رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الانفراد متواصل.. مقدمات أحمد الشهاوى لمشروع «ديوان الشعر المصرى»

احمد الشهاوي
احمد الشهاوي

تشهد الدورة المقبلة من معرض القاهرة الدولى للكتاب مشروعًا هو الأهم من نوعه بعنوان "ديوان الشعر المصرى"، ويقوم عليه الشاعر الكبير أحمد الشهاوى، وتستهدف السلسلة الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب إبراز جماليات وتاريخ الشعر المصرى القديم على مدار ألف سنة.

ويتوقف مشروع "مصر الشعرية" عند محمود حسن إسماعيل، إذ إن ما بعده من أسماء لا تحتاج إلى هذا المشروع، نظرًا لأن كتبها موجودة ومتاحة فى المكتبات وطبعت أكثر من مرة مصريًا وعربيًا.

ويصدر، خلال معرض الكتاب، أول ٦ كتب وهى للشعراء: "البهاء زهير، ابن سناء المُلك، ابن النبيه، ابن الكيزانى، ابن نُباتة المصرى، ابن قلاقس".

"حرف"، وفى إطار انفرادها بتفاصيل المشروع فى عددها الأول، تنشر، بداية من هذا العدد، مقدمات دواوين المشروع بقلم أحمد الشهاوى.

بسهولةٍ ويُسرٍ تستطيعُ أن تعثُرَ على شارع البهاء زُهير فى مدينة القاهرة، أو مُدن الرياض وجدَّة والقطيف وغيرها من مدن فى المملكة العربية السعودية، أو فى أيِّ مدينةٍ عربيةٍ أخرى، أو تعثُرُ- مثلًا- على مدرسةٍ تحملُ اسمَهُ فى مدينة قُوص بمحافظة قنا، حيث عاشَ سنواتٍ من حياته فيها مع أسرتِه أو غيرها من المدارس فى البلدان العربية، أو تستمتع بصوت فرقة الموسيقى العربية أو نور الهدى، أو ناظم الغزالى "١٩٢١ - ١٩٦٣ ميلادية"، أو صباح فخرى "٢ من مايو ١٩٣٣ - ٢ من نوفمبر ٢٠٢١ ميلادية" إلى قصيدته "يا مَنْ لَعِبَت بِهِ الشَّمُولُ"، أو "غيرى على السُّلوان قادر" بصوت منيرة المهدية "١٦ من مايو ١٨٨٥ - ١١ من مارس ١٩٦٥ ميلادية"، أو نور الهدى "٢٤ من ديسمبر ١٩٢٤ - ٩ من يوليو ١٩٩٨ ميلادية"، أو الشيخ أبوالعلا محمد "١٨٨٤- ١٩٢٧ ميلادية" أو سيد النقشبندى "٧ من يناير ١٩٢٠ - ١٤ من فبراير ١٩٧٦ميلادية" أو سواهم من أهل الغِناء، لكن من الصُّعوبة أن تعثرَ على ديوانه، أو كتابٍ عنه؛ لأنَّ دورَ النشر أحجمت عن إعادة طباعة مثل هذه الكُتب، التى أرى نشرَها إعلاءً للثقافةِ والفِكْر والشِّعْر بشكلٍ خاص، كما أنَّها عملٌ قومىٌّ. 

