رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لغز.. مذكرات نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

أقنعنا أديبنا العالمى نجيب محفوظ طوال حياته- خاصة بعد حصوله على جائزة نوبل- أنه لم يكتب مذكراته رغم أنه اعترف للكاتب المسرحى فؤاد دوارة قائلًا: «حين قرأت الأيام لطه حسين، ألفت كراسة- أو كتابًا- كما كنت أسميها وقتذاك (الأعوام) رويت فيها قصة حياتى على طريقة طه حسين، وألفت كراسة أخرى وضعت فيها فلسفتى فى الحياة والكون والخالق، ومع قراءاتى للمنفلوطى كنت أؤلف (نظرات) و(عبرات)، وأذكر أنى فى هذه الفترة كتبت الشعر، هذا يرجع إلى سنتى 1925 و1926، كانت كلها (القصائد) فى بادئ الأمر تدور حول الحب، وربما ذكرت فى بعض القصائد علاقات معينة وأسماء بطلاتها».

إذن فقد كتب نجيب محفوظ مذكراته شعرًا ونثرًا، ولكنه لم ينشرها، وعندما حاولت بالإلحاح على نجيب محفوظ أن أعرف منه مصيرها، تخلص من إلحاحى بعصبية نادرًا ما نلحظها عليه- نحن جلساء ندواته- وقال لى: حرقتها! وذلك حتى لا أعود لسؤاله مرة أخرى، وعندما كنت أتطرق لسؤاله عن بعض جوانب حياته الشخصية لم يكن يتجاوب معى كثيرًا، حتى إننى أذكر أن د. فتحى هاشم- الذى أنقذه من طعنة السكين الغادرة إبان محاولة اغتياله فى أكتوبر ١٩٩٤- قال لى: الأستاذ نجيب لا يريدك أن تسأله أسئلة شخصية. ففهمت أن هذا طلب محفوظ نفسه وإن لم يرد حرجًا أن يوجهه لى بنفسه، وقد تأكد لى ذلك من ملاحظته لى حينما نشرت بعضًا من جوانب حياته الزوجية والأسرية بمجلة «نصف الدنيا» أيام تألقها فى عصر مؤسستها سناء البيسى، ففوجئت بنجيب محفوظ يقول لى أمام جلسائه فى لقائنا به فى فندق «شبرد»: متى ستنتهى من حلقاتك؟- ولحسن الحظ كانت الخاتمة- فأجبته مطمئنًا: إنها الأخيرة. فصمت راضيًا.

ولما كثرت الأسئلة حول سيرته الذاتية، خاصة بعد حصوله على جائزة نوبل، قال متواضعًا: «ربما لأننى أرى أن الذى يكتب سيرته الذاتية للناس، يرى أن فيها ما يستحق مجهوده فى الكتابة ومجهود الناس فى القراءة، وأصارحك حين أقول إن معظم السير الذاتية التى استمتعت بها كقارئ كانت لزعماء سياسيين أو قادة عسكريين، وذلك لما تركوه من بصمات فى التاريخ، حيث كانت حياتهم جزءًا لا يتجزأ من حياة أممهم، وقد قارنت ذلك بحياتى الرتيبة العادية سواء فى الصغر أو فى الكبر، فوجدت أن حياتى لا تستحق كتابة سيرة ذاتية».

ولكن هل كان هذا هو رأى نجيب محفوظ الحقيقى فى نفسه، أم أن هذا كان رأيًا يصدره لنا حتى نكف الحديث عن مطالبته بكتابة سيرته الذاتية، ليسد بعض شوقنا إلى هذه السيرة ببعض جوانب من حياته تحدث فيها مع جمال الغيطانى فى كتابه «نجيب محفوظ يتذكر ورجاء النقاش» فى كتابه «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته»، ثم حاول كاتب هذه السطور أن يجمع كل ما كتبه وصرح به محفوظ عن حياته فى سياق متتابع من الطفولة حتى حصوله على نوبل فى كتاب سميته «أنا نجيب محفوظ.. سيرة حياة كاملة»، وقد أهديته له فى حياته وأثنى عليه، وكتب لى على نسخة منه «مع تحياتى»، ولكن نجيب محفوظ فى كل ما تحدث به عن حياته لم يكن يعطى كل شىء أو حسب تعبيره «كنت أريد أن يرى القارئ منى ما أريد أن أقوله أنا له».

