رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قارب شيحة.. والحشاشون

وصف «الجبرتى» أحد الطواعين الذى ضرب مصر بدءًا من عام ١٧٥٧ ميلادية «١١٧١ هجرية» بـ«قارب شيحة»، أو على نحو أدق قال إن المصريين أسموه هكذا، ويذكر أن ذلك العام بدأ بأمطار غزيرة بلغت حد السيول، ظهر بعدها الطاعون المسمى بـ«قارب شيحة الذى أخذ المليح والمليحة». وقد مات بسببه بعض الناس المعروفين وكثير من العوام، وامتد لمدة عام كامل حتى بدأ فى الانحسار بدءًا من العام الهجرى ١١٧٢. خلال جائحة كورونا استدعى الكثيرون وصف «قارب شيحة» وخلعوه على وباء كوفيد- ١٩، فى محاولة للربط بين الماضى والحاضر، وتحليل الطريقة الخاصة التى يتعامل بها المصريون مع الأحداث الكبرى بما هو معروف عنهم من ولع بالسخرية، حتى ولو كان من الأوبئة التى تفتك بالبشر، وتوازى مع هذا الاستدعاء قدر من الحيرة فى حكاية «شيحة» ولماذا أطلق المصريون على طاعون عام ١٧٥٧ اسم «قارب شيحة»، وهل لهذا الاسم أصل لديهم؟ لا بأس من محاولة الإجابة عن هذا السؤال، والمحاولة لا تعنى بحال الوصول إلى إجابة نهائية، لكنها مجرد اجتهاد. 

الناظر إلى ما ذكره «الجبرتى» يلاحظ أنه أشار بشكل واضح إلى أن «قارب شيحة» اسم أطلقه أولاد البلد على الطاعون، أو أفرزته القريحة الشعبية فى وصف الجائحة التى تأخذ المليح والمليحة، دون أن تفرق بين رجل وامرأة، أو غنى وفقير، أو ريفى وابن مدينة، فكل من قضى الله عليه بالموت انضم إلى القارب ليسير به نحو العالم الآخر. المصدر الشعبى للاسم يعنى ببساطة أنه يمثل أحد النتاجات الباقية فى الذاكرة الشعبية التى اختزنتها الأجيال، جيلًا بعد جيل، ولو أنك فتشت فى التراث الشعبى عن اسم «شيحة» فسوف يقفز لك مباشرة اسم «جمال الدين شيحة»، القائد العسكرى الداهية الذى قاتل الصليبيين، إلى جوار السلطان بيبرس البندقدارى، وقد خلدت ذكراه السيرة الشعبية الشهيرة «الظاهر بيبرس»، وكان «شيحة» أحد شخوصها المعروفين، تناقل الرواة حكاويها، التى يختلط فيها بعض الحقائق التاريخية بالكثير من الأفعال العجائبية والتخيلية، مما أدى إلى استقرار اسمه فى الذاكرة الشعبية، وتناقلتها ألسنة الأجيال بصورة يشتعل معها الخيال، بما يؤدى إلى إلهاب الوجدان وإمتاعه.

يشير «إدوارد وليم لين»، فى كتابه «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم»، إلى أن سيرة الظاهر بيبرس كانت من أكثر السير الشعبية الشعرية الشائعة خلال زيارته مصر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر «ما بين ١٨٣٢ و١٨٣٥»، وهى تحكى قصة السلطان الظاهر بيبرس الذى حكم مصر لمدة تزيد على ١٧ عامًا، ويشير «لين» إلى أن من أهم الشخصيات التى اشتملت عليها السيرة الشعبية شخصية «شيحة»، وهو «زعيم المقاتلين»، ولقبه «سلطان القلاع والحصون» الذى يحاول جاهدًا القضاء على كل الفداوية ليخضعوا له وللسلطان بيبرس. ولقد أضحى اسمه «شيحة»- والكلام لوليم لين- التسمية المعروفة التى تطلق على الأشخاص البارعين فى التنكر وتدبير المكائد. وثمة أصل تاريخى لما تمتع به جمال الدين شيحة من قدرة على التنكر وتنفيذ عمليات الاغتيال وتدبير المؤامرات ونصب الفخاخ، إذ يذكر بعض المراجع التاريخية أن «شيحة» نشأ وتربى داخل قلعة «مصياف» بالشام، وهى واحدة من أشهر قلاع جماعة «الحشاشين» التى أسسها الحسن الصباح، وكان أحد أعضاء «فرق الموت»، التى تشكلت من الشباب الفداوية المستعدين للتضحية بأنفسهم فى سبيل تحقيق الهدف، ولا يعتمد أداؤهم على مجرد الاندفاع غير المحسوب، على العكس فقد كانوا يتدربون داخل قلاع الحشاشين على عمليات الاغتيال بصورة شديدة الدقة والحرفية. فثمة مجموعة من القيم الأساسية التى كان يتربى عليها «الفدائى» داخل هذه القلاع، من أبرزها: الكفاءة القتالية، والحيلة فى التنكر، والسرية فى التحرك، والغيلة فى الأداء، بالإضافة إلى التدريب على كيفية الاحتفاظ بأسرارهم وأسرار من معهم، ولا يبيحون بها فى حالة القبض عليهم، وإذا استيأس «الفدائى» من قدرته على المقاومة حال القبض عليه، فعليه أن يقتل نفسه بيده.

ذلك هو التكوين الذى حظى به جمال الدين شيحة، وساعده على أداء قتالى أثار خيال معاصريه، بسبب ما تمتع به من كفاءة وحرفية، وبعد وفاته التهب ببطولاته خيال الشعراء والرواة الشعبيين، فأضافوا إليه الكثير من العجائبيات والأفعال العجيبة، حتى يجتذبوا آذان الجمهور. 

والسير الشعبية تصور «شيحة» كما لو كان رسول المنايا، وهادم اللذات ومفرق الجماعات، إنه طائر الموت الذى يحط بجناحيه على عدوه، فلا يتركه إلا جثة هامدة، إنه يشبه الطاعون الذى ينشب مخالبه فيمن شاء الله، فلا يتركه إلا صريعًا. «شيحة» كان مثل الطاعون يمتطى ظهر قاربه، ليواجه أعداءه، ويقبض أرواحهم، ويضعهم فى القارب، وهو مثل الموت أيضًا يستطيع أن يتنكر ويتلون فى عشرات الوجوه، ليطبق على من قضى الله عليه الأجل، تمامًا مثل الجائحة التى تتلون وتتطور، والفيروس الذى يتحور ويتنكر من وقت إلى وقت، حتى يتمكن من فريسته. هذا المعنى لم يكن حاضرًا فقط فى سيرة «شيحة» فقط، بل فى اسمه أيضًا. فاسم شيحة مشتق من اسم طائر «الشوح» المشهور بأنه يغير ريشه ثلاث مرات فى اليوم «القدرة على التنكر».

كأن المصريين حين أطلقوا اسم «قارب شيحة» على وباء الطاعون كانوا يسترجعون من ثقافتهم الشعبية ما اختزنته حول واحدة من أبرز الشخصيات التى اشتهرت بألاعيبها وملاعيبها، ومكرها ودهائها، شخصية «جمال الدين شيحة».