رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحديات الأمن القومى والاقتصاد المصرى (4)

ترى القوى الأجنبية أن ليبيا غنيمة مرغوبة، إذ لديها أكبر احتياطيات من النفط والغاز في إفريقيا، بينما لا يتجاوز عدد سكانها سبعة ملايين نسمة.. ومن الناحية الاستراتيجية، تقع في الجهة المقابلة لأوروبا، ويمكن تصدير نفطها مباشرة إلى الأسواق في الغرب عبر البحر.. وبالنسبة للدول الأوروبية، تعد ليبيا أيضًا ممرًا رئيسيًا للمهاجرين القادمين من إفريقيا للوصول الى أوروبا عبر شواطئها الواسعة، التي تمتد لنحو ألفي كيلومتر على البحر الأبيض المتوسط.. فضلًا عن أن نمو تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات الإسلامية المتطرفة الأخرى يمثل كابوسًا لا يقتصر على الدول الإقليمية.. وقد بدأ الصراع الإقليمي على ليبيا عام 2011، مع اندلاع الحراك الشعبي ضد نظام العقيد معمر القذافي، بعد الاحتجاجات التي شهدتها مدينة بنغازي شرقي ليبيا في فبراير، وامتدت إلى مدن أخرى، وقمعها النظام بشدة، مما قاد إلى تدخل تحالف دولي بقيادة واشنطن ولندن وباريس وحلف الناتو، عبر حملة قصف جوي مكثفة، استهدفت مواقع قوات نظام القذافي.. وهنا، سارعت قطر والإمارات، المتنافستان على تحقيق نفوذ إقليمي، إلى دعم جماعات من المنتفضين بالمال والسلاح، فدعمت قطر المقاتلين ذوي الميول الإسلامية، واختارت الإمارات دعم قوى قبلية وشخصيات ذات نفوذ في منطقة الزنتان غربي ليبيا.
يقول مؤلف كتاب "تجزئة ليبيا: بنية النزاع المسلح وصيرورته"، الصادر في لندن، إن التنافس على شحنات الأسلحة والدعم الخارجي أدى منذ البداية إلى ظهور توترات بين الجماعات التي انتفضت على نظام القذافي، وأن تأسيس القوى الخارجية روابط مباشرة مع أطراف فاعلة على الأرض، قاد لاحقًا إلى واقع التشرذم والتجزئة الذي تعيشه ليبيا، بين هذه الأطراف المتصارعة على السلطة.
ويشير إلى أن قطر بدأت في إرسال أسلحة إلى عبدالفتاح يونس (وزير الداخلية السابق إبان حكم القذافي، الذي انشق وأصبح رئيس أركان ما عُرف بالجيش الوطني الليبي خلال الانتفاضة على القذافي) تحت إشراف المجلس الوطني الانتقالي الذي تشكَّل لقيادة الانتفاضة، ولكن بدءا من أبريل 2011 ظهرت شبكات داخل الفصائل المتنافسة في المجلس الوطني الانتقالي، حاولت الارتباط مباشرة مع حكومات إقليمية والحصول على دعم مباشر منها.. واستثمر علي الصلابي، الباحث الإسلامي والقيادي في جماعة الإخوان المسلمين المقيم في الدوحة، صلاته هناك لتوجيه شحنات الأسلحة اللاحقة إلى تحالف من الكتائب المسلحة المتأسلمة في بنغازي، وكان أخوه إسماعيل قياديًا فيه، كما كان وسيطًا في وصول شحنات أسلحة قطرية وسودانية إلى جماعتين تأسستا في مناطق نفوسة ونالوت والرجبان، في الجبل الغربي، يقودها أعضاء سابقون في الجماعة الإسلامية الليبية المسلحة.. وبالمقابل، نجح رجل الأعمال محمود جبريل، والدارس الصوفي ورجل الأعمال عارف النايض، في تحشيد دعم إماراتي لإرسال شحنات أسلحة إلى معارفهما في الزنتان، كما توسطا في صفقة إرسال أسلحة من السودان إلى مصراتة وبنغازي.. كما مد رجال أعمال وقادة عسكريون آخرون علاقات مع قطر والسودان.
تعزز نموذج الدعم الخارجي هذا بعد سيطرة الجماعات المسلحة المنتفضة على الحدود مع تونس في أبريل 2011، وزاد تدفق شحنات الأسلحة التي قدمتها قطر وقوى إقليمية عبرها، والتي وزعها في البداية، عبر الجبال، مجلس نالوت العسكري، وظهر مستشارون قطريون في العديد من المدن، من بينها الزنتان، وتركزت شحنات الأسلحة القطرية في البداية على كتائب المقاتلين في نالوت.. وشكل مسئولون إماراتيون غرفة عمليات في الزنتان، عملت مع المجلسين العسكريين، اللذين يقودهما أسامة الجويلي ومختار فرنانة، وتركزت شحنات الأسلحة الإماراتية على الزنتان منذ البداية.