وخلال بحثى فى شِعْر وحياة البهاء زُهير وجدتُ عددًا من الأطروحات الأكاديمية فى الجامعات المصرية والعربية، لكنَّ أغلبَها غيرُ منشُورٍ أو مُتاحٍ، كما أنَّ هناك كُتبًا حولهُ قد صدرتْ منذُ عشرينيات القرن العشرين ولم تعُد مُتاحةً أمام الجيل الجديد من الشُّعراءِ والدَّارسين ومُتلقِّى الشِّعْر، على الرغم من أنَّ البهاء زُهير- الذى وُلدَ بمكة سنة ٥٨١ هـجرية وقضى سنواتٍ من طفولته فى الحجاز- يُعدُّ أحد أئمة النهضة الشِّعرية فى العصريْن الفاطمى والأيّوبى بمصر "فى القرن السَّابع الهجرى"، لكنَّها قليلةٌ هى الكُتب التى صدرت فى مصر أو أى بلدٍ عربىٍّ أو أجنبىٍّ آخر عن البهاء زُهير، ومن أشهر هذه الكتب: الكتاب الذى صدر فى سلسلة نوابغ الفكر العربى التى كانت تصدرُها دارُ المعارف بمصر، وعنوانه "البهاء زُهير"، للدكتور عبدالفتاح شلبى، وقد حمل رقم ثمانية وعشرين من السلسلة "القاهرة ١٩٦٠م" وكتاب "بهاء الدين زُهير" "القاهرة ١٩٢٩م" لمصطفى السَّقا وعبدالغنى المنشاوى، وكتاب "البهاء زُهير" لمصطفى عبدالرازق، "القاهرة ١٩٣٥م"، وكتاب "البهاء زهير.. شاعر مصر فى العصر الأيوبى الحجازى مولدًا المصرى منشأ" لمحمد إبراهيم سليم.. دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير، القاهرة، ١٩٩٢ ميلادية.وقد صدر فى سلسلة شعراء العرب والإسلام. وكتاب "قراءة جديدة فى شعر البهاء زهير" للدكتور أحمد حلوة، وصدر فى القاهرة عن المجلس الأعلى للثقافة سنة ٢٠١٨ ميلادية، والبهاء زهير الذى انتقل- طفلًا- من مكة مع أسرته إلى "قوص" بصعيد مصر، تدرَّج فى دراسة العلوم الدينية والأدبية حتى استوى، وقد كانت "قوص" فى ذلك الزمان مركزًا رئيسًا ومُهمًّا من مراكز الثقافة.

وربَّما لم أرَ فى حياتى الأدبية كاتبًا أو حتَّى شاعرًا يهتمُّ بشِعْر البهاء زُهير أكثر من صديقى الكاتب الروائى جمال الغيطانى "٩ من مايو ١٩٤٥/١٨من أكتوبر ٢٠١٥ ميلادية" الذى كان يخطُّ بيمينِه شِعْرَ البهاء، حيثُ كان معجبًا به، ومُعتزًّا بسيرتِه.

وإنْ كُنتُ أشكُو قلة الاهتمام بالبهاء زهير فأذكرُ هنا أنَّ ديوان "البهاء زهير" كان شهيرًا بين المصريين، يحفظُونه وينشدُونه، وقد نُسخَ مراتٍ كثيرة فى حياته وبعد مماته، حيث "كان كثيرَ الوجُود بأيدى الناس فى زمانه"، وذلك لسُهولة معانيه، ورشاقة ألفاظه، والظرف والبساطة التى شاعت فى قصائده؛ فشِّعْر البهاء زُهير صُورةٌ لحياته؛ كما أنَّه صُورةٌ لعصره الذى ازدهر فيه "الشِّعْرُ فى وادى النِّيل مُدَّة الفاطميِّين (٣٥٨-٥٧٦هجرية) الذين كان لهُم باللغة العربية عنايةٌ عظيمةٌ، وفى عهد الأيوبيين (٥٧٦-٦٥٠هجرية) الذين راجتْ فى عهدهم القصير فنونُ العلمِ والأدبِ، وازدهرتْ المدنيَّةُ".

فلم يكُن البهاء متكلفًا فى كتابته شعرًا أو نثرًا، مثل كثيرين من شُعراءِ وكُتَّابِ عصْرِهِ، حيثُ لم يعمد إلى تكلُّف الصَّنعة البديعية ولا الإسراف فى التنميق والتزيين.

