رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الحلقة الثانية»

إلى الرئيس السيسى.. فليكن نيلاً جامعاً


تحدثنا فى الحلقة السابقة من مقالنا عن الجذور التاريخية لأزمة مياه النيل وفى هذه الحلقة نواصل الكشف عن المقدمات التى نتجت عنها أزمة سد «النهضة».. ولننطلق من اجتماع وزراء المياه بدول حوض النيل الذى عقد فى الإسكندرية.

«كانت القلوب والأنظار تتجه إلى شرم الشيخ حيث مقر انعقاد اجتماع وزراء مياه دول حوض النيل».. هذه العبارة كانت تلخص حال قطاع كبير من المصريين فى يوم الثلاثاء 13 من أبريل من عام 2010، حيث فوجىء المصريون أثناء انعقاد اجتماع وزراء مياه دول حوض النيل بالإسكندرية فى صيف عام 2009 أن «نهر النيل» شريان حياتهم فى خطر، بسبب رفض دول منابع النيل تضمين بنود الأمن المائى – والذى يعنى النص صراحة فى الاتفاقية على حصة مصر السنوية من مياه النيل – والإخطار – الذى ينص على ألا تقيم أى من دول الحوض مشروعاً مائياً إلابعد إخطار الدول الآخرى- والإجماع – الذى يعنى أن تكون القرارات داخل تجمع دول حوض النيل بالإجماع وليس بالإغلبية - ضمن الاتفاقية الإطارية لمياه النيل، هى البنود التى تضمن عدم المساس بحصة مصر من مياه النيل .

وهكذا تحول ملف «مياه النيل» من قضية تناقش فى المؤسسات السيادية المصرية وعلى صفحات الكتب المتخصصة إلى «قضية رأى عام» بكل ما تحمله العبارة من معان، تصدرت متابعات ملف مياه النيل الصفحات الأولى للصحف الصادرة فى مصر سواء الصحف المملوكة للدولة أو الصحف الحزبية أو الخاصة... وإن تباينت معالجة هذه القضية من صحيفة لأخرى... ولكنها اتفقت على أن هناك مشكلة فى ملف «مياه النيل».

وكان المشهد فى شرم الشيخ صبيحة يوم انعقاد اجتماع وزراء مياه دول حوض النيل يوحى بأن هناك ترقباً لنتائج هذا الاجتماع المهم الذى سينتج عنه إما توقيع دول حوض النيل مجتمعة على الاتفاقية الإطارية وتضمينها البنود التى تحفظ الحقوق التاريخية لدولتى المصب – مصر والسودان – فى مياه النيل، أو رفض دول المنابع لإدراجها .

وبدأ الاجتماع فى تمام الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الثلاثاء 13 أبريل من عام 2010 فى فندق «مارتيم جولى فيل»- المملوك لرجل الأعمال حسين سالم الذى كان مقرباً من الرئيس الأسبق حسنى مبارك الذى ــ وللمفارقة كان الرئيس الأسبق يمتلك قصراً يقع فى نطاق هذا الفندق ــ وذلك وسط تواجد مكثف لأعضاء الأجهزة السيادية بهدف تأمين الاجتماع... وكنت هناك شاهداً على ذلك بصفتى صحفياً أقوم بتغطية الاجتماع .

واستمرت المفاوضات بين وزراء مياه دول حوض النيل حول الاتفاقية الإطارية وموقف مصر والسودان منها، على مدى مايقرب من 17 ساعة تخللتها تناول وزراء دول الحوض لوجبة الغداء لمدة لاتزيد عن ساعة تقريباً.

بيان الفجر

مع حلول فجر اليوم التالى كان أغلب مندوبى وسائل الإعلام – بلغ عددهم نحو 100 إعلامى يمثلون الصحف ووكالات الأنباء والقنوات المصرية والعربية والعالمية - قد استسلموا للنوم على المقاعد فى الاستراحة المخصصة لهم، حينها أصدرت دول منابع النيل السبع وهى «إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندى والكونغو الديمقراطية»، بياناً رسمياً يمكن أن نطلق عليه «بيان الفجر» جاء فيه: «أن الدول الموقعة على هذا البيان ستبدأ فى 14 مايو من عام 2010 إجراءات التوقيع على الاتفاقية الإطارية منفردة دون مصر والسودان على ألاَّ تزيد مدة هذا التوقيع عن عام واحد» .