أما الحقيقة التى نجح محفوظ فى إخفائها عنا طويلًا وكثيرًا، فهى أنه كان عارفًا تمام المعرفة بقيمة نفسه، ولذلك كان يدوّن بخطه وقلمه كل أحداث حياته منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى تسعينياته عندما طعنه جاهل متطرف بسكينه الغادرة، ولكنه لم يشأ أن ينشر شيئًا من سيرته فى حياته وتركها للظروف، وكان يمكن لابنته هدى ألا تقوم بترتيب مكتبته، وينتهى مصيرها إلى سور الأزبكية أو إلى الضياع كما حدث لمكتبات كثير من كتابنا وأدبائنا وفنانينا فى ظل غياب نظام أو قانون يحفظ هذه الكنوز للأجيال القادمة، ولكن لحسن حظنا أن بنت نجيب محفوظ كانت واعية ومثقفة ومهتمة، فإذا بها تقدم لنا مفاجأتها التى للأسف لم يلتفت إليها أحد، وكأنها تحدثت لمحرر مجهول فى مطبوعة مجهولة!

ففى ندوة بنقابة الصحفيين أدارها الأديب والكاتب الصحفى د. محمد الباز حول الكتاب القيم لزميلنا محمود مطر عن نجيب محفوظ، تحدث أحد الحاضرين عن حرمان نجيب محفوظ لمحبيه من سيرته الذاتية التى لم يكتبها، وكأن هدى نجيب محفوظ لم تتحدث إلى محررنا الأدبى محسن عبدالعزيز، المشرف على ملحق أهرام الجمعة، لتطلق على يديه خبر الموسم، وهو عثورها أثناء إعادتها ترتيبها لمكتبة والدها نجيب محفوظ على مذكراته بخط يده فى كشكول ضخم بدأها من الثلاثينيات وحتى ١٩٩٥ حيث كتب آخر جملة فيها بعد نجاته من حادث اغتياله- فى البداية كان محفوظ يكتب بدون تواريخ، ثم راح يكتب تاريخ كل صفحة.

ومن حديث هدى نجيب محفوظ مع محسن عبدالعزيز نستطيع أن نخرج بمجموعة من الحقائق والإشكاليات فى نفس الوقت:

أولى هذه الحقائق أن نجيب محفوظ كان يخفى تمامًا أمر مذكراته حتى عن أسرته، ودليلنا أن ابنته هدى لم تكن تعلم وفوجئت هى نفسها بالمذكرات عن طريق الصدفة، وهى تعيد ترتيب المكتبة فى أغسطس ٢٠٢٢ فى ذكرى الأديب الكبير، أى بعد ستة عشر عامًا من رحيله.

ويمكن ملاحظة توقف نجيب محفوظ عن كتابة مذكراته حتى عام ١٩٩٥، حيث كتب آخر جملة فيها بعد نجاته من حادث اغتياله، وكأنه يقول إن حياته قد انتهت بهذا الحادث الفاجع، وما بعدها يهون، وما تبقى من حياته فهو فضل من الله يرجو أن يعيشه فى هدوء ودعة وتأمل، فضلًا عن أن إصابته قد انعكست على قدرة يده على الكتابة، فلم يعد يستطيع أن يخلو بنفسه مع نفسه ليستكمل مذكراته، ومن ناحية أخرى فهو لا يريد إملاءها على أحد مهما كانت ثقته به، لأنه عزم على أن يظل أمر مذكراته سرًا، تاركا أمرها للزمن وللأقدار، حتى فوجئت وفاجأتنا هدى بهذه الهدية الثمينة، وهى عليها أمينة وحريصة.

ولأن نجيب محفوظ لا يستطيع- رغم عدم قدرته على الكتابة- أن يتوقف عن الإبداع، فقد أملى وأهدانا رائعته «أحلام فترة النقاهة» التى تُرجمت للإنجليزية والفرنسية لأهميتها، ومن ثم لم يكن محفوظ يسلى نفسه كما قال أحد المحسوبين عليه من مدّعى القرب من الأديب الكبير، والذى حتى لم يراع البروتوكول وهو يتناول عملًا لأستاذ المبدعين وسيد الروائيين، ولعل مثل هذا الموقف وغيره من الادعاءات الباطلة، هو ما أفقد ثقة هدى نجيب محفوظ فى المثقفين أو بعضهم، فجعلها دائمًا حذرة تتوخى الحيطة فى التعامل معهم، وهو ما صرحت به لمحمود مطر فى حديثها المنشور بكتابه المشار إليه. 

