رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وسط البلد الجديدة


بقدر اشمئزازى من هجوم الذباب الإلكترونى على المشروعات القومية الكبرى، بقدر ما أشعر بالرثاء تجاه من يرددون ترهات الإخوان وهم ليسوا منهم، أشعر بأن بعضهم يحتاج للفهم أكثر مما يحتاج للهجوم، موضوع العاصمة الإدارية مثلًا والادعاء بأنها بديل للقاهرة، هذا جهل فاضح ردده بعض الناس دون فهم أو دراية، مقولة تجمع بين الجهل، وثقل الظل أيضًا، حيث تم الادعاء بأن القاهرة أصبحت من الأقاليم.. بغض النظر عن حسن النوايا أو سوءها، فيمكننى أن أساهم بالشرح فى حدود ما أفهم، العاصمة الإدارية ليست بديلًا للقاهرة كمدينة تاريخية عظيمة ومترامية التاريخ والأطراف ومتعددة الحضارات، لكنها بديل للحى الحديث فيها أو حى «وسط البلد» الذى بناه خديو مصر إسماعيل، ليكون مركزًا للاقتصاد، والحكم فى مصر الحديثة، كان إسماعيل مهندسًا، درس الهندسة والعسكرية فى باريس، وحلم بأن تكون مصر مركزًا حضاريًا يسبق الجميع فى الشرق الأوسط، استدعى المهندس الذى خطط الجزء الحديث من باريس وعهد له بتخطيط مدينة حديثة تمتد من شاطئ النيل فى جاردن سيتى وتنتهى فى العتبة مرحليًا، ثم تمتد فيما بعدها فى شارع محمد على، خطط الفرنسى هوسمان منطقة وسط البلد، وأشرف على تنفيذها على باشا مبارك ابن الفقراء، الذى كان زميلًا لإسماعيل وإخوته فى البعثة الدراسية، خلال أربع سنوات تم بناء القاهرة الحديثة وتشمل ميادين التحرير والعتبة وشوارعها المشهورة حاليًا بأسماء طلعت حرب وقصر النيل وعبدالخالق ثروت...إلخ، استمر نمو المنطقة بعد رحيل إسماعيل بضغوط الدول الأجنبية، انتقل مقر الوزارات لمنطقة قصر العينى، وتحولت وسط البلد لمركز اقتصادى عالمى، فتحت آلاف الشركات العالمية مقارًا لها فى وسط البلد وتحولت القاهرة لمركز اقتصادى عالمى، جرت فى النهر مياه كثيرة، وتصاعدت تيارات التطرف والفاشية بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت إحدى نتائج ذلك الخلط بين الاستعمار الغربى، وبين الحضارة الغربية، تم التعامل مع الحضارة التى هى مشترك بين كل البشر وكأنها هى الاستعمار والنفوذ الأجنبى، وبين الاثنين فارق كبير، تم إحراق القاهرة، وقامت ثورة يوليو، وتغيرت طبيعة وسط البلد، وظيفيًا أولًا، ثم ديموجرافيًا ثانيًا، ثم وصلت لحالة من التردى تدفع للبكاء والحسرة، كما فعل بطل فيلم عمارة يعقوبيان على لسان عادل إمام، وكان ذلك نتاج عقود رفعت فيها الدولة شعار «دع كل شخص يفعل ما يشاء، متى يشاء، وكيف يشاء»، وبفعل عوامل الزمن، وزيادة السكان، وتغير طبيعة المنطقة، كان لا بد من حى جديد كبير أو مدينة جديدة تكون مقرًا للاقتصاد والوزارات، وتصلح كنقطة جذب لمقار الشركات العالمية فى الشرق الأوسط، وتجمع بين نشاط الاقتصاد وبين مبانٍ ذكية تصلح كمقار لوزارات مصر المختلفة التى كانت موجودة فى مبانٍ جميلة، لكنها لم تبن لهذا الغرض، ومعظمها قصور تم تأميمها ومنحها للوزارات، وكلها مضى على بنائها أكثر من قرن، وبالتالى فلا يجب النظر للعاصمة الإدارية والحكم عليها إلا فى إطار الدور الذى تطمح إليه، والفراغ الذى تطمح لشغله، ومدى الإضافة التى تقدمها لمقومات مصر وقدرتها على المنافسة الاقتصادية واستعادة الدور الذى سرق منها، ولا يكتمل الحكم من وجهة نظرى، إلا إذا قرأنا التاريخ وعرفنا أن جماعة متطرفة دينيًا، ذات مزاج ريفى، يسيطر عليها الجهل، والعداء للعالم مع طموح ساذج لحكمه، كانت سببًا رئيسيًا فى فقدان القاهرة القديمة دورها الاقتصادى، وإن ذات الجماعة، بجهلها وغبائها وتطرفها هى التى تهاجم العاصمة الإدارية بكل ما أوتيت من قوة الجهل، وطموح الخراب، وغشاوة البصيرة.. لعنة الله على هذه الجماعة الجهول.