إذْ آثرَ البساطةَ، وكان علامةً على عصره، وتفرَّدَ باستخدامه البحُور الخفيفة الرشيقة الراقصة ومجزُوءاتها التى حملت رُوحَ السُّخرية والدُّعابة التى شاعت بين المصريين فى شِعْره، وشعر كثيرين ممَّن عاصروه، إذْ عاش فى زمن عمر بن الفارض، وعفيف الدين التلمسانى، ومحيى الدين بن عربى، وأحمد البدوى، وإبراهيم الدسوقى وسواهم، حتى إنَّ قصيدته الشَّهيرة فى زماننا التى مطلعُهَا "غيرى على السُّلوان قادِر" قد نُسِبَتْ خطأ إلى عُمر بن الفارض، على الرغم من أن ديوان ابن الفارض عندما جُمِع بعد موته لم يكُن يضُمُّ هذه القصيدة؛ وربَّما لأنَّ غزلَ البهاء زُهير جعل بعضَ قصائدِهِ تلتبسُ عند الأسلاف بقصائد عمر بن الفارض "٥٧٦- ٦٣٢هجرية/ ١١٨١ - ١٢٣٥ميلادية"، وربَّما يكونُ البهاء زُهير قد تأثَّر بالموشَّحات الأندلسية التى كانت سائدةً فى عصره، وقد علّق على هذه الأوزان الشيخ مصطفى عبدالرازق قائلًا: "انتشرت فى عهد البهاء زهير أوزانُ التواشيح الآتية من الأندلس، وذلك لا بدَّ أن يكونَ نبَّه الشُّعراء إلى فنٍّ من الألحان الشِّعْرية جديد، فاهتدت الفِطَرُ الموسيقيةُ إلى اختيار البحور اللطيفة والأوزان الموفُورة الحظ من الموسيقى ومن التأثير، وهذا شأن البهاء زُهير، فإننا نجده فى غير شعر المديح قلَّما يركنُ إلى غيره من الأوزان الخفيفة".

وأرى أنَّ شُهرة البهاء زُهير وشيوع شِعْره قد تأخَّرا، لتأخُّر وصُول ديوانه إلى المعاصرين، حيث لم يتم تحقيقُ مخطُوط الديوان ونشره إلَّا فى القرن التاسع عشر الميلادى، ما يعنى نحو ثمانمائة سنة بعد وفاته، وقد حدث هذا مع شاعرٍ كان ملءَ السَّمع والبصَر فى زمانه، وكان شهيرًا بشِعْرِه بين الناس، بل إنَّ أهل مصر كانوا يحفظون الكثيرَ من شِعْره ويتداولونه ويستخدمونه فى مُراسلات الغَزَل والشَّوق والعِتاب بين المُحب والمحبُوب.

وفى النُّسخِ الخَطِّيَّة الموجُودة بدار الكُتب المصرية من ديوان البهاء زهير ما يدَلُّ على أنَّ بعض تلامذته جمع شعرَهُ وزادَ فيه على ما فى ديوانه؛ ففى آخر صحيفة من نسخة خطِّيَّة "رقمها ٢٠٥١ أدب" ما نصه:

قال جامعُ هذا الديوان - وهو تلميذُ الشيخ: هذا آخر ما وجدتُّ من شِعْر أبى الفضل زهير بن محمد بن على المهلَّبى - رحمه الله - وأثابه الجنَّة بمَنِّه وكرمِه.

وفى هذه النسخة مُقَدِّمَةٌ جاء فيها: "كلُّ ما كُتِب فى هذا الديوان وقلتُ: قال رحمه الله؛ فإنِّى كتبتُه بعد موته رحمه الله بدِمَشْق المحرُوسة - حماها الله تعالى - فى جمادى الأولى من شهور سنة سبع وستين وستمائة ولم أسمعه منه".

وتوجد نُسخة خَطِّيَّة أخرى أوَّلُها: "أمَّا بعد حمدِ اللهِ على مزيد آلائه، وشكره على ما تفضَّل به من جزيل جزائه" وبعد كلام: "أحببتُ أنْ أجمعَ ما وجدتُ من كلامه مستعينًا بالله». كُتِبَتْ هذه النسخة سنة ١٠٠٢ وليس فيها ما يدل على اسم جامعها إلا أنَّ بآخرها: «مِن نِعَمِ اللهِ على العبد الفقير محمد بن محمد اليمانى". 

وقد طُبع ديوان البهاء زُهير منذ عهدٍ قديمٍ بمصر، وأعيد طبعه مِرارًا، وطُبع فى بيروت وغيرها، وأولى طَبَعاته طبعة حَجَرية بمصر سنة ١٢٧٧ ﻫجرية، وتليها طبعةٌ حجريةٌ أخرى سنة ١٢٧٨ ﻫجرية بمصر أيضًا.

