رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«بدرالدين».. و«كروان التلاوة»

١٠٠ سنة هجرية كاملة عاشها الشيخ محمد بن حسن بن محمد بدرالدين، فقد ولد عام ١٠٩٩، وتوفى عام ١١٩٩ هجرية. وهو واحد من أشهر مقرئى ومجودى القرآن الكريم فى القرن الثامن عشر فى مصر المحروسة. والمتأمل سيرته يتعجب من التشابهات الظاهرة بين سيرة حياته وسيرة حياة كروان التلاوة فى القرن العشرين الشيخ محمد رفعت، رحمة الله على القارئين الجليلين. 

يصف «الجبرتى» الشيخ بدرالدين فى كتابه «عجائب الآثار» بقوله: «هو الشيخ الإمام العارف المفنن المقرئ المجود الضابط الماهر المعروف بالمنير». هذه الأوصاف جميعها تمنحك مؤشرًا على أن «بدرالدين» تمتع بموهبة فريدة فى تلاوة وتجويد القرآن الكريم، اشتهر بها فى عصره، وأن هذه الموهبة كانت تعكس تفردًا فنيًا فى الأداء، وتميز صاحبها بقدرة خاصة على ضبط أحكام التلاوة، ومهارة استخدام القراءات السبع عند تجويد القرآن الكريم. ولد الشيخ «بدرالدين» بسمنود عام ١٠٩٩ هجرية وحفظ القرآن وبعض المتون وهو صغير، ثم وفد إلى القاهرة، وجوّد القرآن، وعمره عشرون عامًا، على يد الإمام المقرئ على بن محسن الرملى، وتفقه على جماعة من علماء الأزهر. والمتتبع سيرة الشيخ محمد رفعت يجد العديد من التشابهات بينه وبين الشيخ «بدرالدين» على هذا المستوى، فقد حفظ «رفعت» القرآن وهو صغير، وتلقى فى صباه دروسًا فى تفسير القرآن الكريم والقراءات السبع. وتعلم فن التجويد على يدى أستاذيه: الشيخ محمد البغدادى والشيخ السمالوطى. واللافت أن القارئين الجليلين كانا من الميالين إلى نظرية التلاوة بالمعنى. فقد تعلم «بدرالدين» علوم الحديث والتفسير، واستوعب كل منهما معانى الآيات القرآنية فى قلبه وعقله، وكان من السهل عليهما بعد ذلك أن ينقلا هذه المعانى إلى قلب المستمع، مرورًا بأذنه. فجماليات الصوت كانت حاضرة لدى الشيخين، وجوانب العبقرية والتفرد فى صوت «بدرالدين» سجلها «الجبرتى» كما ذكرنا، أما بالنسبة للشيخ رفعت، فقد عشناها، وما زلنا نعيشها، كلما استمعنا إلى تلاوات. وقد تمتع الاثنان علاوة على ذلك بتلك القدرة الخاصة على التعبير عن المعنى بالصوت، وتوظيف طبقاته وتلويناته فى تبيان المعانى الجليلة التى تحملها الآيات القرآنية الكريمة، والاستفادة من القراءات المتنوعة للقرآن الكريم فى خدمة المعنى. 

