رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مجدى نجيب.. القلب اللى صابح ماشى

كنت أعرف أنه فى مستشفى ابن سينا.. اتصلت بالشاعر الصديق فوزى إبراهيم وسألته.. وكان قد زاره منذ ساعات.. هوه كويس؟.. عِرفكم؟.. اتكلمت معاه؟.. وفاجأنى فوزى بأنه كويس جدًا.. وعارف الناس.. وفاكر حاجات قديمة جدًا اتكلم فيها مع مدحت العدل.. استغربت جدًا.. فمنذ شهور قليلة وأنا أعرف أنه ليس بخير.. وآخر مرة رأيته فيها فى عزاء صديق مشترك لم يذكرنى.. أو ربما أوحى لى بأنه يتذكر لكنه لم يكن معى.. استغربت لأن زوجته الفاضلة حينما طلبنا أن نلتقيه لنصور معه عن أغنياته فى حرب الاستنزاف وأكتوبر لعمل وثائقى قالت لمى منصور: أخشى أن يتعصب فجأة كما يحدث منذ وفاة ابنه... قلت: يبدو أنه حضور ما قبل الغياب.. تمنيت إنه يفضل معانا.. آخر فرع فى عيلة شعراء مصر الكبار.. شمس الشتا.. نسمة عصارى الصعيد.. القلب اللى ماشفتش أعيل ولا أوسع منه طول عمرى.. مجدى نجيب.. غاب. 

كنت طفلًا.. عيل بيتدحرج على باب الرجولة يوم التقيته أول مرة فى قريتى العسيرات فى آخر بلاد الله.. أول الدنيا.. كان أول شاعر كبير أراه.. كان بصحبته فرفور.. وأحمد منيب.. ومحمد قابيل.. وناس تانية كتير من نجوم مصر.. كنت أعرف اسمه من أغنيته لحليم كامل الأوصاف.. ومن شادية وأغنيتها قولوا لعين الشمس.. ومن أغنيات منير التى صدرت قبل أعوام قليلة.. لكننى لم أشاهده قبلها فى أى تليفزيون.. لم يكن يحب الشاشات ولا الزحمة.. فى طريق عودتنا من بيت ثقافة جرجا سألنى.. الشعر اللى قلته ف الندوة مكتوب... كنت وقتها أحفظ ما أقول ولا أكتبه.. كرر سؤاله ففهمت أنه يريد ما سماه.. قصائدى.. وكان قد طلب أيضًا بعض أعمال شاعر كبير من سوهاج لم ينل حظه من الشهرة اسمه أبوالعرب أبواليزيد.. وظل يسألنى عما أريد أن أفعل.. ولمن أقرأ.. ومتى سأنزل للقاهرة.. كنا فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى.. أسبوع بعد أن غادرنا وأنا أبحث عن أعماله فى المكتبات.. وكان حظى سعيدًا.. وجدت ديوانه الأول صهد الشتا.. وأربكنى.. هو لا يكتب الشعر الذى أعرفه.. وفاروق شوشة يكتب عنه بما يؤكد ريادته لما أسماه شعرًا جديدًا فى العامية المصرية مع رفيقيه حجاب والأبنودى.. وكلما قرأت سطرًا.. تهت. 

ضهر القمر.. بينخ فوق ضهر الولا 

وشه الحزين.. لامس شفايف وردتى 

ملس على كتافى ورقد.. يا وحدتى 

وكأنى لسه... بتولد 

طرت فرحًا باكتشافى.. وحيرنى سؤال.. كيف يكون شاعر كبير مثل هذا الرجل بكل هذا التواضع وهذه البساطة؟.. طرت إلى قريبى الشاعر الراحل مشهور فواز.. وكان أحد شعراء قصيدة النثر.. وكنت طفلًا.. وألقيت فى حجره بما قرأت لمجدى نجيب وكنت قد حفظت الديوان كاملًا فى يومين.. فابتسم كعادته.. ثم أضاف لا يقل عن الماغوط وعبدالصبور فى طزاجته وحداثته.. فنان تشكيلى كبير.. بس الصحافة والأغانى واخدينه.. اوعى تعمل زيه.. ودون وعى وجدتنى أقول.. يا ريت أعرف أعمل زيه.. بعد أيام ثلاثة أخرى.. بالتحديد فى سبعة من شهر مارس عام ٨٧ رحت لعم على بائع الصحف الأشهر فى سوهاج لأشترى مجلات الأسبوع.. ومن بينها مجلة الإذاعة والتليفزيون حبًا فى العم مجدى.. وفيما أقلب.. وجدته.. وتحت اسمه.. صورتى.. وقصيدتى.. التى أسماها هو «قصيدة» فيما كنت أرى أنه شوية كلام فارغ.. ورسمة.. وضعها بريشته على صفحة كاملة.. وكلمات عنى وعما أكتب لم أتخيلها أو أصدقها. 