وللبهاء ديوان شعر طُبع بكامبريدج سنة ١٨٧٦م، وطبع بباريس سنة ١٨٨٣م، وطُبعَ بمصر أكثر من مرة. 

ونشرته دار صادر سنة ١٩٦٠ معتمدةً نسخة كامبريدج ونسخة بيروت التى أصدرتها المكتبة العمُومية، تصحيح وتقديم الدكتور إحسان عبَّاس.

وترجمَهُ إلى الإنجليزية إدوارد هنرى بالمر Edward HenryPalmer‏ "١٢٥٦-١٢٩٩هـ/١٨٤٠-١٨٨٢م".

ففى العام ١٨٧٦ ميلادية أصدر الجزء الأول من "ديوان البهاء زهير" بعنوان ThePoetical Works ofBeha-ed-DinZoheir، مع تعليقات وهوامش، وفى أوَّله مقدِّمَةٌ تشتملُ على ما للشِّعْر من منزلةٍ ساميةٍ عند العرب، وعلى ترجمةِ صاحب الديوان، والثَّانى ترجمة للديوان بالإنجليزية منظومةً شِعْرًا وعليها شُرُوح، طبعه بالمر مُدَرِّسُ اللغةِ العربيةِ بمدرسةِ كامبريدج الذى قتله بعضُ العرب ببادية طور سيناء سنة ١٨٨٢ ميلادية أثناء الحوادث العرابية، وهذه قصةٌ طويلةٌ تصلحُ أن تكونَ روايةً وثائقيةً شائقةً.

ويرى باﻠﻤﺮ، فى مقدِّمتِهِ لديوان البهاء زُهير أنَّ عصر الشَّاعر المصرى كان أكثر العصُور صِلةً بين الثقافةِ العربيَّة وثقافة الغَرْب، بسبب الحُرُوب الصليبيَّة وما تبِعها من استقرارِ مملكةٍ غَرْبيَّةٍ فى فِلَسطِين زمنًا، ويقول: إنَّ شعرَ البهاءِ زهيرٍ يُشابِهُ الشِّعْرَ الأوروبى، وأكثر أفكاره تُحاذى أفكارَ الشُّعراء الإنجليز فى القرن السَّابع عشر الميلادى.

وورد فى طبعة باﻠﻤﺮ أنَّ الذى جمَعَ ديوان البهاء زُهير بعد وفاته هو شرف الدين، وأنَّ ذلك مذكورٌ فى نسخةٍ حسنةٍ موجودةٍ بمكتبة أكسفورد اعتمد عليها الطَّابع فى التصحيح. وشرف الدين، هو أبوالعبَّاس أحمد بن محمد بن أبى الوفاء بن خطاب، المعروف بابن الحلاوى المَوْصِلِى الأصل، الدِّمَشْقى المولد والدار.

ويقول إدوارد كرنيليوس فانديك "توفى ١٣١٣هـجرية" فى "اكتفاء القنوع بما هو مطبوع": "إنَّ ديوان البهاء زُهير طبع أيضًا فى باريس سنة ١٨٨٣ ميلادية مع القراءات المتنوِّعة للمتن الأصلى العربى".

وقد ذكر المستشرق الفرنسى كليمان هُوارْتْ «بالفرنسية: "Clément Huart"‏ "١٢٧٠ - ١٣٤٥ هـ/ ١٨٥٤ - ١٩٢٧م" فى كتابِهِ "الأدب العربى": إنَّ شعر بهاء الدين زهير المهلَّبِى، كاتب السرِّ فى الدولة المصرية، يجعلنا ندركُ ما بلَغه لسانُ العرب من المُرُونة والاستعداد للتعبير عن أُلوفٍ من دقائق العواطف التى صقلتها مدنية خلفاء صلاح الدين الزاهية.

