رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عاوز تقرَّب؟.. جرَّب!

مائة يوم من الحرب في غزة، كلفت إسرائيل أربعين مليار دولار، بخلاف ضحاياها من الجنود وما خسرته من العتاد، على أيدي قوات المقاومة في القطاع الصامد حتى الآن، دون أن يحقق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتياهو وحكومة حربه أي هدف من أهدافه التي أعلنها، عقب عملية المقاومة داخل إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي.. فلا هو استرد رهائنه بالقوة المسلحة، بل تم الإفراج عن جزء منهم بالمفاوضات مع حماس، ولا هو قضى على هذا الفصيل المسلح أو أضعف قوته العسكرية، بل إن ما حدث حتى اليوم أحدث شرخًا داخل مجلس الحرب في تل أبيب، وخرجت المظاهرات ضده، مطالبة بوقف الحرب على غزة لاستعادة ما تبقى من الرهائن لدى حماس وفصائل المقاومة.. لذلك، تحدث نتنياهو بنبرة تحدٍ بمناسبة مرور اليوم المائة على الحرب ضد حماس في غزة، متعهدًا بمواصلة القتال، على الرغم من تزايد عدم اليقين بشأن النتيجة، والقلق الدولي من الخسائر المتزايدة في الأرواح في القطاع، والمخاوف من اندلاع حريق إقليمي أوسع.. وجاء تعهده بالاستمرار حتى (النصر الكامل) في الوقت الذي تنتظر فيه إسرائيل قرارًا من محكمة العدل الدولية بشأن أمر قضائي محتمل، ضد الهجوم المدمر لجيشها على غزة، الذي أسفر، حتى كتابة هذه السطور، عن مقتل أكثر من أربعة وعشرين ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وتشريد معظم سكان القطاع.. وقد حذرت تصريحات نتنياهو وتعليقات الجيش الإسرائيلي من صراع طويل، وكشفت عن تنافر متزايد بين التصور المحلي لتوقيت الحرب وأهدافها، ونفاد الصبر الدولي المتزايد في مواجهة الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة.. الأمر الذي دعا الولايات المتحدة، أهم حليف لإسرائيل، إلى حث تل أبيب على تقليص حملتها، في حين دعت دول أخرى كثيرة إلى وقف فوري لإطلاق النار.. لكن نتنياهو راح يواصل أحلامه، (نحن نواصل الحرب حتى النهاية، حتى النصر الكامل، حتى نحقق جميع أهدافنا.. القضاء على حماس، وإعادة جميع رهائننا، وضمان أن غزة لن تشكل مرة أخرى تهديدًا لإسرائيل).. فهل هذه حقًا أهداف نتنياهو؟.
لقد سعى نتنياهو إلى إقناع القادة الأوروبيين بالضغط على مصر لقبول لاجئين من غزة، وطرحت الفكرة في اجتماعات مع مسئولين أوروبيين، من قِبل دول من بينها جمهورية التشيك والنمسا، ومع ذلك، رفضت دول أوروبية رئيسية، لا سيما فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، الاقتراح، باعتباره غير واقعي، إلى جانب رفض مصر المستمر لفكرة قبول اللاجئين من غزة، حتى على أساس مؤقت.. وقد أعربت القاهرة بصوت عالٍ عن رفضها، لأن إسرائيل ستسعى إلى استخدام الأزمة لفرض مشاكلها مع الفلسطينيين على مصر، وقال الرئيس عبدالفتاح السيسي إن مصر ترفض (أي محاولة لتصفية القضية الفلسطينية بالوسائل العسكرية أو من خلال التهجير القسري للفلسطينيين من أرضهم، الأمر الذي سيأتي على حساب دول المنطقة).. واتفق القادة الأوروبيون في نهاية المطاف، على أنه يكفي مصر أنها تقوم بدور مهم في تقديم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ولكن لا يجب الضغط عليها لقبول اللاجئين.