ولم أكن وحدى.. عشرات صاروا تلامذته وبعضهم لم يلتقه لمرة واحدة.. سنوات خمس بعدها ووجدتنى معه.. فى حجرة واحدة.. أحرر معه باب الأغانى الذى تنازل عنه بعد قليل لى.. هكذا أوصى قبل أن يغادر مجلة الإذاعة قبل أن يذهب لتجربة أخرى مع هالة سرحان.. مديرًا فنيًا من طراز خاص يعرفه الكبار فى عالم الصحافة وصرت تلميذًا.. أذهب إليه فى مكتبه بالمهندسين أو شقته فى الدقى.. وهو نفس الرجل المبتسم الذى رأيته فى سوهاج.. حيرنى أن هذا الملاك المكتفى عزيز النفس والروح وجد مكانًا فى أحد سجون الواحات.. كيف.. سألته فى إحدى المرات.. فأخبرنى حتى ذلك الحين لم يكن قد كتب شعرًا أو أغنيات حتى يسجن بسببها.. ثم أضاف وهو يبتسم والرسم ما بيعضش.. أنا مكنتش عارف أصلًا إنى رسام قبل ما أقابل حسن فؤاد فى سجن الواحات.. ثم ابتسم مجددًا.. كان أمرًا بديعًا أن أجاوره مع فؤاد حداد.. لم أسمعه مرة يشتم رغم عصبيته أثناء تنفيذ الصفحات.. كان يكره الإهمال.. والغباء.. والفلوس. 

ترك عشرات الأعمال.. والأماكن.. لأنه فقط لم يشعر بالراحة.. صديقه الأقرب كان عبدالرحيم منصور.. كان يحبه بشكل لا يصدق.. ولم يكن يصدق أنه غاب.. سألته مرة.. ألم يكن بينكم غيرة ولاد الكار؟.. اندهش.. مين؟ عبدالرحيم!.. ده أطيب روح عدت على البلد دى.. أسأله.. وبليغ.. فيجيب.. وبليغ أيضًا.. بس بليغ فى الشغل ما يعرفش حد.. عبدالرحيم لا.. سنوات مضت وأنا أكبر.. ومجدى نجيب لا يزال طفلًا.. يرسم.. تحترق شقته بكل ما فيها من ذكريات.. لا يحزن.. فقط يرسم من جديد.. يرسم الأطفال وللأطفال ويكتب لهم أغنيات تشبهه.. ويغنى 

أسكن بيوت الفرح.. آه ممكن 

أسكن بيوت الحزن.. لا يمكن 

ومستحيل يا حزن.. راح تسكن.. 

يصمت بالشهور ثم ينفجر شعرًا.. وش يشبه حزننا.. ولكنى قادر فى الحزن أفرح.. حتى آخر أغنياته مع منير يبحث عن الجمال ويدعونا لأن نبتسم.. ويأمر الطفل الذى يسكنه.. روق. 

لم أصدق أنه من الفيوم.. لأننى كنت أظنها صحراء.. وأن أهلها عرب.. زرعت الصحراء قسوتها فى قلوبهم.. لكننى حين ذهبت إلى مزارع سنورس.. قريته لم يبق لى منها سوى شجر المانجو.. وطيبة بشر لا يكذبون.. ومجدى نجيب. 

قالت الأخبار صباح أمس إنه مشى.. غاب.. غاب القمر يا بن عمى.. والسماء سمعت من يغنى له.. والشمس مش هتحمى.. لأنه ماشى.. ربما تصدق الأنباء.. فوقتها فقط سيعرف هذا الرجل الذى لن نعرف قيمته الآن.. ولم نعرفها طيلة السنوات التى عاش.. ربما يعرف إجابة لسؤاله الذى يردده منذ خمسين سنة.. سؤال بسألك.. إيه آخرة الترحال؟