وقد اعتمدتُ فى التعريف بالبهاء زهير على ما ذكره ابن خِلِّكَانْ "٦٠٨هـجرية/١٢١١ميلادية - ٦٨١ هـجرية/١٢٨٢ميلادية" فى كتابه "وَفَيَاتُ اَلْأَعْيَانِ وَأَنْبَاءِ أَبْنَاءِ اَلزَّمَانِ"، الذى هو أشهر كتب التراجم العربية، ومن أحسنها ضبطًا وإحكامًا حيثُ يقولُ: "كنتُ أودُّ لو اجتمعتُ به، لِمَا كنتُ أسمعُ عنه، فلمَّا وصل اجتمعتُ به ورأيتُه فوق ما سمعتُ عنه: من مكارم الأخلاق وكثرة الرياضة ودماثة السَّجايا، وكان مُتمكِّنًا من صاحبه الملك الصالح نجم الدين أيوب (١٢٠٥ميلادية/ ٦٠٣ هـجرية - ١٢٤٩ميلادية/ ٦٤٧ هـجرية)، كبيرَ القدر عنده لا يطَّلع على سرِّه الخفى غيره، ومع هذا كله فإنه كان لا يتوسَّطُ عنده إلا بالخير، ونفعَ خلقًا كثيرًا بحُسن وساطته وجميل سفارته".

"وشعر البهاء زهير كله لطيف"، "السهل الممتنع"، ويقول عنه الشيخ مصطفى عبدالرازق: "لستُ أعرف شاعرًا نفخت مصر فيه من رُوحها ما نفخت فى البهاء زهير، فهو مصرىٌّ فى عواطفه، وفى ذوقه، وفى لهجته إلى الغاية القصوى". ولا بد من عبقريَّةٍ كعبقريَّةِ البهاءِ زهيرٍ لتُوَفَّقَ هذا التوفيق فى إِنْشَاءِ أشعار من الطراز الأوَّل، يطرَبُ لها الخاصَّةُ، ولا تكُونُ العامةُ أقلَّ بها طَرَبًا، بلسانٍ هو لسان التحاور ولسان البيوت والأسواق "وكان البهاء زهير من فضلاء عصره، وأحسنهم نظمًا، ونثرًا، وخطًا".

ولو كُنتُ ممَّن يضعُون المناهجَ فى المرحلة الثانوية لقررتُ فى مناهجها الخُطبة التى كتبها البهاء زهير - بتكليفٍ من الملك الصالح نجم الدين أيوب - ردًّا على رسالة على لويس التاسع ملك فرنسا "بين عامى ١٢٢٦ و١٢٧٠ ميلادية" التى يُهدِّد فيها بغزو مصر واحتلالها.

يقول المقريزى «٧٦٤ ـ ٨٤٥ هـجرية/ ١٣٦٤ - ١٤٤٢ ميلادية» إنه فى يَوْم الْجُمُعَة لتسْع بَقينَ من شهر صفر وصلت مراكب الفرنج البحرية وفيهَا جموعهم الْعَظِيمَة صُحْبَة ريدافرنس أى - ملك فرنسا - وَيُقَال لَهُ الفرنسيس واسْمه لويس ابْن لويس.

و"ريدا فرنس" لقب بلغَة الفرنج مَعْنَاهُ ملك أفرنس - وَقد انْضَمَّ إِلَيْهِم فرنج السَّاحِل كُله فأرسوا فِى الْبَحْر بإزاء الْمُسلمين.

وسيَّر ملك الفرنج إِلَى السُّلْطَان كتابًا نَصه بعد كلمة كفرهم: أمَّا بعدُ، فإنه لم يخفَ عليك أنِّى أمينُ الأُمَّةِ العِيسويَّةَ، كما أنه لا يخفَى علىّ أنَّك أمينُ الأمة المحمدية. وغير خافٍ عليك أن عندنا أهلَ جزائرِ الأندَلُس وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا، ونحن نسوقُهم سَوقَ البقر، ونُقتِّل الرجالَ، ونرمِّلُ النساءَ، ونستأثر بالبناتِ والصِّبيان، ونُخلى منهم الديارَ. وأنا قد أبديتُ لك الكفايةَ، وبذلتُ لك النصيحةَ إلى الغاية والنهاية؛ فلو حلفتَ لى بكُلِّ الأيمان، وأدخلتَ علىَّ القُسَس والرُّهبان، وحملتَ قُدَّامى الشَّمعَ طاعةً للصُّلْبان؛ لكُنتُ واصلًا إليك، وقاتلَك فى أعزِّ البقاع عليك؛ فإما أن تكون البلادُ لى- فيا هدية حصلت فى يدى - وإمَّا أن تكونَ البلادُ لك والغلبة علىَّ، فيدُك اليمنى مُمتدَّةٌ إلىَّ. وقد عرَّفتك وعرفت ما قلتُ لك، وحذَّرْتك من عساكر حضرتْ فى طاعتى تملأ السَّهلَ والجبلَ، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء.

