رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

موسم شتاء

جريدة الدستور

«مدينة دمياط فى منتصف الستينيات من القرن الماضى».

ظلت السماء تسقط مطرها ثلاثة أيام بلا انقطاع. كان مطرًا غزيرًا لم يسبق أن شهدته مدينتنا الساحلية منذ سنوات بعيدة. 

قالت وهيبة، أم البقساوى، بائعة الفول المدمس والفلافل إن ما يحدث بسبب غضب ربنا على أفعال خلقه الأشرار؛ فهم لا يفعلون المعروف أبدًا، وكل شىء عندهم بثمن.

وقالت ستوتة بائعة الفاكهة، مؤمنة على كلام جارتها: الدنيا انقلب ميزانها، سيرينا الله عذابًا فى الدنيا قبل عذاب الآخرة.

أما الخرساء، وأغلبنا لا يعرف عنها سوى أنها أم حندق، الشاب الأعزب، بائع السوبيا والتمر هندى والعرق سوس وعصير الخروب فقد أشارت بيديها إلى السماء، بما معناه أن القيامة ستقوم، وكل شخص سينال عقابه دون تأخير.

المطر لا يتوقف بل يزداد هطوله، غير فترات قليلة للغاية يتوقف فيها لالتقاط الأنفاس، ريثما يستجمع عنفوانه من جديد، ولما كانت حارتنا فى منطقة لا يسكنها باشوات ولا بهوات، ولا مسئولين كبار، فقد أهملت الصيانة فى مرافقها جميعًا، حتى انسدت البلاعات تمامًا، وصار السير فى الشوارع اللزجة، المتعرجة، أشبه بأفعال أبطال السيرك.

جاء عمال البلدية، حاولوا التغلب على هذه المشكلة دون جدوى فقد كانت أدواتهم بدائية، وأماكن تسريب المياه عن طريق البلاعات غير معلومة، فقد خرج إلى المعاش من كانوا يعرفون مكان كل بلاعة، وجاء غيرهم، شباب بلا خبرة، ولا طاقة على العمل فى هذا الطقس السيئ.

مرضت نظيمة، تمددت على سريرها، ظلت تصرخ لألم أصاب معدتها، حاول الأبناء استدعاء سيارة الإسعاف لكن الخطوط التليفونية ظلت مشغولة، والمطر لا يكف عن هطوله.

كنت أعرف ابنها طه تمام المعرفة، البليد الذى كنا نتخابث معه فنجعله يقف حارسًا للمرمى دائمًا، ونلكزه فى بطنه بأكفنا وأصابعنا المدببة كلما دخل فيه هدف «شوربة»، وهو يدافع عن نفسه أن المهاجم انفرد به، فلم يتمكن من صد الكرة.

نظيمة أمه تصرخ، والجميع يدخل ويخرج من حجرتها الموصلة إلى خزنة ضيقة دون أن يتغير شىء. طه البليد يكاد يبكى لأنه لا يستطيع فعل شىء.

أبوه الذى مات من أعوام بعيدة، سكن القرافة نهائيًا، لم يترك لهم مالًا ولا عقارًا. لا يوجد غير بيتهم القديم الذى يسرب سقفه المياه، والمكون من محل ضيق أجر لغريب يقوم بعملية رفى القطوع فى الملابس، ودور أول يسكنون فيه، المهم هناك حائط وسقف يسترهم. 

كنت أعرف أن طه يغرق فى شبر مياه، وهذا هو ما حدث بالحرف، فقد وضع يده أسفل ذقنه، وظل متسمرًا فى مكانه، يربت على جسدها الهزيل، ويقبل جبينها ثم يعود لجلسته، وهى تقاوم الألم، تنظر نحوه بعتاب وترفع يديها لأعلى كى تستمطر الرحمات.

إخوته، الأصغر سنًا ظلوا عاجزين عن التصرف، قالت له بلوم: أتتركنى يا طه حتى أموت؟

رمقها بخوف: بعد الشر يا أمى. 

نظر ناحيتها وبادلها لومًا بلوم: الشوارع بحيرات، فكيف تخرجين، ثم ليس معنا أجر طبيب خاص لنحضره إلى البيت؟!

