رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التضحية الملتحفة بالحب


 ليس هناك ما هو أروع من أن يبذل الإنسان نفسه من أجل أحبائه. نحن فى زمن ندُرت فيه التضحية الصادقة، وفَترَ فيه الحُب، وتغلبت الأنانية، وازدادت العداوة بين البشر. لا أجد أى غضاضة فى أن أنشر رسالة شخصية كان قد أرسلها والدى عام 1949 إلى والدتى، تكشف بكل وضوح عن عمق التضحية الحقيقية المُلتحفة بالحب الصادق.

فى 28 فبراير 1949 كان والدى الأستاذ بديع عبد الملك «1908 – 1979» المتخصص فى رسم الآثار المصرية بالمتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية، قد تزوج من والدتى حنونة «جانيت» نقولا جرجس «1924 – 1978» وكانت سيدة منزل فاضلة ومُدبرة بحكمة. ثم حدث فى شهر أكتوبر من العام نفسه أن مرض عمى الأصغر حنا، والتزاماً من والدى نحو أخوته، فقد اصطحب عمى فى رحلة العلاج بالقاهرة ومكث معه فترة العلاج. وهنا اسجل – بكل أعجاب وتقدير – ما خطه والدى إلى والدتى بأسلوب أدبى رائع وبمشاعر محبة صادقة. كتب يقول:

«حنونة، شقيقة الروح، وزوجتى العزيزة: إنى أشعرُ بالفرح الزائد، حينما أنتزع من وقتى غير الرتيب الذى ارتفعت فيه الروح عن المادة، ووجبت التضحية وزالت الأنانية بدافع من الإنسانية قبل أن يكون فرضاً يُحتمه الواجب للعناية بأخى حنا المريض وهو فى مصر بين قوم غرباء لا يدرى كيف يقرر مصير العلاج بنفسه، ولا يحس غير العطف الذى أحوطه به وهو بذلك مطمئن وهادئ ومُستسلم. أقول إنى أشعر الآن بالفرح الزائد حينما أكتب لكِ أولى رسائلى فى تاريخ حياتنا من بدء تعارفنا الذى باركه الرب بزواج سعيد باذن الله. وأصارحك القول إنه غير هين على نفسى أن أغترب عنكِ وأترككِ مدة طويلة يشعر كلانا فيها بالضيق والوحشة. بيد إنى مدركُ أنكِ مطمئنة بين أهلى وأهلك. وأدعو الله أن يَمن على حنا بالشفاء العاجل، إنه على كل شىء قدير. ختاماً أبثكِ أشواقى مع حبى الخالص ...... زوجك .. بديع عبدالملك». ثم فى اليوم نفسه – ومع الخطاب نفسه – أرسل رسالة إلى خالى الأستاذ عبدالملك نقولا، كتب فيها بكل الحُب: «أخى عبده، أهديك خالص التحية وأرجو أن تكون والعروسة على خير ما ترجوان من الصحة والسعادة، وأن يكون لهذا الزواج المبارك ثمرة حياة هانئة طيبة». أخى – استلمت اليوم رسالتك وإنى شاكر لك جُلّ اهتمامك بى وعنايتك بزوجتى المحبوبة، وأنا عنها بعيد لفترة أرجو آلا تطول للعناية بعلاج أخى حنا. ورجائى فى هذه الحال أن تُلبى طلبات حنونة حتى أعود إليكم بإذن الله فى القريب. وليس هذا مجال الإطالة أو التحدث عن الأيام التى أقضيها بمصر ولنتركها إلى اللقاء.

فى الختام أرجو إبلاغ تحياتى وسلامى إلى جميع أفراد منزلكم وإلى كل من يسأل عنا. والجميع هنا بخير يهدونكم أزكى السلام، وإذا كان لكم أى حاجة تريد قضاءها من مصر فأنا على أتم استعداد. ولك حبى وودى .. المخلص .. بديع عبدالملك». وخالى هذا كان هو أيضاً ليس بأقل تضحية، فقد أمضى حياته فى خدمة الكثيرين، وكان مع والدى أخان متلازمان متحابان يعيشان بسر الروح وفرح القلب. وكانت من سعادتى الغامرة أن أعيد كتابة تلك السطور لانتزع نفسى من المنغصات التى تحيط بنا وأحلق بفكرى وروحى فى ذلك الزمن الجميل الذى ارتفعت فى الروحيات عن الماديات.

أستاذ بكلية الهندسة - جامعة الإسكندرية