فلمَّا قُرِئ الكتابُ على السُّلطانِ وقد اشتدَّ به المرضُ بَكَى واسترجع، فكتب القاضى بهاء الدين زهير بن محمد الجواب: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ، وصلواته على سيدنا مُحَمَّدٍ رسول اللهِ وآله وصحبه أجمعين. أما بعدُ، فإنه وصل كتابُك وأنت تهدِّد فيه بكثرة جيُوشك وعدد أبطالك، ونحن أربابُ السيوف، وما قُتِلَ مِنَّا قِرْنٌ إلَّا جَدَّدناه، ولا بَغَى علينا باغٍ إلا دَمَّرناه؛ فلو رأتْ عينُك أيها المغرورُ حدَّ سيوفنا، وعِظَم حُرُوبنا، وفَتْحنَا مِنْكُم الحصُونَ والسَّواحلَ، وتخريبَنا ديار الأواخر منكم والأوائل؛ لكان لك أن تَعَضَّ على أناملك بالندَم، ولا بدَّ أن تَزِلَّ بك القدم، فى يوم أوَّلُه لنا وآخره عليك؛ فهنالك تسىء الظنون وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ، فإذا قرأتَ كتابى هذا فتكون منه على أوَّلِ سورة النحل: أَتَىٰ أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ، وتكون أيضًا على آخر سورة ص: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ، ونعود إلى قَوْلِهِ تَعالى وهو أصدقُ القائلين: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. وقول الحكماء: "إنَّ البَاغِى لَهُ مَصْرَعٌ"، وبَغْيُك يَصْرَعك، وإلى البلاء يُسلمك.. والسلام.

وكانت بعدها هزيمة لويس التاسع - الذى كان يقود الحرب الصليبية السابعة - فى معركة المنصورة.

ومن يقرأ ديوان البهاء زهير سيلحظ أنَّنا أمام بهاءين:

"بهاء الغزل حيثُ إنهُ الموضُوعُ الرئيسُ فى شِعره الذى جاء محمولًا على اللغة اليومية، فهو كما يذكرُ شوقى ضيف (١٣ من يناير ١٩١٠ - ١٠ من مارس ٢٠٠٥ ميلادية)، فى كتابه تاريخ الأدب العربى الطبعة: الأولى، ١٩٦٠ ميلادية" يتغنّى بالحُبِّ وتباريحه فى تدفُّقٍ وانطلاقٍ، وقلما نجدُ عندهما معًا رواسب تصويرية من تقليد القدماء"، و"بهاء المديح"، حيث الجزالة والقوة، وهذا النوع من القصائد قليل فى الديوان وثانوى إذا ما قُورن بعدد قصائد الغزل والشَّوق التى تمثل المتنَ الرئيسَ فى ديوانه الذى وصل إلينا سواء أكان كاملًا أم منقوصًا.

وأنا أقرأ البهاء زُهير وجدتُّ أنَّ نزار قبانى "١٣٤٢ - ١٤١٩ هـجرية / ١٩٢٣ - ١٩٩٨ ميلادية" قد تأثَّر كثيرًا بشعر البهاء لغةً ورُؤى، وقد لاحظ غيرى ذلك، ولو قرأنا قصيدة البهاء التى تقعُ فى اثنين وثلاثين بيتًا، والتى يقول فيها: 

"أنا فى الحُبِّ صاحبُ المُعجزاتِ جئْتُ للعاشقينَ بالآياتِ

كانَ أهلُ الغرامِ قبلى أُميّــــينَ حتى تلقَّنوا كلماتى

فأنا اليومَ صاحبُ الوقتِ حقًّا والمحبُّونَ شِيعتى ودُعاتى

ضُرِبَتْ فيهم طبولى وسارتْ خافقاتٍ عليهمُ راياتى

أنتَ رُوحى وقد تملكتَ رُوحى وحياتى وقد سلبت حياتى

متُّ شوقًا فأحينى بوصالٍ أُخبرُ الناسَ كيفَ طعمُ المماتِ"