وكان هذا البيان بمثابة إعلان لفشل اجتماع وزراء مياه دول حوض النيل فى التوصل إلى صيغة «توافقية» تحفظ حقوق مصر والسودان فى مياه النيل، حيث أصرت دول المنابع على عدم إدراج البنود الثلاثة – الأمن المائى والإخطار والإجماع – التى تطالب به مصر والسودان ضمن الاتفاقية الإطارية لمياه النيل .

وفى أعقاب صدور بيان دول منابع النيل، قام الوفد المصرى المشارك فى اجتماع وزراء مياه دول حوض النيل الذى كان يرأسه وزير الموارد المائية والرى بمغادرة مقر انعقاد الاجتماع خلسة، لم يتبق من الوفد المصرى فى مقر انعقاد المؤتمر سوى السفير رضا بيبرس الذى كان يشغل حينها منصب نائب وزير الخارجية لشئون دول حوض النيل الذى قال لوسائل الإعلام وقتها: «إن مصر والسودان تقدمتا بمبادرة جديدة من أجل الحفاظ على دول حوض النيل وتهدف هذه المبادرة إلى إنشاء مفوضية لدول حوض النيل.. ولكن هذه المبادرة لم تلق قبولاً حتى الآن من دول منابع النيل» .

اتفاقية عنتيبى

حاول السودان إثناء دول منابع النيل عن توقيع الاتفاقية الإطارية لمياه النيل منفردة ودون موافقة مصر والسودان، حيث اقترح السودان على دول المنابع منح دول الحوض ستة أشهر إضافية للتفاوض حول النقاط الخلافية المتعلقة بالاتفاقية الإطارية.. ولكن دول منابع النيل لم تستجب للمبادرة السودانية الداعية لاستمرار التفاوض بين دول حوض النيل للتوصل إلى صيغة ترضى جميع الأطراف، ووقعت أربع منها وهى «إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا» على الاتفاقية الإطارية لمياه النيل – دون موافقة مصر والسودان- فى مدينة «عنتيبى الأوغندية» فى 14 مايو من عام 2010، فى الأسبوع التالى لتوقيع هذه الدول «وقعت» كينيا على الاتفاقية، ثم تبعتها «بوروندى» ووقعت على الاتفاقية فى 1مارس من عام 2011، ثم أعلنت دولة جنوب السودان بعد حصولها على استقلالها عن السودان أنها ستوقع على الاتفاقية الإطارية لمياه النيل، ولم يوقع «الكونغو الديمقراطية» حتى الآن على الاتفاقية لظروف لم يتم الإعلان عنها، وإن كان يتفق مع دول المنابع على ضرورة أن تحل هذه «الاتفاقية» محل «الاتفاقيات التاريخية» لمياه النيل، أما إريتريا – دولة المنبع – التى تتمتع بصفة المراقب فى مبادرة حوض النيل فلم تعلق على توقيع أغلب دول المنابع على الاتفاقية الإطارية لمياه النيل بشكل منفرد وإن كانت إريتريا تدعم حقوق مصر والسودان فى مياه النيل، فإن إسهامها فى مياه النيل محدود كما أن وزنها النسبى بين دول المنابع التى وقَّعت ضعيف، وبالتالى فإن الدول التى وقعت على الاتفاقية هى الدول المؤثرة وبالتالى نستطيع أن نطلق عليها مصطلح «دول المنابع» عند الحديث عن توقيعها على الاتفاقية وإن لم تضم الكونغو الديمقراطية وأريتريا للأسباب التى ذكرناها عاليه.

مياه النيل فى خطر!