ابتلى الله تعالى الشيخين أيضًا بفقد البصر ورزقهما صفاء البصيرة ونورها. يذكر «الجبرتى» أن «بدرالدين» كُف بصره بعد أن مضى به العمر، والواضح أنه كان يعانى من ضعف القدرة على الإبصار منذ صغره، وتفاقم الأمر معه بمرور السنوات. والشيخ «رفعت» كما تعلم فقد بصره وهو صغير. الرواية الشائعة تقول إن ذلك حدث وهو بعمر السنتين، وهناك تسجيل لحوار أجراه الإعلامى الكبير عمر بطيشة مع النجل الأصغر للشيخ «الأستاذ حسين محمد رفعت» يذكر فيه رواية مختلفة، وفيها أن والده فقد بصره وهو فى سن تتراوح ما بين ٤ و٥ سنوات، ولو أنك عدت إلى الرواية التى يحكيها زوج ابنة الشيخ «عبده فراج» فى كتاب «أصوات من نور»، للكاتب «عبده فراج»، ستجد أنه يحكى أن الشيخ لم يفقد بصره كاملًا وهو طفل، ويقول فى ذلك: «هاجم المرض إحدى عينيه، ولكن الإهمال فى العلاج أثّر عليها، وعلى عينه الأخرى، فضعف بصره شيئًا فشيئًا، حتى فقدت إحداهما القدرة على الإبصار، وظلت الأخرى ضعيفة، إلا أنه كان يرى بها بعض الشىء، وظلت كذلك حتى عام ١٩٣٦. وبينما كان يقرأ سورة الكهف بمسجد سيدى جابر بمدينة الاسكندرية، إذ احتشد الناس بالمسجد على العادة، والتفوا حوله بعد صلاة الجمعة ليعانقوه ويقبلوه، وبينما هم كذلك، إذ حاول أحدهم أن يصل إليه، وسط التفاف الناس حوله، ليقبله، فطالت أصابع يده تلك العين عن غير قصد ففقأتها، وفقد بصره تمامًا بعدها». 

ثمة جانب آخر يجمع بين رحلة حياة الشيخين «بدرالدين» و«رفعت» فى عالم التلاوة، يتعلق بالتوجه الصوفى الذى غلب عليهما. فالشيخ «بدرالدين» كان من أتباع الطريقة الخلوتية، ولازم الشيخ شمس الدين الحفنى، أحد أقطاب هذه الطريقة، ولم ينتسب فى التصوف إلا إليه، كما يحكى «الجبرتى». والطريقة الخلوتية، كما يشير موقعها، من مدارس التزكية والتربية والسلوك إلى الله تعالى، وتعنى بالمرتبة الثالثة للإسلام، وهى مرتبة الإحسان، بعد التحقق من مرتبتى الإسلام والإيمان. أما منهج الطريقة فهو التطبيق العملى للشرع قولًا وعملًا وأخلاقًا، بإصلاح ظاهر السالك وباطنه. فى المقابل كان الشيخ «محمد رفعت» من أبناء الطريقة النقشبندية. يقول «عبده فراج»، زوج ابنة الشيخ، فى كتاب «أصوات من نور» إن الجماعة النقشبندية تعتقد فى مبدأ «الخلة»، أى الصداقة مع الله، وعدم التكلف معه، لكثرة انشغالهم بالتعبد والتقرب إليه، وهم يعتقدون أنه ليست هناك حواجز بينهم وبين الله، فهم المقربون أحباب الله سبحانه وتعالى. وفكرة المناجاة من الأفكار الصوفية الأساسية حين يناجى الإنسان ربه، ويبث له تعبه وحزنه، وفى الفكرة ملمح من الأداء التعبدى لنبى الله يعقوب، حين كان يشكو لربه: «إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون»، فحين تبلغ الحاجة بالإنسان إلى خالقه مداها، يعلم ألا ملجأ من الله إلا إليه.

ويقول الدكتور «محمد درنيقة» فى كتابه «الطريقة النقشبندية وأعلامها» إن هذه الطريقة تُنسب إلى الخليفة الراشدى الأول أبوبكر الصديق، رضى الله عنه، وفى رأى النقشبندية أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لقّن أبا بكر الذكر الخفى، وذلك فى الغار، إبان هجرتهما إلى المدينة، واستقت الطريقة بعد ذلك تعاليمها من الصحابى سلمان الفارسى، وعدد من الصالحين، وآخرهم محمد بهاء الدين الأويسى البخارى المعروف بشاه نقشبند، وقد اكتسبت الطريقة اسمها من اسمه. وهى كلمة مكونة من جزأين «نقش» وهو صورة الطابع إذا طبع به على شمع أو نحوه، و«بند» ومعناه بقاء من غير محو، فالكلمة تشير إلى تأثير ذكر الله فى القلب وانطباعه فيه. وسبحان من يصل بين القلوب المؤمنة والحناجر الربانية من عصر إلى عصر.