لم تجد مصر بدًا من التلويح بورقة التدخل العسكري في ليبيا، بعد أن وافق مجلس الشعب "على إرسال قوات من الجيش المصري للقيام بمهام قتالية خارج حدود البلاد غربًا".. وقال الرئيس عبدالفتاح السيسي، خلال لقائه بمشايخ وأعيانٍ من قبائل ليبية في مؤتمر بالقاهرة، إن جيش مصر قادر على تغيير المشهد العسكري في ليبيا بشكل سريع وحاسم، لكنه لن يتدخل إلا بطلب من القبائل الليبية.. وبالفعل، أجاز مجلس النواب في طبرق شرقي ليبيا، المؤيّد للمشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، تدخّل مصر عسكريًا من أجل ما وصفه بـ"حماية الأمن القومي" للبلدين.
هذا الموقف المصري نحو ليبيا فرضته جملة عوامل، تمتد على طيف واسع من الاهتمامات الأمنية والاقتصادية، وحتى الأيديولوجية المتمثلة في مواجهة الإسلام السياسي، وحركة الإخوان المسلمين وتنظيمهم الدولي.. فعلى الصعيد الأمني، تمثل حدود مصر الغربية مع ليبيا، التي تمتد لمسافة نحو 1115 كيلومترًا، مصدر قلق وتهديدًا دائمًا، بوصفها ممرًا رئيسيًا لتهريب الأسلحة والمخدرات، فضلًا عن تسرب المسلحين وأعضاء الحركات الإسلامية المتطرفة، وقد شهدت مناطق الحدود الغربية، مثل صحراء الواحات والفرافرة المتاخمة للحدود الليبية، العديد من العمليات الإرهابية المسلحة.. وتشير دراسة نشرها موقع "آي إنترناشيونال ريليشن" البريطاني، إلى أن السلطات المصرية، إلى جانب نشرها الآلاف من قواتها المسلحة، والاستحكامات الأمنية التي تضعها على الخط الحدودي، من حقول ألغام أرضية وما شابه، والرقابة على الحدود التي يقوم بها الطيران العسكري- لجأت إلى استثمار علاقات النسب التي تربط قبائل الصحراء الغربية فيها بشرقي ليبيا، لمكافحة عمليات التهريب ونقل الأسلحة عبر الحدود، فعقدت اتفاقات مع بعض القبائل، من أمثال قبيلة أولاد علي، بشرقي ليبيا وبعض قبائل مطروح.
وتشكل المصالح الاقتصادية العامل الثاني الرئيسي الذي يتحكم في الموقف المصري، إذ كانت ليبيا شريكًا تجاريًا مهمًا لمصر قبيل الإطاحة بنظام العقيد القذافي.. وقد انخفضت نسبة الصادرات المصرية إلى السوق الليبية بنسبة 75% عام 2015.. ويضاف إلى ذلك الانخفاض الكبير في نسبة العمالة المصرية في ليبيا التي كانت تقدر، حسب تقرير لمنظمة الهجرة الدولية عام 2010، بنحو مليون ونصف المليون عامل، ويصل مجموع تحويلاتهم إلى نحو 33 مليون دولار أمريكي سنويًا.
بالتوازي.. بدأ التدخل التركي في الصراع الليبي، وكان عاملًا حاسمًا في إعادة توازن القوة وإنقاذ حكومة الوفاق في طرابلس، بعد أن وصلت القوات التي يقودها المشير حفتر إلى ضواحي العاصمة.. وقبل أن يُقر البرلمان التركي إرسال قوات إلى ليبيا، أمدت أنقرة حكومة الوفاق بمركبات مدرعة، وأدارت عمليات لطائرات مُسيّرة في المعارك لصالحها، مستخدمة عنوانًا فضفاضًا لتدخلها هناك، "تقديم المشورة والتدريب"، وبررت ذلك أيضًا بأنها تتدخل بناء على دعوة من حكومة مُعترف بها دوليًا، قد وقّعت معها اتفاقية للتنقيب عن مصادر الطاقة، فضلًا عن مذكرتي تفاهم، للتعاون الأمني والعسكري والسيادة على المناطق البحرية.
وتعتبر تركيا، ليبيا، البعيدة عنها جغرافيًا، موقعًا أساسيًا في استراتيجيتها في شرق وجنوب البحر المتوسط، ومدخلًا لمد نفوذها في شمال وشرق إفريقيا، وتحرص على التمسك بها بعد خسارتها السودان، التي مالت، بعد الانقلاب الذي أطاح بالرئيس عمر البشير، نحو المحور السعودي- الإماراتي.. وتقع المصالح الاقتصادية في مقدمة الدوافع وراء هذا الموقف التركي، إذ تسعى تركيا، التي تستورد معظم احتياجاتها من الطاقة، للحصول على حصة من نفط ليبيا، صاحبة أكبر احتياطي نفطي في القارة الإفريقية.. ويلعب العامل الأيديولوجي أيضًا دورًا رئيسيًا في الاندفاع التركي، للعب دور أساسي في ليبيا، عبر تبنيها دعم جماعة الإخوان المسلمين والجماعات المقربة منها، بعد سقوط حكم الإخوان في مصر، وإعلان الجماعة تنظيمًا إرهابيًا فيها.. وباتت ليبيا موضع المواجهة الرئيسي في هذا الصراع، حيث ألقت تركيا بكل ثقلها لدعم حلفائها في المعركة الدائرة هناك في مواجهة المشير حفتر والجماعات التي تحظى بدعم المحور المصري- الإماراتي- السعودي.