لعل السؤال الأهم والأخطر الذى يتردد فى عقول من يتابعون تطورات توقيع دول منابع النيل هو: هل لتوقيع دول المنابع على الاتفاقية الإطارية لمياه النيل أى تأثيرات سلبية على حصة مصر من مياه النيل؟... والإجابة للأسف هى بنعم، فتوقيع دول المنابع على هذه الاتفاقية سيحرم مصر مثلاً وبصفة مبدئية من 10 مليارات متر مكعب سنوياً من حصتها فى مياه النيل و التى تقدر بنحو 55.5 مليار متر مكعب سنوياً.

والأخطر من ذلك هو أن دول المنابع بتوقيعها على الاتفاقية الإطارية لمياه النيل ستمحو كل الاتفاقيات التاريخية التى تنظم توزيع حصص مياه النيل، سوف تقوم بإعادة توزيع هذه الحصص فيما بينها حتى وإن كان هذا التوزيع الجديد سيتسبب فى تضرر مصر والسودان، فضلاً عن أن هذه الاتفاقية الجديدة ستدفع دول المنابع لإنشاء مشروعات السدود على مجرى نهر النيل دون إخطار مصر والسودان وهو الأمر الذى كان معمولاً به قبل توقيع الاتفاقية الإطارية، وهو بالفعل ماقامت به إثيوبيا عند شروعها فى بناء سد النهضة دون إخطار مصر والسودان.

سد النهضة الإثيوبى

منذ فجر التاريخ كانت مشكلة الرى ومواجهة فيضان النيل ــ صعوداً أو هبوطاً ــ تشغل أذهان المصريين، فـ «مينا» الذى حكم مصر قبل الميلاد، أقام سداً لحماية المنطقة الغربية، كما أقام حكام الأسرة الثانية عشرة الفرعونية سداً، واستخدموا بحيرة قارون لتخزين المياه والاستفادة بها فى أوقات الجفاف وقد تطورت فنون الرى على أيدى المصريين لتصبح هناك مدرسة عملاقة تعرف باسم «مدرسة الرى المصرية».

وأنشئت عشرات المشروعات المائية على مجرى النيل، سواء فى مصر أو فى السودان، حتى فى بعض دول المنابع التى أقامت على مجرى نهر النيل عدداً من المشروعات المائية بموافقة مصر والسودان، بعد أن ثبت أن هذه المشروعات لا تؤثر بالسلب فى حصتيهما من مياه النيل.. جاء بدء إثيوبيا فى بناء سد النهضة على مجرى النيل الأزرق الذى يمد مصر والسودان بأغلب احتياجاتهما من مياه النيل ليفتح الباب واسعاً للتساؤل عن مدى تأثير إنشاء السدود فى دول منابع النيل على حصة مصر والسودان من مياه النيل ؟... وهل من الممكن أن تتحول المشروعات المائية على مجرى النيل إلى بذور للشقاق و البغضاء والتناحر بين دول حوض النيل ؟!.. كل هذه التساؤلات سأحاول الإجابة عنها فى السطور التالية..

المشروعات المائية على نيل مصر

عرف المصريون منذ بداية توطنهم حول نهر النيل فن التعامل مع هذا النهر العظيم، فمن المؤكد تاريخياً أن نبى الله يوسف - عليه السلام- قد استخدم مقياساً لمعرفة مقدار الزيادة والنقصان فى فيضان النيل، كان هذا المقياس عبارة عن عمود قائم وسط بركة على شاطئ النيل ويدخلها الماء عندما يزداد وكان أقل مايكفى حاجة أهل مصر وقتها من مياه النيل أن يزيد على أربعة عشر ذراعاً، فإذا ارتفع إلى ستة عشر ذراعاً زرعوا فوق حاجتهم .

ومع فتح العرب لمصر، أنشأ الصحابى الجليل «عمرو بن العاص» مقياساً للنيل فى حلوان، ثم قام بعد ذلك بإنشاء مقياسين آخرين بأسوان ودندرة، فى عهد الخليفة الأموى «معاوية بن أبى سفيان» تم بناء مقياس آخر فى أرمنت وبعد ذلك قام عبدالعزيز بن مروان ببناء مقياس آخر فى أسوان عام 699م .

