رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ عبدالقادر.. و«مقرئ السلطان»

قبل ظهور الجيل العبقرى من قارئى القرآن الكريم، جيل المشايخ أحمد ندا، ومحمد رفعت، وعلى محمود، وعبدالفتاح الشعشاعى، ومحمد الصيفى، وغيرهم، ظهرت عدة أسماء فى عالم التلاوة، كان الناس يتزاحمون عليها تمامًا مثلما كانوا يتزاحمون على مشاهير المقرئين الذين عاصرناهم أو سمعنا تسجيلاتهم وعشنا مع أصوات الجمهور المنفعل بأدائهم الرفيع. ظاهرة الولع بالأصوات الندية الأخاذة، التى تتلو القرآن الكريم، ليست وليدة القرن العشرين، بما تزاحم فيها من أصوات نادرة فى دولة التلاوة، بل هى أقدم من ذلك، وقد حكى عبدالرحمن الجبرتى فى كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» عن بعض المقرئين الذين اشتهروا فى مصر وداخل بلدان العالم الإسلامى، خلال القرن الثامن عشر، على رأسهم المقرئ عبدالقادر بن خليل بن عبدالله الرومى المدنى، ذلك المقرئ والمجود والمحدث البارع، واشتهر باسم «كدك زادة»، كما يذكر «الجبرتى».

ولد الشيخ عبدالقادر عام ١٧٢٧ ميلادية «١١٤٠ هجرية»، أى مع مطلع الربع الثانى من القرن الثامن عشر، وكان ميلاده بالمدينة المنورة، وفيها نشأ وحفظ القرآن على يد «شيخ القراء» شمس الدين محمد السجاعى. ولقب «شيخ القراء» يمنحك دليلًا على أن تلاوة القرآن على جموع المسلمين كانت تمثل وظيفة قائمة احترفها من امتلك صوتًا آسرًا أو مؤثرًا فى المستمعين داخل بلدان العالم الإسلامى المختلفة. وكان لهؤلاء القراء شيخ، له أدوار معينة فى تعليم وتنظيم البارزين فى عالم التلاوة. اتجه الشيخ عبدالقادر أول ما اتجه إلى تعلم وحفظ «متن الشاطبية»، والتى ألفها «الشاطبى»، وتحمل مجموعة من الأبيات الشعرية التى تشرح القراءات السبع الشائعة والمتواترة داخل بلاد العالم الإسلامى. واللافت أن هذه الخطوة هى أول خطوة سلكها أغلب مشاهير قراء القرآن الكريم فى العصرين الحديث والمعاصر، فكلهم بدأ الرحلة بـ«متن الشاطبية»، ومنها تعلموا القراءات السبع وأبدعوا فى توظيفها فى التلاوة. ولم يتعلم الشيخ عبدالقادر فنون التجويد والقراءات السبع وفقط، بل تعلم بالإضافة إليها علوم الحديث والإسناد وفن الخطابة، وغير ذلك، وقد بلغ من الإتقان حدًا أدى إلى اختياره إمامًا للمسجد النبوى، على صاحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فى القرن الثامن عشر كانت القاهرة، كما تعودت، العاصمة التى يجب أن يمر عليها ويعتمد فيها كل من يرغب الدخول إلى عالم الشهرة فى العالم الإسلامى، ورغم الشهرة التى نالها الشيخ عبدالقادر فى المدينة، وبلاد إسلامية أخرى زارها، وقرأ فيها القرآن، وتعلم على يد مشايخها، فإن شهرته الحقيقية بدأت وامتدت فى مصر، نظرًا لما يتمتع به المصريون من ولع بالأصوات المتميزة فى تلاوة القرآن الكريم، واحتفائهم الخاص بها.

ذاعت شهرة الشيخ فى مصر وتزاحم على المساجد التى يقرأ فيها المحبون، خصوصًا فى الصلوات الجهرية، كى يتمتعوا بجمال تلاوته القرآن الكريم. وتطورت موهبته فى ضوء ما تعلمه من كبار مقرئى مصر ومشايخها فى ذلك الوقت، ومنهم داود بن سليمان الخربتاوى، والشيخ الملوى والجوهرى والبليدى، وتشرب من علمهم وفنهم، ومكث فى مصر فترة من الوقت يمتع أهلها بصوته العذب. بعدها قرر الرحيل إلى بلاد الروم، ومن بعدها المدينة، لكن سرعان ما عاد ثانية إلى مصر، وذاع صيته أكثر وأكثر، بعد أن أصبح مقرئ وخطيب جامع قوصون «يقع فى شاع محمد على بالقلعة». مكث الشيخ عبدالقادر فترة أطول فى مصر، وارتبط بعشاق صوته من أهلها، الذين كانوا يتزاحمون على الصلاة خلفه فى مسجد قوصون للاستماع والاستمتاع بتلاوته، بعدها سافر إلى الروم، وواصل تلاوة القرآن الكريم، وخلال هذه الفترة بلغت أخبار صوته السلطان، وأشادت حاشيته بما يتمتع به من قوة وجمال، ومهارة وإبداع فى تلاوة القرآن الكريم، فأراد أن يجعله مقرئًا وإمامًا له، ووصلت الأخبار إلى الإمام الحالى للسلطان، فدعاه إلى بيته، واحتال عليه وسقاه شيئًا مما يفسد الصوت، حسدًا عليه، وكان لهذه الواقعة بالغ الأثر عليه.

عاد الشيخ عبدالقادر إلى مصر، البلد الذى أحبه، للمرة الثالثة، وتوقف عن تلاوة القرآن الكريم، بسبب ما لحق صوته جراء المؤامرة التى دبرها له مقرئ السلطان، واتجه إلى الاشتغال بعلم الحديث، وتأليف معجم عن مشايخه الذين تعلم على أيديهم. وبعد عدة سنوات قضاها فى القاهرة سافر الشيخ إلى اليمن، ثم حنّ من جديد إلى مصر فعاد إليها، وأخذ يقرض الشعر ويمدح كبار القوم، وربح من ذلك كثيرًا، لكنه ظل منغصًا بعد أن أصبح غير قادر على تلاوة القرآن الكريم، كما تعود، لكنه عاش، وظل يتنقل من مكان إلى مكان حتى وافته المنية وهو فى زيارة لمدينة «نابلس»، فقد اعتراه المرض لبضعة أيام، انتقل بعدها إلى رحمة الله، وكان ذلك عام ١٧٧٤ ميلادية، أى عن عمر يقترب من ٤٧ عامًا. 

مات أشهر مقرئى القرآن فى القرن الثامن عشر، الرجل الذى وصف «الجبرتى» صوته قائلًا: «وكان حسن النغمة طيب الأداء»، وعلق على تجربته فى الحياة، مشيرًا إلى أنه خسر الكثير بسبب عدم استقراره فى مكان، وغرامه بالترحال: «ولو أقام فى مكان كغيره لاطلع ضياه، ولكنه ألف الغربة، وهانت عنده الكربة، فلم يهتم بخشن ولا لين، ولم يكترث لصعب ولا هين».. رحمه الله.