رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قطوف رمضانية فى فضاء الإبداع

سقى الله أكناف الكنافة بالقطر... وجاد عليها سكرًا دائم الدر
وتبًا لأيام المخلل أنها تمر... بلا نفع وتحسب من عمري
بتلك الأبيات الطريفة عبر الشاعر أبوالحسين يحيى بن الجزار عن افتقاده الكنافة فى عصر المماليك 
أما أبوالهلال العسكري فقد تغنى في مدح القطائف:
كثيفة الحشو لكنها
رقيقة الجلد هوائية
رشت بماء الورد أعطافها
منشورة الطي ومطوية
جاءت من السكر فضية
وهى من الأدهان تبرية
لا شك أن  روعة كل وسائل التعبير الإبداعية  تتجلى في فتح فرص التعامل مع كل الخيارات المفتوحة المتاحة للمبدع الصادق الممتلك لأدواته الإبداعية لاختيار ما يوافق مشروعه الإبداعي الجديد ليبدأ عملية التجانس بين عناصر وتفاصيل مفردات البناء الفني لإنشاء وجود جديد لحلم تمنى أن يتعرف عليه المتلقي..
وفي حال الإبداع في مجال الروحانيات والمناسبات الدينية، يمثل الفن رؤية جمالية وبدائل لفساد الروح.. ومسألة الفن في تلك الحالة هي بحث روحي داخلي في مكنونات النفس البشرية والطبيعة والأشياء المحيطة، وهو ما يأخذ الفنان باتجاه المجهول والتقصي عن كل ما هو غامض.. 
ولعل من الطريف استهلال المقال بما كتب الشاعر الجميل مسعود شومان للتهنئة بقدوم الشهر المبارك "كل عام ومصر العظيمة بخير وعشاقها ينتظرون طلة هلالها الفرحان يدعونه ليبيت ليلته عندهم، يستقبلونه كقمر صغير واعد بالنمو، يمشي بينهم حاملًا فانوسه، مغتسلًا في مياه النيل، حاملًا الشموع إلى أضرحة الأولياء: (يا رمضان يا صحن نحاس/ يا داير في بلاد الناس/ سوقت عليك أبوالعباس/ لتبات عندنا الليلة - يا رمضان يا عود كبريت/ يا مخوف كل العفاريت/ سوقت عليك أهل البيت/ لتبات عندنا الليلة)، ومن بيت لبيت، ومن حارة لشارع، نراه يمشى ساهرًا في الحواري القديمة مؤتنسًا بأرواح الراحلين سائلًا الناس ما الذي سيتبقى مني؟"..
ولا شك أن  روح الفن توحد بين الروحي والحسي، حيث تبدو بصورة أكثر شفافية، فالفن يحرر من أسر الظرفين الزماني والمكاني.. والرسم هو تحول في الرؤية لتصبح رؤية مثالية، والفن أيضًا هو مجموعة من الأشواق الدفينة في قلقه وسره وجلاله كما هو انعتاق ولحظة سكينة، وهو تجاوز للإرادة نحو الرؤية للرغبة نحو التأمل.. ويظل الفنان هو أحد أهم عناصر الحالة الجمالية المغلفة برؤى فلسفية منتمية لمدارس شتى صوفية واقعية أو غيرها..
لا شك أن شهر "رمضان" الكريم يتميز بخصوصية روحانية كبيرة عند المسلمين، كون أغلب اليوم يقضيها المسلمون في "الصوم" والعبادات والتقرب إلى الله، ولكون الفن حاضرًا دائمًا في المشهد من خلال تفاعل الفنان بما يحيط به من قضايا واهتمامات ومواضيع دينية واجتماعية.. 
إن الروحانيات والمشاعر التي يقدمها الفنان في هذا الشهر الكريم تؤثر في المنتج الفني للفنان التشكيلي، فيعطي لتجربته الفنية طابعًا خاصًا، حيث يستمد الفنان التشكيلي  من وقائع ممارسات الناس في شهر رمضان المبارك عبق التراث والألوان، ليعكسها على لوحاته الفنية..