وبعد ذلك تم إنشاء مقياس على الجهة الجنوبية من جزيرة الروضة – تقع الآن بحى المنيل بالقاهرة -، قام بإنشائه والى مصر «أسامة بن زيد التنوخى» فى عام 715 م ولكن جرفته مياه النيل وذلك فى عهد الخليفة الأموى «سليمان بن عبدالملك بن مروان»، فى عهد الخليفة العباسى «المتوكل على الله» تم البدء فى إنشاء مقياس جديد للنيل وذلك وفى عام 861 م .

وكان نظام رى الأراضى فى مصر حتى بداية القرن التاسع عشر يعتمد على الأحواض أو مايعرف بـ «رى الحياض»، بعدها تم إنشاء الرياحات – القنوات المائية الكبيرة – ثم إنشاء القناطر على فروع النيل المختلفة.

وكان الهدف من إنشاء القناطر هو رفع مياه الرى أمام الترع الرئيسية لتوفير المياه للأراضى المزروعة بالمحاصيل المختلفة، وأهمها القناطر الخيرية التى تعتبر أول مشروع مائى كبير يقام على نهر النيل، بدأه محمد على باشا حاكم مصر الأسبق فى عام 1833، بعد توقف المشروع لفترة وضع محمد على حجر الأساس للمشروع عام 1847.

وتطور فن التعامل مع مياه النيل بإنشاء خزان أسوان الذى صممه مهندس الرى الإنجليزى «وليام ولكوكس» ليسجل وقتها أعظم توسع فى نظام الرى الموسمى فى مصر، تم بناء الخزان فى عام 1902 بسعة تبلغ نحو مليار متر مكعب، وتمت تعليته مرتين الأولى عام 1912 أما الثانية فتمت فى عام 1933، وبعد تعليته أصبح يسع نحو 5.2 مليار متر مكعب.

ومع الوقت تجاوزت حاجات مصر المائية طاقة خزان أسوان القديم، حيث أصبح -وبحسب المهندسين القائمين عليه -غير قادر على الوفاء باحتياجات الزراعة فى مصر لأكثر من عام، مما يجعل كل ثروة مصر الزراعية تحت رحمة الفيضان المتقلب من عام لآخر، بالإضافة إلى وجود ضرورة ملحة للتوسع الزراعى بعد زيادة عدد السكان مع ثبات مساحة الأراضى الزراعية.

وللخروج من هذا المأزق، لم يكن أمام قيادة ثورة يوليو1952 الوليدة سوى خيارين.. الأول: يتمثل فى إنشاء مجموعة من السدود على طول مجرى نهر النيل، وتكون بحيرة فيكتوريا هى خزان التحكم فى هذا النظام... أما الخيار الثانى فيتمثل فى إنشاء سد ضخم داخل الأراضى المصرية يمكن من خلاله ضبط النهر والاستفادة من مياهه طوال العام .

وتم رفض الخيار الأول، لأنه يخضع مياه نهر النيل وبالتالى حياة مصر – لأن مصر هى النيل – لبريطانيا التى كانت تحتل أوغندا- آنذاك- ومن ثم تسيطر على بحيرة فيكتوريا لدرجة أن أحد خبراء الرى البريطانيين قال ذات مرة: «إن بحيرة فيكتوريا هى مفتاح مصر وإن من يسيطر على البحيرة يمسك بمصائر مصر فى قبضته».

وبالتالى كان مشروع السد الضخم هو الخيار الأول والأخير أمام حكومة ثورة يوليو التى تبنت هذا المشروع واعتبرته مشروعاً قومياً لمصر.. بدأ العمل فى بناء السد العالى بعد معارك سياسية ودبلوماسية ودحر العدوان الثلاثى عام 1956.