لاكتشفنا بسهولة أن نزار قد أعاد صياغة هذا النصِّ بلغةٍ ليست بعيدةً عن لغة البهاء التى تتسمُ بالبساطةِ والعذُوبةِ، حيثُ "جعل لغة الحياة الجارية فى بَسَاطتها ومُرونتها لغةً للشِّعْر بعد تطبيقها على قواعد الإعراب، وتقويم ما فيها من اللَّحنِ جهد المستطاع؛ وجَرَى على ذلك فيما كانت تجيشُ به نفسه، وتفيضُ به عواطفه من فنون الشِّعْر".

ويذكر ابن تغرى بردى "٨١٣ - ٨٧٤ هـجرية"، فى كتابه الشهير "النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة" أنه قبل موت الملك الصالح نجم الدين أيوب بمُدَيْدة يسيرة وهو نازل على المنصورة، تغيَّر على بهاء الدين زهير، وأبعده لأمرٍ لم يطلع عليه أحد. قال: حكى لى البهاء زهير أنَّ سببَ تغيُّره عليه: أنه كتب عن الملك الصالح كتابًا إلى الملك الناصر داود صاحب الكرك "فى الأردن الآن"، وأدخل الكتاب إلى الملك الصالح ليعلِّم عليه على العادة؛ فلما وقف عليه الملك الصالح كتب بخطِّه بين الأسطر: "أنت تعرفُ قلة عقل ابن عمى، وأنَّه يحبُّ مَن يَصِله ويُعطيه مِن يده، فاكتب له غير هذا الكتاب ما يعجبه"، وسيَّر الكتابَ إلى البهاء زهير ليُغيِّره والبهاء زهير مشغول، فأعطاه لفخر الدين إبراهيم بن لقمان، فأمَره بختمه فختمه وجهَّزه إلى الناصر على يد نَجَّاب ولم يتأمله، فسافر به النجَّاب لوقته، واستبطأ الملك الصالح عود الكتاب إليه ليُعلِّم عليه، ثم سأل عنه بهاء الدين زهيرًا بعد ذلك وقال له: ما وقفتَ على ما كتبتهُ بخطِّى بين الأسطر؟ قال البهاء: ومَنْ يجسر أن يقف على ما كتبه السلطان بخطه إلى ابن عمه؟ وأخبره أنه سيَّر الكتاب مع النجَّاب؛ فقامت قيامةُ السلطان- الذى كان قد اتخذه وزيرًا وصديقًا مُحبَّبًا له ومُقرَّبًا منه - وسيَّروا فى طلب النجَّاب فلم يدركوه، ووصل الكتابُ إلى الملك الناصر بالكَرَك، فعظُم عليه وتألَّم له.

وقد عاش البهاء زهير- الذى لم يروِّج للسلطان ولم يتزلَّف له ولم ينافقه- سنواته الأخيرة فقيرًا معدمًا حتى اضطر إلى بيع ما يملكه وكتبه. وفى سنة ٦٥٦ هـجرية - وهى السنة التى سقطت فيها بغداد على يد التتار- وقع وباءٌ عظيمٌ بمصر، وكان من ضحاياه، فتوفى ودُفن قرب قبة الإمام الشافعى، لقد مات بعدما انكشفت حالُه حتَّى باع موجودَه وكُتُبَه وأقام فى بيته بالقاهرة حتى أدركه أجلُه، وهو القائل:

«ولمْ أرَ مصرًا مثلَ مصرَ تروقُنى 

ولا مثلَ ما فيها من العَيْش والخَفْضِ

وبعدَ بِلادى فالبلادُ جميعُها سواءٌ

فلا أختارُ بعضًا على بعضِ».

وأنا أقدِّم هذه المختارات من شِعْر البهاء زهير، وضعتُ عناوين لقصائده؛ إذْ كان شعره خاليًا من العناوين.