تُعد الفنون الشعبية التشكيلية في صدارة ما يمكن أن نطلق عليها "الماثورات الشعبية"، حيث كثافة وجمال وانتشار الممارسة، ولتمتعها بجذور تاريخية وأصالة تميزها عن فنون الحاضر أو حتى الماضي القريب، وذلك لتمتعها بذوق فطري جمالي خاص جدًا يعكس حياة الناس، وهي بمثابة مرآة وترديد بديع لعادات وتقاليد متوارثة، وكأنها باتت شارحة بوضوح وصدق ثقافة معينة تبرز معالم الشخصية الحضارية لكل مجتمع بكل خصوصياته الحية..
مع إبداعات الفنان "ابراهيم البريدي" أحد أهم محترفي إبداع اللوحة الشعبية التشكيلية، الذي استطاع أن يشكل لغة خاصة بخامات شعبية ليقدم للمتلقي تنويعات بديعة مبهجة تتسم ببساطة التكوين والخطوط الكاريكاتيرية والحس الشعبي الطيب المباشر.. يقول "البريدي" عبر حوار صحفي.. "حينما رأيت "الليلة الكبيرة" على مسرح العرائس بتصميمات الفنان الكبير "ناجي شاكر"، تخيلت قدرتي على معالجة الأوبريت عن طريق الرسم، وهو ما تحقق، فأنجزت رسومات قدرها أربعة أمتار في أربعة أمتار، مقسمة إلى مشاهد، كل منها مساحته متر في 70 سنتيمترًا، وهي تضم كل مشاهد الليلة الكبيرة، التي تبلغ 16 كادرًا غنائيًا من بينها الأراجوز، بياع الحمص، أم المطاهر، البمب وشجيع السيما". 
لم أجد من يستقبل معنا نسائم ونفحات وروحانيات الأيام الفضيلة الأولى من شهر رمضان المبارك للاحتفاء بها أروع وأهم من إبداعات فناننا المصري الكبير "علي دسوقي"، والذي تمثل أحياء القاهرة القديمة بالنسبة له المصدر الرئيسى لمفردات وعناضر أعماله، حيث ولد في حي الأزهر عام 1937، وعاش الأجواء والشعائر الدينية، ومظاهر العادات والتقاليد الشعبية..
يقول "دسوقي" إن الحارة المصرية تسكن  وجدانه، فقد عاش الطفولة الأولى في أحد أقدم الأحياء الشعبية في القاهرة وهو حي الأزهر في أجواء العمارة الإسلامية، وكانت تتوسط ميدان سيدنا الحسين نافورة كبيرة يحيط بها سور عريض له زخارف إسلامية مميزة يجلس حوله زواره ومريدوه من أهل المنطقة في الصيف للاستمتاع بالنسمات الباردة، ويطوف عليهم بائعو مشروب العرقسوس المثلج وحاملو المياه المعطرة في أكواب فضية لها زخارف بالغة الدقة، وأضاف أنه عاش روح الأسطورة والحواديت حيث كان حي الأزهر يزدحم بالذين يعيشون معًا في ارتباط شديد وفي الأحياء الشعبية كان الأطفال أكثر تحررًا، وتربطهم الألعاب الجماعية، وكانت رسوم الفنان الشعبي على الجدران في مواسم الحج تجذبه، وأيضًا تلك الزخارف التي يزين بها الباعة عربات الكشري والبطاطا والفول، ويلونونها برسوم شعبية جميلة تزخر بأشكال من المربعات والمثلثات والأحجبة بألوان متألقة من الأحمر والأصفر والأزرق، وتحمل الكثير من الموتيفات الشعبية مثل العين والنجمة والهلال والسمكة والكف، وهي ذاتها الموتيفات التي أصبحت علامات مضافة لأعماله فيما بعد
- وقال "إنه تأثر كثيرًا بالفن المصري القديم والرسوم الجدارية للمعابد الفرعونية وكذلك الأيقونات القبطية، إلا أن استفادته الأولى كانت من الحلول التجريدية للفن الإسلامي"..