ومع الوقت، أفضت عملية السلام التي جرت بين الأطراف الليبية المتنازعة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة بقيادة رئيس الوزراء، عبدالحميد الدبيبة، وبتفويض للإشراف على انتخابات وطنية، كان من المقرر إجراؤها في ديسمبر 2021، لكن لم يكن هناك اتفاق على قواعد التصويت، مما تسبب في انهيار العملية برمتها.. فأعلن البرلمان في شرق ليبيا عن أن حكومة الدبيبة غير شرعية، وعيَّن حكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا.. ورفض الدبيبة قرارات البرلمان، وقال إنه لن يتنازل عن السلطة إلا بعد الانتخابات.. في هذه الأثناء، كانت فصائل غرب ليبيا، التي سبق أن اتحدت ضد حفتر، تتنازع مرة أخرى على النفوذ في طرابلس، في مناوشات من حين لآخر، ورأت بعضها في "باشاغا" أفضل فرصة لها للصعود والتقدم.. وحاول "باشاغا" دخول طرابلس بعد فترة وجيزة من تعيينه في مارس، لكن الفصائل الموالية للدبيبة منعت مرور موكبه.. وحاول مجددًا في مايو، لكنه غادر طرابلس بعد تبادل قصير لإطلاق النار.. ومع مرور الأشهر، تغيرت معالم التحالفات والائتلافات بين فصائل طرابلس، مع محاولة كل من الدبيبة وباشاغا استمالة الأطراف الرئيسية.. وفي شوارع طرابلس‭‭‭ ‬‬‬تكررت المناوشات بين الجماعات المتصارعة بسبب مناطق نفوذها.‬‬‬‬‬‬
■■ وبعد..
فعلاقات مصر وليبيا ممتدة عبر التاريخ، تربط الشعبين بأواصر من المحبة والوفاء والتضامن، وهذا ظهر جليًا فى تعاطى الموقف المصرى تجاه الأزمة الليبية منذ 2011، وحرص مصر على احتفاظ الدولة الليبية بكيانها الموحد كدولة وطنية، رغم الانقسام والاختلاف بين الأطراف الداخلية، وتدخل قوى فاعلة أجنبية فى تحديد مصيرها، بل حرصت مصر على حماية ثروات ليبيا من الإهدار والتوظيف السلبي كوقود للصراع الدائر.. وبالفعل، نجحت في التنسيق مع البعثة الأممية والمؤسسات الليبية في صياغة مسار تسوية اقتصادي، بعيدًا عن الصراعات السياسية والأمنية، لتنقذ ليبيا من سيناريو كان معدًا له لنهب ثرواتها ومقدراتها.. وازداد موقف مصر صلابة عندما كثَّفت كل مجهوداتها في حل الأزمة الليبية، على أن تكون مساعي الحل نابعة من الأطراف والمؤسسات الليبية، فضلًا عن مساعيها الدائمة والمتواصلة لحشد التأييد الدولي نحو موقف إيجابي للحل، وأن يكون حلًا عبر حوار ليبى- ليبى.. وعكس تعرض ليبيا لإعصار "دانيال"، فى مدينة درنة، تضامنًا كبيرًا، فكانت "مسافة السكة" أفعالًا وليست أقوالًا.
إلا أن التهديدات القادمة من الحدود الغربية لمصر عبر ليبيا ما زالت تمثل واحدة من مصادر التهديد الآخذة في التصاعد للمصالح الوطنية المصرية، فلم تتمكن السلطات التي تعاقبت على حكم ليبيا، منذ انهيار نظام القذافي، من وضع ليبيا على طريق الاستقرار السياسي، بل ظلت هناك مجموعة من المشكلات الجوهرية التي راحت تزداد تعقيدًا مع مرور الوقت، حتى بدأت عواقبها في تشكيل تهديدات إقليمية لدول جوار ليبيا، وازداد الوضع الداخلي فيها سوءًا على الأصعدة المختلفة، وبدأ القلق المصري والإقليمي والدولي من الوضع هناك يتزايد، خوفًا من تحول ليبيا إلى بؤرة داعمة ومساندة للتهديدات الأمنية التي تواجه دول الجوار.. ومن ثم، بات من المتوقع أن يشهد الموقف في ليبيا تحركات على المستويين الإقليمي والدولي، بهدف التعامل مع المتغيرات على أرض الواقع، ومع تطور طبيعة التهديد الذي يشكله الصراع السياسي الحالي في ليبيا.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.