وفى عام 1954 بدأت شركة (هوشتيف ودورتمند) الألمانية دراسة جدوى إنشاء هذا السد، وبعد عامين من الدراسة تقدمت الشركة بمشروع لبناء سد يمكنه أن يختزن نحو 130 ألف مليون متر مكعب من المياه مما يتجاوز طاقة خزان أسوان القديم بنحو ست وعشرين مرة .

وقدرت الشركة الألمانية تكاليف إنشاء السد وكل المشروعات الملحقة به بنحو 415 مليون جنيه إسترلينى، وقدرت الشركة أرباح هذا المشروع حال تنفيذه بنحو 255 مليون جنيه إسترلينى سنوياً بمعنى أن تكاليف إنشاء السد يمكن جنيها خلال عامين فقط.

ثم تقدمت مصر بعد ذلك بطلب للبنك الدولى للحصول على منحة لبناء السد، وفعلاً بدأ البنك فى دراسة القدرة الاقتصادية لمصر والجدوى الاقتصادية للمشروع، ولكى تثبت مصر جديتها لتنفيذ بناء السد اعتمدت الحكومة المصرية فى يونيو من عام 1955 مبلغاً قدره 8 ملايين دولار للقيام بالأعمال التمهيدية فى مشروع السد وبدأت فى بناء الطرق وخطوط السكك الحديدية ومساكن العاملين فى المنطقة التى تم اختيارها لبناء السد .

وفى أغسطس من نفس العام، أصدر البنك الدولى تقريراً مبدئياً أشاد فيه بالاقتصاد المصرى وقدرته على تنفيذ المشروع، تم التجهيز لفتح مناقصة أمام الشركات العالمية للتقدم بعروضها لتنفيذ السد .

وفى سبتمبر من عام 1955 أعلن الرئيس جمال عبدالناصر عن توقيع مصر اتفاقاً مع الاتحاد السوفييتى تم بمقتضاه اعتبار السوفييت الجهة الوحيدة لتسليح الجيش المصرى بعد مماطلة دول الغرب فى تسليح مصر .

ورغم أن إعلان عبدالناصر كان صادماً للدول الغربية، فإن الولايات المتحدة أعلنت فى أكتوبر من عام 1955 عن استعدادها لمعاونة مصر فى بناء السد العالى، بعدها سافر وزير المالية المصرى -آنذاك- الدكتور عبدالمنعم القيسونى إلى واشنطن واجتمع مع مسئولى البنك الدولى والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وخلص الاجتماع إلى تقدم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بعرض مشترك بقيمة 70 مليون دولار للمرحلة الأولى من بناء مشروع السد المصرى، فضلاً عن مساهمة البنك الدولى بنحو 200 مليون دولار فى المشروع وتم الاتفاق على أن يتم الانتهاء من المرحلة الأولى من مشروع السد خلال خمسة أعوام، وخلال المرحلة الثانية التى كان مخططاً لها لمدة عشرة أعوام تم الاتفاق على زيادة مساهمة كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لتصل إلى 100 مليون دولار .

وبعد عدة أشهر من الاتفاق بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبموافقة البنك الدولى على خطة العمل بمشروع السد، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية على لسان وزير خارجيتها «جون فوستر دالاس» فى 19 يوليو من عام 1956 سحب عرضها لتمويل بناء السد المصرى بحجة أن اقتصاد مصر لايتحمل مثل هذا المشروع.

وبعد سحب الولايات المتحدة الأمريكية لعرضها بتمويل مشروع السد، ردت الحكومة المصرية بتأميم شركة قناة السويس وتحديداً فى 20 يوليو من عام 1956، الذى مثل تأميمها ضربة قوية للقوى الاستعمارية ووفرت لمصر مصدراً مهماً لتمويل السد العالى، فى محاولة من القوى الاستعمارية لوقف مصر عن بناء سدها العظيم هاجمت القوى الاستعمارية مصر فيما عرف بالعدوان الثلاثى والتى خرجت منه مصر منتصرة وأكثر إصراراً على بناء السد.

