رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صفاء عبد المنعم تقرأ "الأحمر خلص" في  الأمسية القصصية لـ"منتدى أوراق" بـ"الدستور"

جانب من الحدث
جانب من الحدث

بدأت منذ قليل فعاليات منتدى "أوراق"  تحت عنوان "أمسية قصصية" بمؤسسة الدستور، بمشاركة المبدعون (سيد الوكيل، صفاء عبد المنعم، سمير فوزي، هناء متولي)، ويقدم الندوة الكاتب والناقد الدكتور يسري عبدالله متحدثًا عن النصوص، وإشكاليات القصة القصيرة وتحولاتها، والسردية الجديدة، وتنويعاتها اللانهائية، كما تطرح الندوة سؤالًا جماليًا حول مستقبل القصة القصيرة. 

 بدأت الأمسية بتقديم  للكاتب والناقد الأكاديمي الدكتور يسري  عبد الله، والذي أكد فيه على أنه لا يمكن التعاطي مع مشهد القصة القصيرة بوصفه كتلة صماء ثابتة، من جهة أو بوصفه مشهدا منغلقا على ذاته من جهة ثانية، وإنما ثمة تنويعات متعددة داخله، وانفتاحا على الفنون الأخرى في إطار التراسل بين الأنواع الأدبية المختلفة، ومن ثم جاءت قراءة الكاتبة القصصية صفاء عبد المنعم تحت عنوان "الأحمر خلص" وهي كالتالي:

الأحمر خلص 

فشلت جميع المحاولات في ضبط ميزانية البيت!

بداية من مصروف اليد الخاص بي، وأنتهاءً بثمن اللحم والخضار.

(لقد توفى جمال عبد الناصر في سبتمبر 1970، وأنا بالصف الخامس الإبتدائي)هكذا قلتُ للبنت الجميلة الواقفة إلي جواري في مترو الأنفاق.

رأيتها تشعر بتعب شديد، وهى تضع كمامة زرقاء على أنفها، كان الأرق بادياً في عينيها، همستُ في أذنها: أنتِ تعبانة؟

هزت رأسها إيجاباً: نعم.نظرتُ نحو الشاب الجالس بجوارنا، وقلتُ له: هى تعبانة، ممكن تقعدها.

قام واقفاً مخزولاً. مددتُ يدي، وأمسكتُ بيد الفتاة وأجلستها في هدوء، ثم وقفتُ أمامها، وأنا اربتُ فوق كتفها: ألف سلامة عليكِ. ثم سالتها: أنتِ نازلة فين؟

ضحكت بضعف شديد: نازلة جمال عبد الناصر.

عندما سمعتُ هذا الأسم ضحكتُ بنشوة طفلة تبلغ من العمر عشرة أعوام، وقلتُ لها: الله يرحم أيامه، أنا نازلة الأوبرا، ممكن أفضل معاكِ لو تعبانة.

وضعت يدها على فمها وقبلتها ثم أرسلتها لي، وهى تربت على يدي بحنو أبنة: شكراً يا طنط ربنا يخليكي.

نزلتُ في محطة رمسيس، وأنا أفكر بشدة، لماذا ذكرتُ لتلك البنت تاريخ وفاة عبد الناصر.

هى فهمت مغزى الجملة، ثم واصلتُ ضحكي معها: على فكرة زمان، كان ممكن الشاب يقوم ويقعدك من نفسه، من غير ما حد يطلب منه، لكن نقول إيه الدنيا أتغيرت، وقل خيرها.

ضحكت، وأهتز جسدها رغم ما بها من تعب.

ثم واصلتُ حواري معها: وكان ممكن تلاقي اللي يطبطب عليكِ.

وممكن يجيب لكِ دواء.

اهتز جسدها أكثر واكثر وهى تحاول السيطرة على ضحكها المتواصل، وكأنها تنفض عن جسدها التعب أو الألم.

قلتُ لها منتشية، وهى تواصل الضحك دون إنقطاع من خلف الكمامة الزرقاء الموضوعة على فمها.

أيوة، وكان ممكن تلاقي ناس كتير بتقول لكِ(ألف سلامة عليكِ يا بنتي).

ارتج جسدها بشكل كلي مع أهتزاز عربة المترو، وشعرت كأنها شفيت تماماً.

فتاة جميلة قد تخطت العشرين تقريباً، تجلس متعبة في عربة المترو بمفردها، وأنا أحاول جاهدة أن أصف لها هذا الزمان القديم، بكل سكره وحلاوته التي أراها تتجسد أمام عيني، واشرح لها فكرة التضامن الإجتماعي في تلكَ الفترة بشكل ساخر وعميق، بعدها نزلتُ من عربة المترو وأغلق الباب على وجهها المجهد، أشرتُ لها بيدي- مع السلامة- ظلت أبتسامتها المشرقة تلاحقني حتى أختفيت تماماً، وذهبتُ إلى المترو الآخر كي أغير خط السير من إتجاه حلوان إلى إتجاه المنيب، وأنا أشعرُ بعذوبة ونشوى، ركبتُ المترو الثاني، وعندما دخلتُ، رأيتُ أما تجلس وإلي جوارها طفلين.

قالت لواحد منهما: قوم أقف، وقعد طنط.

وقف الولد متزمراً.

ربتُ على كتفها وأنا أشكرها وأنظر نحو الولد المتزمر لأنه تركَ مكانه لي.

قالت لي بحنو وهى تنظر نحو أبنها الغاضب: لازم يتعلم يقف للكبير.

ضحكتُ، وشكرتها على حسن التربية، وانا أتذكر ملامح الشاب الآخر الذي كان يجلس، وأنا واقفة أمامه، ولم يترك مكانه إلا عندما طلبتُ منه أن يجلس مكانه البنت المتعبة.