حين اشتد الألم بكى وهو يخفى وجهه فى فوطة قديمة طرز فى طرفها وردة بيضاء، فجأة اتخذ قرارًا نفذه بالحرف: سأحملك وأذهب بك إلى المستشفى الأميرى.

كنت ساعتها أقف فى النافذة كعادتى فى أوقات سقوط المطر، أمد كفى وأعمل منها جفنة تلم الماء المتساقط، الذى أشربه بمزاج.

وجدته يحمل أمه وهى تغالب ألمها، تحكم وضع القرطة بدلاياتها من الترتر والخرز على وجهها.

يحملها محاولًا قدر الإمكان التأكد من وجود أرض تحت قدميه حتى لا يهوى فى حفرة. 

وحارة قبيلة كلها حفر، ومطبات، وبلاعات مسدودة، لا أحد فكر مرة فى ردم الحفر ولا استدعاء عمال البلدية لفعل ذلك. 

بدت أمه تقلل من شكواها، وضعت ذراعها اليمني حول عنقه، وراحت تدعو لأبنائها جميعًا: يا رب ينجحكم، ولا يشمت فينا عدو.

توقف طه، وعاتبها عتابًا رقيقًا: «ادعى لى يا أمى فبوابة السماء مفتوحة، لن يكلفك الدعاء شيئًا. قولى مثلا: يا رب أرزقه بعروسة جميلة، عندها عمارة أو عمارتان».

كان يكلمها بجدية، وهى تغالب ألمها، وتخطف من فم الزمن المر ابتسامة، أصرت ألا تدعو له وحده، وظلت قدماه تتلمس طريقًا سالكًا والماء وصل حتى منتصف بطنه. بعد مشقة وتعب، نجح فى الوصول إلى الميدان، وهناك راح يشير إلى عربات الحنطور التى تدق جيادها بالحوافر المثبت بها حدوات حديدية أسفلت الطريق، ما حدث هو أنه لم تتوقف عربة. 

قالت له، وهى مبتلة: يا رب يخليك يا طه. كمل جميلك واذهب بى للمستشفى. 

هز رأسه، وأسمعها صوته: لا تقلقى يا أمى. سأوصلك إلى البوابة، وأدخل معك قسم الاستقبال، تماسكى فالطريق طويل. 

فجأة وقفت لهما عربة حنطور، رفع الحوذى سوطه، طرقع فى الهواء. حملها الابن، صعد العربة، شعر بالدفء فقد كان المقعدان متقابلين مكسوين بفراء خروف.

مضت العربة تحت المطر، ولما اقتربت من المستشفى، سألت الأم ابنها: معك نقود؟

مط شفته السفلى، معبرًا عن ضيق ذات اليد: يا أمى، أنت تعرفين البئر وغطاه.

خلعت المرأة فردتى حلق فضى كان فى أذنيها، قالت له: أعطه الرجل. كتر خيره.

رفض الحوذى أخذ شىء، رمقها هى والابن بنظرة مشفقة: هى مثل أمى. تشبهها تمامًا.

زاد الألم فصرخت، وسرعان ما تماسكت، سألت بصعوبة: اسم أمك إيه؟

ـ فكيهة.

ـ وانت اسمك إيه؟

ـ السيد.

وضعت الذراع الأخرى حول رقبة طه، رفعت وجهها للسماء والمطر ازداد جنونًا حتى أصيبت الأم والابن بالبلل الكامل: روح يا سيد يا ابن فكيهة. إلهى يفتح لك أبواب الخير، ويرزقك بالرزق الحلال.

نزل طه، حاملًا أمه، رأى الحوذى أن يساعدهما. فهبط من علوه، حتى يسند الابن الخائف، حين انسلتت فردة حذاء الأم سارع بالتقاطه، ووضعه فى قدمها. 

مضى طه فى طريقه لبوابة المستشفى، أما الحوذى فقد استدار راجعًا إلى قلب المدينة، ليلتقط زبونًا آخر قد يكون لديه الأجر. 

فى هذه المرة كان الحصان يسير ببطء، والحوذى استغرق تمامًا فى استرجاع هيئة أمه التى ماتت منذ سنوات، لم يرفع سوطه، ولم يفرقع هذا السوط فى الهواء؟!