وفى 27 ديسمبر من عام 1958 وقعت مصر والاتحاد السوفييتى على الاتفاقية التى تعهد فيها السوفييت بتقديم المساعدات الاقتصادية والفنية لمصر لبناء السد العالى .

وفى 9 يناير من عام 1960 قام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بافتتاح العمل فى المشروع، وفى 15 مايو من عام 1964 تم الاحتفال بتحويل مجرى النيل ومرور المياه فى قناة التحويل فى البرالشرقى للنيل.

وفى أكتوبر من عام 1967 بدأ تشغيل الوحدات الثلاث الأولى لتوليد الكهرباء بمحطة كهرباء السد والخط الناقل للكهرباء إلى القاهرة .

وفى 15 يناير من عام 1971 افتتح الرئيس الراحل محمد أنور السادات مشروع السد العالى بعد الانتهاء من تنفيذه بالكامل بسعة تخزينية تصل إلى 164 مليار متر مكعب، وبلغت تكاليف إنشاء المشروع نحو 450 مليون جنيه فى حين بلغت المكاسب التى يحققها السد سنوياً نحو 255 مليون جنيه.

وكانت للسد العالى فوائد كبيرة وجليلة منها: إنه نظم إيقاع نهر النيل وحوله إلى قناة رى ضخمة أمدت الزراعة فى مصر باحتياجاتها من المياه، كما أنه أوقف المياه التى كانت تذهب هدراً إلى البحر الأبيض المتوسط، كما حمى مصر من مخاطر الفيضانات المرتفعة والمنخفضة وظهرت أهمية السد فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى، حيث حمى مخزون السد من المياه الزراعية وفى مصر، فى حالة عدم وجود هذا المخزون لكانت مصر قد فقدت مساحات كبيرة من أراضيها الزراعية وتعرضت للمجاعات ولتأثرت سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فضلاً عن إمداده لمصر بالطاقة الكهربائية .

... هذا عن فوائد السد وبالطبع، لكل مشروع عيوبه ومنها السد العالى، لكن عيوبه لاتقارن بالأساس بفوائده.. فعيوبه محدودة ويمكن تداركها ومنها أنه أعاق المسار الطبيعى لنهر النيل وغير من توازناته بطريقة تحتم على الإنسان المصرى أن يتعايش معها، بالإضافة إلى نحر مجرى النهر وفقدان الطمى، فضلاً عن تهجير أهالى النوبة والذين وإن هجروا إلى مناطق أفضل فى كوم أمبو لكنهم ما زالوا يحنون إلى موطنهم فى النوبة .

وبالتالى ففوائد السد العالى تجب وتمحو أى سلبيات.

المشروعات المائية فى السودان

على مجرى النيل بالسودان، أقيمت عدة مشروعات مائية بهدف توفير المياه لزراعة الأراضى السودانية، كل هذه المشروعات تمت بالتوافق بين مصر والسودان قبل وبعد الاستقلال، وذلك فى إطار استغلال السودان لحصته السنوية من مياه النيل والتى تقدر بنحو 18.5 مليار متر مكعب.. وهذه المشروعات هى:

1- خزان سنار:

تم إنشاؤه فى عام 1925 وبلغت سعته التخزينية نحو 600 مليون متر مكعب، نتجت عن هذا الخزان زيادة فى المساحة المزروعة بمحصول القطن فى السودان وصلت إلى نحو مليون فدان فى عام 1955 .

2- خزان جبل الأولياء:

تم إنشاؤه فى عام 1937 على النيل الأبيض وعلى نفقة الحكومة المصرية بهدف سد جزء من احتياجات مصر من المياه خلال فترة فصل الجفاف .

ويقع هذا الخزان على بعد نحو 44 كيلو متراً جنوب العاصمة السودانية «الخرطوم»، وسعته التخزينية تبلغ نحو 3.5 مليار متر مكعب، وظلت مصر تشرف عليه منذ بدء العمل به عام 1937 وحتى عام 1977، بعد إنشاء السد العالى قلت أهميته بالنسبة لمصر فتركته للسودان ليستفيد به، وهو يعمل حتى الآن على رفع مناسيب المياه لرى مشروعات النيل الأبيض الزراعية، فضلاً عن تنظيمه لفيضان النيل .

