رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسالة المحامى


فى هذه الأيام تتعرض المحاماة لحروب ضارية، وأظن أننا كمحامين نشارك فى الإساءة للمحاماه تلك المهنة الرسالية العظيمة، فقد تحولت نقابة المحامين إلى مخزن لخريجى كليات الحقوق التى أصبحت من كثرتها تسد عين الشمس، وبسبب انخفاض مستوى التعليم فى مصر فقد وصل السوء والجهل إلى كليات الحقوق يمشى على رجلين.

ثم تخرج هذا السوء وأخذ يبحث عن مهنة يمارسها، فلم يجد إلا نقابة المحامين التى لا تقوم بأى دور رقابى على أعضائها، ولا تملك حتى أن ترفض انضمان أعضاء جدد لها، فتفاقمت المشكلة بشكل غير مسبوق، ونتج عن ذلك أن أى مشكلة تواجه أى شخص انتمى إلى هذه النقابة سواء كانت مشكلته شخصية أو سياسية فتجد العشرات من المحامين يندفعون للدفاع عن هذا الشخص بحكم الزمالة، سواء كان هذا الشخص على حق أو على باطل، وعندما قام أحد شباب الإخوان بالتعدى على المواطنين فى إحدى المظاهرات وتم القبض عليه وهو يحمل سلاحه، ثم تم عرضه على النيابة العامة التى أمرت بحبسه وكان آنذاك سليما معافى من أى سوء، إذا بالحال يتبدل وهو فى القسم ويتعرض لاعتداء من أشخاص قيل إنهم من الشرطة!

واستمر التعذيب إلى أن مات هذا الإخوانى، وهذا من الأمور المحيرة جدا لأن التحقيق كان قد انتهى ولا يوجد أى مبرر لتعذيب يكون هدفه انتزاع اعترافات، فالاعترافات تمت دون تعذيب ودون أن يدعى المتهم أنه وقع عليه تهديد بدنى أو معنوى من أى نوع مما يجعل الاعتداء عليه بعد ذلك إما عبثياً أو جنائياً مدبرا ًبإحكام أو انتقامياً من نفوس سادية، ولكن الشاهد من القصة أن جماعة الإخوان استغلتها لتحقيق أهدافا شخصية لنفسها، فلا الأخ الإخوانى يعمل بالمحاماة فعلا، ولا هو مبرأ من خطيئة الاعتداء على المواطنين بسلاحه المضبوط معه، ولكن آلة الإخوان الدعائية تحركت، واضطر النقابيون أعضاء مجلس نقابة شمال القاهرة أن يتحركوا على ظن منهم أنهم ينتصرون لزميل لهم وكأن المحاماة هى التى تعرضت للإيذاء، ورغم أن الكل يدرك ذلك إلا أن الإخوان يجيدون توجيه غيرهم بشكل غير مباشر، ومع ذلك ورغم أننا لا نقبل أن يتم الاعتداء على أى متهم مقبوض عليه طالما أنه فى حيازة الدولة وتحت مسئوليتها إلا أن هذا الحداث لا يجب أبدا أن يتم تصويره على أنه اعتداء على المحاماة.

فالمحاماة شيء آخر، والنقابة لا ينبغى لها أن تتحرك لنجدة محام إلا إذا كان الاعتداء عليه قد ارتبط بعمله، ساعتئذ يجب أن تقوم النقابة بالتحرك فورا لأن للمحاماة حصانة لا يجوز التعدى عليها بأى حال وبأى وسيلة، ولكن ما طبيعة عمل المحامى؟ هذا هو الشيء الذى يجهله معظم الشباب الذين يعملون بالمحاماة حديثاً، وما ذلك إلا لأن معهد المحاماة أصبح لا يقوم بدوره، فإذا جهل المحامى الشاب طبيعة عمله فليس من المستغرب أن يجهل غيرهم من غير أرباب المهنة هذا الأمر، لذلك فإننى سأعرض سطوراً عن طبيعة تلك المهنة العظيمة لعل شبابنا يتعلمون منها شيئاً. فحين يقف المحامى ليدافع عن المتهم، فإنه بالبداهة لا يدافع عن الجريمة، ولكنه يدافع عن ذلك الذى نُسبت إليه الجريمة، وهو حين يترافع عن موكله يبدو وكأنه يترافع عن نفسه، وأحياناً لا يستطيع المحامى أن يفصل نفسه أثناء المرافعة عن موكله، ويظهر ذلك جلياً عندما يندمج فى مرافعته فيقول مثلاً: «إن التهمة التى وجهت إلىَّ تهمة باطلة» وهو يعنى بطبيعة الحال التهمة التى وجهت إلى موكله، هذا الاندماج فى حقيقة الأمر هو ملمح من الملامح الرسالية فى المحاماة، وأظن أن المحاماة فى أمس الحاجة الآن إلى من يترافع عنها ويدافع عن رساليتها، تلك الرسالية التى يظنها الغافلون «صناعة الكذب والتلفيق والتزوير» ورغم أننى أجدنى أتحدث عن بديهيات، إلا أنه عندما يسود الجهل تصبح البديهيات منكرة!.

فى عرف العدالة أن الأصل فى الإنسان البراءة، ولذلك حين يذهب المتهم للمحاكمة يكون من حقه أن يصطحب معه المحامى الذى سيكون لسانه وترجمان مشاعره، ولكن الغوغاء لا يقبلون هذا، هم يصخبون ويهتفون ويصرخون، يريدون رؤية الدماء، تبهج خاطرهم رؤية المتهم الذى يكرهونه وهو معلق على أعواد المشانق، لا شأن لهم بالعدالة والدفاع والدليل والإثبات، المحكمة عندهم لها وظيفة واحدة هى الحكم بإعدام المتهم، ساعتئذ تكون المحكمة عادلة، أما إذا حصل المتهم على البراءة فيا ويل المحكمة التى سيلعنونها ويتهمونها بأبشع الاتهامات، ويا ويل المحامى الذى سيصبح «عدو الشعب».

لذلك يحق لى أن أقول فى غير مبالغة إن المحاماة هى «المهنة الرسالية» بحسب أن أصحابها يحملون على كاهلهم رسالة إنسانية هى رسالة النجدة، وهى رسالة تجعل صاحبها من أصحاب المروءة والشهامة والنخوة، هى رسالة أقوى من السيف، فحين أراد نابليون أن يجور على المحاماة قال: « طالما السيف إلى جانبى، سيكون ضمن سلطانى قطع لسان كل محام يتجرأ على استخدامه ضد الحكومة»، وقد علق المؤرخون فيما بعد على ذلك بقولهم: «لقد برهن الزمن أن لسان المحامى كان أكثر صلابة من سيف الجنرال».