وكانت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية قد صاغت اقتراحًا بنقل سكان قطاع غزة، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، إلى شبه جزيرة سيناء.. وقد أدى ذلك إلى تصاعد التوترات مع مصر، وإدانة قوية من الفلسطينيين.. وفي حين قلل مكتب رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، من أهمية التقرير، واصفًا إياه بأنه (ورقة مفاهيمية) وممارسة افتراضية، إلا أن الاقتراح أثار المخاوف بشأن نوايا إسرائيل تجاه غزة، وأثار ذكريات مؤلمة للفلسطينيين عن تهجيرهم عام 1948.. في تقريرها المؤرخ في الثالث عشر من أكتوبر الماضي، عرضت وزارة الاستخبارات ثلاثة بدائل (لإحداث تغيير كبير في الواقع المدني في قطاع غزة، في ضوء ـ ما أسمته ـ جرائم حماس التي أدت إلى حرب سيف الحديد.. ويقترح الخيار الأكثر تفضيلًا نقل السكان المدنيين في غزة إلى مدن الخيام في شمال سيناء، يليه بناء مدن دائمة وممر إنساني.. كما سيتم إنشاء منطقة أمنية داخل إسرائيل لمنع الفلسطينيين المشردين من العودة.. ولم تحدد الورقة مصير غزة بعد ترحيل سكانها.. وفي هذه المرة، جاء الرد فلسطينيًا، على لسان نبيل أبوردينة، المتحدث باسم الرئيس الفلسطيني محمود عباس، نحن ضد النقل إلى أي مكان، بأي شكل من الأشكال، ونعتبره خطًا أحمر لن نسمح بتجاوزه.. ما حدث عام 1948 لن نسمح بحدوثه مرة أخرى.. وسيكون ذلك بمثابة إعلان حرب جديدة).
الحرب على غزة أثبتت فشل نتنياهو وحكومته، وصور المأساة هناك هزت العالم، رغم أنها لم تهز معظم الساسة الغربيين.. لذا، فإن هذه الحرب التي يشنها نتنياهو المأزوم، تُنتج اليوم طبقة سياسية راحلة على ركام وآهات الغزاويين، بدءًا بنتنياهو، وليس انتهاءً بالرئيس الأمريكي جو بايدن.. وما الحاضر الذي نعيشه والمأساة في القطاع، ليست سوى فصل من تاريخ أسود ينتهي بسواد أكبر، الشاهد عليه الإجرام، والشهيدة هي غزة.. والمأساة التي سيتركها نتنياهو ستكنس معه حلفاءه جميعًا.. لقد حاول نتنياهو حشد كل جهد، ليأخذ هذا الدعم من بايدن، وحاول أن يخوض معركته الأخيرة، غير آبه بالنتائج الميدانية، بقدر محاولته الخروج من المشهد بصورة المنتصر في عيون الشارع الإسرائيلي، عله يمحو ما لحق به من قضايا فساد، حتى لو أجمع العالم على أنه مجرم حرب.. وهنا لا بد من النظر إلى ما قاله نتنياهو، بشأن محكمة العدل الدولية، (لن يوقفنا أحد، لا لاهاي ولا محور الشر ولا أي شخص آخر) وأقرَّ بأن الحرب (ستستغرق عدة أشهر)، وفي معرض حديثه عن الذين وصفوا هدف الحكومة الإسرائيلية بتدمير حماس، بأنه غير واقعي، قال إن (هذا ممكن، ضروري، وسنفعل ذلك).
أزمة نتنياهو الآن أن قواته اجتاحت شمال قطاع غزة ووسطه، وفقد جيشه المئات من جنوده والعديد من عتاده العسكري ومدرعاته وآلياته، فخر الصناعة الإسرائيلية، كما يدعون.. لكن هجمات المقاومة لم تتوقف، وإطلاق صواريخ حماس على تل أبيب وبقية المدن المحتلة لم تتوقف، حتى من شمال القطاع.. وعاد وقال إن المقاومة وقادتها انتقلوا، عبر الأنفاق، إلى وسط القطاع، فاجتاحه ولم يعثر على شيء، ولم يحقق انتصارًا، وكأنه يحارب أشباحًا.. ثم انتقل للحديث عن هروب قادة حماس إلى خان يونس وضواحيها، وأن مراكز قيادة المقاومة تقبع هناك، لكنه لم يصل إلى نتيجة، بل ذاقت قواته الهوان على أيدي رجال المقاومة.. وكل ما فعله جيش الاحتلال هو الإيقاع بآلاف جديدة من الشهداء، وتحويل المزيد من قطاع غزة إلى ركام، ودفع بأهالي القطاع كلهم إلى رفح، لعل اللحظة التي ينتظرها تأتي، وهي أن يتجه أهالي غزة نحو الحدود مع مصر، ومن ثم إلى سيناء، لكنه صُدم بهذه الإرادة الفلسطينية على التمسك بالأرض، ناهيك عن الرفض المصري الثابت لأي محاولة تهجير قسري إلى أراضي سيناء.. فماذا بقي لنتنياهو ليفعله، وهو الباحث عن أي نصر، بحفظ ماء وجهه، ويُبقي عليه داخل السلطة في إسرائيل؟.
