلى فى عقول المصلين الذين أتوا إلى المسجد من وازع إيمانهم وتقواهم دون تكليف من رئيس أو صاحب عمل.. وعندما نظرت إلى وجهه وجدته قد أحمر على سُمرته واستطال رغم استدارته، ووجدت العرق يتصبب من جبينه وينساب كجدول ماء وكأنه خرج لتوه من معركة حامية الوطيس!! ومع أن الدين يسر لا عسر فيه إلا أن الشيخ كان يضع أمامنا كل العسر ويتوعد المصلين ناراً وقودها الناس والحجارة وأخذ يعدد المحرّمات حتى ظننا أن الله لم يحل لنا شيئاً فى الدنيا ولم ييسر لنا أمراً فى الدين.. إلا أن الطامة الكبرى التى أرهقت قلبى كانت عندما أخذ الشيخ يحذر من التعرض لتلك الفتاوى التى تصدر من علماء الدين بالنقد أو التعقيب فقال: إن لحم العلماء مسموم.. وآية ذلك أنه رأى بعينى رأسه فى بلدته فى أقاصى الصعيد رجلاً ينتقد عالما من علماء الدين من أهل القرية ويسخر من علمه فإذا بالله ينتقم من هذا المنتقد الساخر بأن جعله يلد سمكة!!! ثم مات مفضوحاً بعد ذلك!!...

وبعد أن انتهت الخطبة توجهت للخطيب أناقشه فى قوله هذا وأدعوه إلى اتخاذ منهج يقوم على العقل والعلم لا على النقل والجهل لأن قصته هذه تتعارض مع صحيح الدين فضلاً عن أنه يخطب فى مسجد يرتاده صفوة من المثقفين... إلا أن الخطيب أعرض عنى ورفض الاستماع إلى بقية حديثى ونظرته تتهمنى بالتسيب فى الدين!! فما كان منى إلا أن هجرت هذا المسجد هرباً بعقلى وقلبى.. وعندما حدثت أحد أصدقائى بهذه القصة قال لى أنه إستمع إلى خطيب جمعة وهو يقول: «بصق رجل من العصاة فى الطريق فشربت ذبابة من بصقته فارتوت فدخل الرجل العاصى ببصقته هذه الجنة» فذهب إليه الصديق بعد الخطبة وقال له: هل أفهم من خطبتك أنك تشجع الناس على البصق فى الطرقات؟!! فنهره الشيخ واتهمه فى دينه وكاد أن يطرده من المسجد.. وعندما تناقشنا مع أحد علماء الأمة ومفكريها عن أزمة «خطبة الجمعة» قال لنا إن معظم معارفه هجرت خطبة الجمعة لأنها لا تجد الخطيب اللبيب، فقد ذهبت أيام الأفذاذ وحلت علينا أيام البؤس والنكد، ذهبت أيام علماء الأزهر الحقيقيين الذين كان العلم ينساب منهم انسياباً وجاءت أيام الجهل والجهلاء والتشدد والتنطع والفقه البدوى الخشن، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى أيام التطرف والتكفير والإخراج من الملة وكأنما الله ابتعث هؤلاء ليخرجوا المسلمين من دينهم بدلاً من أن يدخلوا الملحدين إلى دائرة الإيمان، وحين وصل الإخوان إلى الحكم وصلنا إلى القتل والإرهاب فكاد الشعب حقيقة أن يكفر لأنه لا يمكن أن يكون ما يمارسه هؤلاء هو دين الله الذى أنزله على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

وعلى الجانب الآخر نجد طائفة أخرى من الخطباء يتقعرون ويتحذلقون فلا يفهم أحد منهم شيئاً وإن فهم وجد التعسير والتشدد فى غير موضعه، يعرضون عقدهم النفسية وطباعهم الشخصية!! ولكن الدين غير ذلك.. ذلك أن الدين هو اليسر وهو اللين، ويبدو أن بعض الناس يفهمون من أن الرسول صلى الله عليه وسلم «بشيراً ونذيراً» على أنه «نذير ونذير» ونسوا بشيرا أو شطبوها من قاموسهم الخاص، فهؤلاء تقعروا وتفيهقوا وتعالموا وعسروا الدين ونفروا منه.. وكنت قد قرأت فى بعض كتب الأدب عن واحد من هؤلاء المتقعرين اسمه «أبو علقمة» وكان يفتى فى الدين بغريب الألفاظ ويتشدد ويُعسِر على الناس تعسيراً لا يسر فيه ولا لين،وفى أحد الأيام قال أبو علقمة لغلامه متقعرا: أصعقت العتاريف؟..

فرد عليه الغلام وقد خبر سيده المتقعر قائلاً: زقيلم.. فقال أبوعلقمة لغلامه متعجباً وما زقيلم؟ فقال الغلام: وما أصعقت العتاريف؟ قال المتقعر: أردت هل أذنت الديكة؟.. فقال الغلام: وأنا أجبتك فقلت زقيلم أى أذنت.. ورغم أن هذا الغلام لقن أبا علقمة بهذا الرد درساً إلا أن التنطع والتقعر ظل يصاحب الرجل فعندما مرض ذهب إلى الطبيب فقال له الطبيب: مما تشكو فقال أبو علقمة: أكلت من الجوازى فقسأت قسأة فأصابنى الوجع من الوابلة إلى دأية العنق حتى خالط الحلب وألمت منه الشراسيف!! وهنا أدرك الطبيب أنه أمام رجل من المتقعرين فلقنه درسا أعاده إلى صوابه، حيث قال له: خذ حرقفا وشرقفا وزهرقة ورقرقة واغسله بماء روس واشربه بماء الماء.. ولم يفهم أبو علقمة شيئا إلا أنه أدرك أخيراً أنه «هلك المتنطعون».... ومن بعدها لم يعد إلى التقعر.. ألا ترى أننا الآن أحوج ما نكون فى خطابنا الإسلامى وإدراكنا للدين إلى مثل هذا الطبيب كى نعود فى ديننا إلى الوسطية والاعتدال واليسر بلا جهل يلغى العقول ولا تقعر أو تشدد يرهق الأفئدة؟