رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من كنيسة القديسين إلى ماسبيرو والعدالة الانتقالية


الأوطان لا تبنى فقط بالتنمية والعدالة الاجتماعية وتوفير حياة معيشية كريمة للبشر، ولكنها تبنى أيضاً بالعدالة الانتقالية. وإذا كانت العدالة الاجتماعية تتحقق بتوفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التى ينادى بها الدستور وكل المواثيق الدولية مثل حق الصحة والتعليم والغذاء والسكن والعمل،

تمر اليوم الذكرى الأليمة لأحداث ماسبيرو فى التاسع من أكتوبر 2011 والذى راح ضحيتها شباب مصرى شارك فى ثورة يناير 2011 وكان حلمه العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. كان حلمه تحقيق دولة القانون والمواطنة والمساواة على أساس تكافؤ الفرص. كان حلمه فى مستقبل جديد لمصر ولأبنائه وأحفاده من بعده.

حادث مفجع أليم سقط من خلاله 24 شهيداً من شباب الثورة المخلصين منهم مينا دانيال الذى سقط هو وزملاؤه وماتوا دهسا بالسيارات المدرعة أمام مبنى التليفزيون المصرى رغم وجودهم فى مسيرة سلمية من أهالى شبرا تطالب بالتحقيق فى أحداث «كنيسة الماريناب» التى تم حرقها وإزالة قبابها فى مدينة إدفو بمحافظة أسوان فى صعيد مصر. وشاركت إحدى مذيعات التليفزيون المصرى فى إشعال الفتن والحرائق بادعائها أن أقباط مصر يهاجمون الجيش المصرى، والتى لم يتم محاسبتها حتى الآن.

ورغم مرور ثلاث سنوات لم تتم الكشف عن الجناة وتقديمهم للمحاكمة وتطبيق القانون لإعلاء دولة العدل والحق. وإذا رجعنا إلى 31 ديسمبر 2010، ليلة رأس السنة فى الإسكندرية، كان الحادث البشع: مذبحة كنيسة القديسين التى راح ضحيتها أكثر من عشرين مصرياً يحتفلون بأعياد السيد المسيح رسول المحبة والسلام والتسامح. ولم يتم أيضاً حتى الآن الكشف عن الجناة ومحاكمتهم أمام العدالة لتطبيق القانون وللقصاص العادل من المجرمين الحقيقيين.

وبعد حادثة ماسبيرو الآثمة توالت الأحداث والاعتداءات واختلطت دماء الشيخ عفت بدماء «مينا دانيال» ودماء كل شهداء الوطن فى أحداث محمد محمود، ومجلس الوزراء، وبور سعيد، وأحداث الاتحادية، وحرق الكنائس فى صعيد مصر بعد فض اعتصام رابعة. وحتى الآن تتوالى الجرائم ويزداد عنف الجماعات الإرهابية المتطرفة والمتشددة دينياً والمتاجرة بالدين والأوطان، وبالرغم من ذلك لم نجد دوائر متفرغة بعدد كاف لسرعة البت فى هذه القضايا. فالعدالة الناجزة يا سادة أساس استقرار المجتمع وأساس تخفيف الاحتقان الناتج عن عدم تطبيق القانون الرادع بحزم وسرعة. إن النار التى تملأ صدور أمهات الشهداء لن يطفئ لهيبها غير القصاص العادل. إن الاحتقان الموجود فى الشارع المصرى المملوء به صدور الشباب وأهالى الشهداء والمصابين يزداد يوماً بعد يوم، دون سرعة محاكمة القتلة المجرمين الذين شاركوا فى جرائم قتل الشهداء سواء بالتحريض أو بإصدار الأوامر أو بالمشاركة الفعلية بالاعتداء على الأنفس والأرواح، أو بالتواطؤ.

الأوطان لا تبنى فقط بالتنمية والعدالة الاجتماعية وتوفير حياة معيشية كريمة للبشر، ولكنها تبنى أيضاً بالعدالة الانتقالية. وإذا كانت العدالة الاجتماعية تتحقق بتوفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التى ينادى بها الدستور وكل المواثيق الدولية مثل حق الصحة والتعليم والغذاء والسكن والعمل، وإذا كانت الإرادة المتسقلة الوطنية لا تتحقق إلا بالتنمية الشاملة القائمة على الاكتفاء الذاتى الغذائى وتوجيه الصناعات لإشباع احتياجات الجماهير وتكامل الهيكل الإنتاجى الصناعى فذلك لا يكتمل إلا بتحقيق العدالة الانتقالية، والتى للأسف لم نرها حتى الآن بالرغم من وجود وزارة للعدالة الانتقالية منذ حكومة يونيو 2013.

وفى الأسبوعين الأخيرين نسمع كلاماً عن قوانين ستبدأ الوزارة فى وضعها ونسمع عن ملامح لتغليظ العقوبات بخصوص جرائم العنف التى يشهدها المجتمع منذ ثورة 30 يونيو وحتى الآن.

إن الإرادة السياسية للدولة بسرعة المحاسبة وتحقيق العدالة الانتقالية غائبة، فالنظام يتعامل وكأن ثورة لم تقم لمحاربة الفساد والاستبداد والإرهاب، ليس بالأمن فقط ولكن باجتثاث أساسه الاقتصادى والاجتماعى والثقافى. فحتى الآن لم يتم حل الأحزاب المتأسلمة التى تخلط الدين بالسياسة رغم وجود دستور ينص على عدم السماح بقيام أحزاب على أساس دينى أو لها ميليشيات مسلحة، وهو ما ينطبق على جميع الأحزاب الدينية الموجودة باختلاف مسمياتها «سلفية وجهادية وجماعة إسلامية وجميع الأحزاب التى خرجت من عباءة «الإخوان المسلمين» وتدعى الانشقاق عنها ونبذ العنف وغيرها من الأقاويل التى تدخل فى محاولة توزيع الأدوار بين هذه الأحزاب من أجل الرجوع مرة أخرى إلى الساحة السياسية لتحقيق مشروعهم الظلامى الرجعى الفاشى الدموى. حتى الآن تغيب الإرادة السياسية عن تفعيل أو تعديل أو إصدار قانون خاص بالإفساد السياسى والمسئولية السياسية عن الجرائم التى ارتكبت فى حق الوطن والشعب من رجال السلطة والمال بنظام المخلوع.

حتى الآن لم يتم مراجعة قانون التظاهر الذى اعترضت عليه القوى الوطنية على اختلاف تياراتها السياسية ليكون قانوناً لتنظيم التظاهر السلمى وليس لتجريم أو تقييد التظاهر كالقانون الحالى الذى صدر فى عهد حكومة الببلاوى. ويعتبر قانوناً مخالفاً للحقوق المنصوص عليها فى الدستور. وفى الوقت نفسه لا يتم تطبيق قانون العقوبات على المظاهرات التى تستخدم العنف مما يزيد من استفحال جرائم العنف وترويع الآمنين وسقوط المزيد من الشهداء من الجنود والمواطنين.

العدالة الاجتماعية والعدالة الانتقالية والحريات الديمقراطية أساس وضمان لاستقرار المجتمع فى هذه المرحلة الانتقالية