لم يبق أمام نتنياهو إلا رفح ومحور صلاح الدين المعروف بمحور فيلادلفيا ـ الشريط الحدودي بين مصر وقطاع غزة، بطول أربعة عشر كيلومترًا، وهي الحدود الوحيدة للقطاع التي لا تسيطر عليها إسرائيل مباشرة ـ حتى يكون قد أتي على كامل القطاع.. لذلك قال (لن ننهي الحرب في المنطقة الجنوبية، دون أن نغلق الثغرة التي تدخل منها الأسلحة إلى غزة، سنعمل من أجل أن ننزع السلاح عن غزة، من خلال إغلاق هذه الثغرة الجنوبية.. نحن نفحص إمكانية إغلاقها، ولكننا لم نتخذ قرارًا بهذا الشأن بعد)،. وفي الحادي والثلاثين من ديسمبر الماضي، قال نتنياهو، إنه يتعين أن تسيطر إسرائيل بشكل كامل على محور فيلادلفيا، لضمان (نزع السلاح) في المنطقة.. محور فيلادلفيا، أو بعبارة أدّق نقطة التوقف الجنوبية في غزة، يجب أن يكون تحت سيطرتنا. يجب إغلاقه.. من الواضح أن أي ترتيب آخر لن يضمن نزع السلاح الذي نسعى إليه.. إلا أن الناطق باسم الخارجية المصرية، أحمد أبوزيد، أكد، ردًا على تصريحات نتنياهو، على أن مصر تضبط وتسيطر على حدودها بشكل كامل، وأن تلك المسائل (تخضع لاتفاقيات قانونية وأمنية بين الدول المعنية)، وشدد على أن أي حديث في هذا الشأن يخضع للتدقيق، ويتم الرد عليه بمواقف معلنة.. وحذرت القاهرة الجانب الإسرائيلي من القيام بأي عمليات عسكرية على محور فيلادلفيا، وقدنقلت تحذيرها بخصوص تلك النقطة أيضًا إلى الجانب الأمريكي.
■■ وبعد..
فإن مصر تقوم بدور إيجابي، باحتواء التصعيد في غزة ومحاولة تهدئة الأمور والوصول إلى إيقاف لهذا الصراع، وأيضًا وقف لإطلاق النار بشكل أو بآخر، وإيقاف نزيف الدماء الذي يتم في هذا الوقت، وفي نفس الوقت، نسعى جاهدين للتعاون مع الأشقاء والأصدقاء والشركاء، من أجل احتواء التصعيد ومساندة المدنيين في قطاع غزة بالمساعدات التي هم بحاجة لها.. أو كما قال الرئيس عبدالفتاح السيسي، (نحن نبذل جهودًا لتخفيف المعاناة عن أهل قطاع غزة، في ظل عدم توفر المواد الطبية والأساسية والغذائية منذ السابع من أكتوبر)، وهذا دور مصر دائمًا، فخلال العشرين سنة التي مضت، حدثت خمس جولات صراع بين إسرائيل وحماس والجهاد الإسلامي والجماعات الموجودة في القطاع، وكان لمصر دائمًا دور إيجابي، (من المهم حل القضية الفلسطينية من خلال الحل الدبلوماسي وعلى أساس حل الدولتين، الذي يعطي الأمل للفلسطينيين وتوجد دولة لهم على الأراضي التي احتلت في 1967 وعاصمتها القدس، ويراعي الأمن في نفس الوقت للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي).
(وهنا يجب أن أؤكد ـ يقول الرئيس السيسي ـ أن مصر عبر التاريخ لم تتجاوز حدودها، وكان هدفها الدائم هو الحفاظ على أرضها وترابها دون أن تمس.. ومن المهم هنا أن أقول، إن الجيش المصري بقوته وقدرته وكفاءته، هدفه حماية مصر وأمنها القومي فحسب دون تجاوز.. واليوم بعد خمسين سنة، من المهم أن نستخلص الدروس والعبر ونستمر في ذلك، وأريد أن أقول لكم، إن الحديث يكثر اليوم عن الأمن القومي والحفاظ عليه، وهذا دور أصيل ورئيسي للقوات المسلحة، وهو حماية الحدود المصرية وتأمين الأمن القومي المصري ومصالح مصر).
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.