لقد كانت بداية تفاعل الفنانين مع مظاهر رمضان مع قدوم المستشرقين والرحالة في العصور الوسطى، فلم يستطيعوا إغفال هذه المظاهر أو تجاهلها، فقاموا برصد تفاصيل عادات الناس في هذا الشهر، ومن ذلك العادات التى تبدأ عادة باستطلاع الهلال وتمتد لعيد الفطر ثم تتلاشى، وقد رصدت لوحاتهم بالتفصيل استطلاع الهلال والمسحراتي والصلاة وحلقات قراءة القرآن الكريم وزينة الشوارع والمساجد وفرحة الأطفال وأعمال الخير من إطعام وصدقات، والنور الذي يملأ الطرقات ليلًا تنشره الفوانيس الملونة حتى بزوغ الفجر، رصدوا كل هذا ووثقوه فى لوحاتهم الخالدة ليحفظوا لنا الماضي وينقلوه لنا..
ومن أمثلة التشكيل المصري البديع أيضًا الذي تطرق لرمضان، لوحة "المسحراتى للفنان محسن أبوالعزم" والتي تعكس تعلق الجميع بالمسحراتي في مصر كعادة ممتدة على مدى القرون، وما يبثه من بهجة وسعادة، كما تبرز أحوال البسطاء وهم ينتظرون رمضان من العام للعام انتظارًا لمصدر رزق موسمى ومهنة غالبًا ما تكون متوارثة أبًا عن جد، هذا ما تصفه لنا هذه اللوحة المعبرة إلى تجسد المسحراتى وهو ينظر إلى أعلى وكأنه يراك نائمًا، أو يرفع صوته لإيقاظك.. "اصحى يا نايم" لتتناول السحور وتصلي الفجر، ويتمتع بشفتين كبيرتين ربما من كثرة الصياح، ووجه ريفي أصيل قد أتى من هناك، والطفل بجانبه "حفيده" يشعرك بأنه أول أيام رمضان وربما أول يوم له كـ"مساعد مسحراتى".. حماسة شديدة وفرحة غامرة تملأ وجهه، بينما تأخـذك الخلـفـية لألوان الزينـة وأجـواء رمضان في الحارة المصرية البسيطة قديمًا وحديثًا..
وفي سباق إبداعي متميز نرى الفنان طاهر عبدالعظيم يعبّر عن روحانيات واحتفالات الشهر الكريم في إحدى لوحاته البديعة والتي يمثّل فيها إحدى حفلات التنّورة، حيث يرقص 2 من المؤدّين، يتوسطهما راقص التنورة في أداء متناغم، وكأن اللوحة تتحرك أمام عينيك في خضم سكونها..
العزف بالألوان وإيقاعاتها أهم ما يميز - دومًا - أعمال د. طاهر عبدالعظيم.. البطل الأول فيها هو راقص التنورة وتابلوهات حية من الاستعراضات الجماعية والفردية وما يصحبها من حركات دورانية سريعة في خطوات رشيقة متوهجة تفرز تموجات وانعكاسات لونية مبهرة يتعانق فيها بريق اللون والضوء مع نسيج الملابس الناعمة وهى تتطاير في خفة ونعومة على دقات الدفوف والإيقاعات الموسيقية والضوئية التى تتباين بين الخافض والساطع، الصاخب والهادئ.. فتفرز فيضًا من الجمال والتفرد. 
أما الفنان الرائد محمود سعيد باشا فكان يرسم بشكل مذهل نوعيات مختلفة في المجتمع المصري، وله في مجال الفلكلور المصري الشعبي الذي كان يلهمه بشدّة، فرسم لوحات الصيادين والمزارعين والرعاة وفتيات الإسكندرية اللواتي يتنزهن على الكورنيش وأضفى عليهن أناقة وجمالًا أبديين، ووضعهم جميعًا في وسط مناظر فرحة وساحرة تملؤها أشجار النخيل والمراكب الشراعية والحمير. كما صوّر نوادي الرقص والدراويش في حركاتهم الدوّامية والرجال في الجامع كما في المقهى وكورنيش الإسكندرية في جميع الفصول. يتميز عمله بحس عميق للتركيب وبالضوء الباهر الذي يسطع من المياه والسماء والأجساد - لا سيما أجساد النساء.