وليس هناك أبلغ من قول هدى «ما كتبه أبى وسوف ننشره هو بالنسبة لى الحقيقة الكاملة»، ولها فى ذلك أسبابها لأنها أفضل وخير شاهد على حياة والدها، بل إنها فى بعض مشاهد سيرة محفوظ كانت طرفًا، فهى تعترف لأول مرة بأنه قال لها «الثورة- ٢٣ يوليو- قامت بالناس الغلط!»، وهو ما يؤكد نقده لها سواء فى إبداعاته، أو حتى فى حواراته الصحفية، ولا شك أنه فى مذكراته تحدث بصراحة مطلقة مع نفسه يومًا بيوم وحدثًا بحدث، ما يعطى ما كتبه بخط يده أهمية كبرى كشاهد من أهم شهود المرحلة وأشهرهم إبداعًا وصيتًا.

نأتى إلى إشكالية ما كتبه محفوظ عن وقائع وأشخاص قال فيها رأيه بكل صراحة، كما قالت هدى، فى حديثها لمحسن عبدالعزيز، معترفة بأنها مضطرة لحذف الأسماء خشية الإساءة إليها، خاصة أنها تمس بعض الأقارب، ومن ثمّ على القارئ أن يخمن باجتهاده عمن يقصدهم محفوظ بآرائه الصريحة، ولـ«هدى» العذر كل العذر، فهى إذا كانت حريصة على عدم الإساءة لأحد، فهى أيضًا حريصة على ألا تسىء لأبيها حتى لو كان هذا رأيه طالما أنه لم يعلنه فى حياته، ولعل حكمة هدى تتفق مع حكمة والدها نفسه حينما قال فى حديث له مقدرًا ظروف مجتمعاتنا الشرقية: «الناس لا تحب أن يكشف أحد أسرارها، والسيرة الذاتية نوع من كشف أسرار الآخرين، أنت لم تستأذنهم فى ذلك، وهم لم يسمحوا به، قد تكون لى أخت وخلافاتها مع زوجها عادية، ولكنها لا تحب أن يعرفها أحد، لو كتبت عنها لظنت أنى فضحتها فى الدنيا كلها، هذه بيئتنا وعلينا أن نسايرها».

ولعل هذا هو السبب الذى جعل نجيب محفوظ لا ينشر مذكراته رغم إدراكه لأهميتها، ولكنه أيضًا كان مدركًا لخطورة ما يكتبه، فعبر عن نفسه لنفسه، ثم ترك الأمر بعد ذلك لتقدير من سيقع عليه عبء نشر هذه المذكرات، ولعل نجيب محفوظ كان ينهج منهج الزعيم سعد زغلول- أحب الشخصيات التاريخية إلى نفسه- فقد كتب مذكراته بمنتهى الصراحة حتى على نفسه، وتركها بعد ذلك للمقادير، فنشرت كما هى لأنه لم تكن له ذرية تراجع وتحاذر وتحتاط، أما نجيب محفوظ فله ابنة وحيدة- بعد رحيل أختها فاتن رحمة الله عليها- وهى الحارسة لسيرة والدها العظيم والأمينة على تراثه، ومن ثم فإن مذكرات نجيب محفوظ تبقى مُصانة فى يد أمينة، ولكن يبقى السؤال: متى تنشرها هدى؟.

أطرح هذا السؤال الذى طرحته وغيرى كثيرون بالنسبة لمذكرات أسماء مصرية كبيرة تعامل ورثتهم مع مذكراتهم كإرث عقارى، أو كأوصياء يحق لهم التصرف فيها بصرف النظر عن أى اعتبارات أخرى، بعكس هدى التى تعاملت مع مذكرات نجيب محفوظ بشكل مختلف وراقٍ، ولو كانت لديها أى موانع فى حجبها ما تطوعت بالإعلان عن عثورها عليها، وإنما هى ستحذف منها فقط أسماء تناولها محفوظ بصراحة قد تسىء لهذه الأسماء وتحرج ورثتهم، وهو دفع معقول ومقبول، ويبقى سؤال هدى عن التوقيت الذى تراه مناسبًا لنشر المذكرات.. لقد مرت أكثر من سنة منذ إعلانها عنها.. نتمنى ألا يطول الوقت حتى يستمتع قراء العربية بآخر كتابات أديب مصر العظيم نجيب محفوظ بعد أن أمتعهم بأدبه على مدى حياته الحافلة التى أضاءت حياة المصريين والعرب إبداعًا وإنسانية، واستطاع وحده بجهاده وكفاحه أن يصل بأدبهم إلى العالمية.