وتجرى الحكومة السودانية حالياً دراسة جدوى حول استمرار وجود خزان جبل الأولياء من عدمه، وفى حالة ثبوت عدم جدواه سيتم إزالة الخزان وإعادة الأرض التى غمرتها بحيرته إلى أهالى المنطقة .

3- سد خشم القربة:

أقيم هذا السد على نهر العطبرة فى عام 1964، كان يهدف إلى توفير المياه للزراعة والشرب، تكونت عنه بحيرة يصل طولها إلى نحو 80 كيلو متراً إلى الجنوب منه وسعتها 10.3 مليار متر مكعب.

4- سد الروصيرص:

يقع سد الروصيرص على النيل الأزرق عند شلالات الدمازين، بدأت الدراسات الخاصة لإنشائه عام 1952 وفى عام 1955 تم تصميم سد الروصيرص على أن يتم تنفيذه على مرحلتين بهدف توفير المياه لرى الأراضى الزراعية وتوليد الطاقة الكهرومائية، بدأ تنفيذ المرحلة الأولى عام 1961 وتم الانتهاء منها فى عام 1966 .

وبلغت سعة تخزين السد فى مرحلته الأولى نحو 3 مليارات متر مكعب، وبلغ حجم توليد الطاقة الكهرومائية نحو 280 ميجاوات سنوياً .

وفى عام 2008 بدأت عملية تعلية خزان الروصيرص بهدف زيادة توليد الكهرباء بنسبة 40%، كذلك تم رفع السعة التخزينية لبحيرة السد من 3 مليارات متر مكعب إلى 7.4 مليار متر مكعب مما أدى إلى توفير احتياجات الأراضى المزروعة على النيل الأزرق من المياه طوال العام، تم الافتتاح الرسمى لتعلية السد فى 1 يناير من عام 2013 .

5 - سد مروى:

بدأت الحكومة المصرية فى عام 1946 أثناء فترة الحكم الثنائى لكل من مصر وبريطانيا للسودان تفكر فى إنشاء خزان جديد فى السودان لتأمين احتياجات مصر المائية، بالفعل بدأت بعمل دراسات عن أنسب موقع لإنشاء الخزان وتوصلت هذه الدراسة إلى أن أفضل موقع لبناء هذا الخزان هو فى جزيرة مروى على الشلال الرابع، حيث يمكنه حجز المياه حتى مستوى 298 متراً، بالتالى يحمى مصر من مخاطر الفيضانات ويؤمن احتياجاتها المائية ولكن مصر تراجعت عن إقامة هذا الخزان حتى لايكون فى قبضة البريطانيين .

وبعد استقلال السودان قامت الحكومات المتعاقبة بعمل دراسات جدوى لإنشاء هذا السد، وبالفعل ثبتت جدواه، تم إسناد إنشاء مشروع سد مروى إلى تحالف من الشركات الصينية. واعتبر السودان هذا السد مشروعاً قومياً بل و«فتحاً مبيناً»، تم تمويل تكلفة إنشائه التى بلغت نحو مليار دولار بدعم من الإمارات والسعودية والكويت وقطر وسلطنة عمان، تم الافتتاح الرسمى لهذا السد فى 3 مارس من عام 2009 .

من أين ينبع النيل؟

وقبل أن نتطرق لموضوع المشروعات المائية فى دول المنابع.. ينبغى أن نجيب عن تساؤل هو من أين ينبع النيل ؟.. وهى الإجابة التى من الممكن أن تساعدنا على فهم أزمة «سد النهضة». فالنيل ينبع من منبعين هما: «الهضبة الاستوائية » و«الهضبة الإثيوبية» اللذان يختلفان فى نظام أمطارهما، فمياه منابع «الهضبة الاستوائية» تتميز بأنها مستمرة طوال العام، أما مياه «الهضبة الإثيوبية» فهى ناتجة عن الأمطار الموسمية الصيفية.

منابع الهضبة الاستوائية

وتتكون المنابع الاستوائية والتى تمد نهر النيل بالمياه على مدار العام من عدة بحيرات أهمها:

1- بحيرة فيكتوريا

وهى ثانى أكبر بحيرة للمياه العذبة فى العالم، والأكبر فى أفريقيا وتبلغ مساحتها نحو 69 ألف كيلو متر مربع، تقع على ارتفاع يقدر بنحو 1134 متراً فوق سطح البحر، يبلغ متوسط عمقها نحو 40 متراً.

وتطل البحيرة على ثلاث دول هى أوغندا وكينيا وتنزانيا،، ويعد نهر كاجيرا هو أهم مصادر إمدادها بالمياه.. بالإضافة إلى بحيرات كيوجا وألبرت وإدوارد وجورج .

منابع الهضبة الإثيوبية

وينبع من هضبة إثيوبيا ثلاثة أنهار رئيسية تمد نهر النيل بالمياه وكلها أنهار موسمية بامتياز، حيث تسقط الأمطار فوق الهضبة الإثيوبية فيما بين شهرى يونيو وأكتوبر من كل عام وتصل إلى ذروتها فى شهرى يوليو وأغسطس، وتختلف الروافد الثلاثة الرئيسية وهى النيل الأزرق والعطبرة والسوباط فيما بينها من ناحية منابعها وطريقة جريانها.

المشروعات المائية فى أوغندا

أقامت أوغندا مشروعين مائيين بهدف توليد الطاقة الكهربائية، تم إنشاؤهما بالتوافق بين مصر وأوغندا وهما:

سد أوين:

أقيم هذا السد على مخرج بحيرة فيكتوريا بمدينة جنجا الأوغندية بناء على اتفاقية عام 1949، وبموجب هذه الاتفاقية تم إنشاء الخزان فى عام 1954 والذى أطلق عليه اسم «سد أوين»، ذلك بهدف تخزين المياه لصالح مصر و توليد الطاقة الكهربائية لصالح أوغندا.

ويبلغ طول السد نحو 762 متراً وارتفاعه 30 متراً، تتكون محطة توليد الطاقة الكهرومائية الملحقة بالسد من عشرة توربينات تقدر طاقتها الحالية بنحو 180 ميجاوات .

سد كيرا:

اتفقت كل من مصر وأوغندا على إنشاء هذا السد ليكون امتداداً لسد أوين وذلك بهدف زيادة كميات الطاقة الكهربائية المولدة فى أوغندا، وتصل كميات الطاقة الكهربائية التى ينتجها هذا السد إلى نحو 200 ميجاوات، وتم افتتاح هذا السد بشكل رسمى فى 19 مايو من عام 2000 .

جونجلى.. الحلم المعطل

تنفيذ مشروع قناة جونجلى كان حلماً يراود كل من فكر فى وقف إهدار مياه النيل فى مستنقعات جنوب السودان أو توفير كميات مياه إضافية لمصر والسودان، وقد بدأ تنفيذه بالفعل فى يونيو من عام 1978، لكن سرعان ما توقف العمل به مع نشوب الحرب فى جنوب السودان عام 1984، وكان مقرراً لهذا المشروع – حال تنفيذه – أن تنقل قناته نحو 25 مليون متر مكعب يومياً فى مرحلته الأولى، لتصل إلى 55 مليون متر مكعب يومياً فى مرحلتها الثانية تضيع هباءً بسبب التبخر والمستنقعات وكان سيتم تقسيمها بالتساوى بين مصر والسودان، فضلاً عن أن هذه القناة حال إنشائها كانت ستغير النمط الاقتصادى للمنطقة إلى الأفضل من خلال مجالات الزراعة وصيد الأسماك، وكانت ستتحول إلى مورد مهم يمد سكان المنطقة باحتياجاتهم من المياه.