رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التربية الفنية ودنيا المبدع الصغير

هل لنا أن نسأل السادة الأساتذة العظام من جيل الرواد في أكاديمية الفنون: لماذا تم الاكتفاء بإنشاء مدارس في تأهيل أطفالنا في مجال الفنون الموسيقية فقط؟!
لماذا لم يحرك نجاح تلك المدارس في تأهيل أصحاب المواهب في دنيا النغم أقرانهم أصحاب المواهب في مجالات الفنون الأخرى (التصوير والنحت والخزف والتمثيل والفنون المسرحية والفنون التراثية والشعبية.. وغيرها)؟!
لماذا لا يكون من أهداف أكاديمية الفنون تلك المؤسسة العظيمة أن تقدم للمجتمع مستويات مختلفة من التعليم التربوي والأكاديمي في كل مجالات الإبداع في مراحل التعليم قبل الجامعي، ثم الجامعي ويمكن للطالب الاكتفاء بتحصيل مرحلة ما؟!.
لماذا لا تقدم الأكاديمية برامج تأهيلية (كورسات) لراغبي الاستزادة في مجال دعم المهارات للممارسين في كل المجالات الإبداعية وفق نظم تقديم برامج التعليم المستمر؟!..
لقد عرف الفيلسوف "سنتيانا " الفن بأنه متعة جماليّة، أو لذة جماليّة، وغيره الكثير من الكتاب المحدثين يربطون بين مفهوم الفن ومفهوم الجمال، أو القدرة على توليده، أو المهارة في استحداث ما يطلق عليه متعة جماليّة... ويعرّف المفكر الألماني "لانج" الفن بأنه مقدرة الإنسان على إمداد نفسه وغيره بلذة قائمة على الوهم، وليس له أي غرض شعوري يرمي إليه سوى المتعة المباشرة..
ويؤكد تولستوي أن الفن ضرب من النشاط البشري الذي يتمثل في قيام الإنسان بتوصيل عواطفه إلى الآخرين، بطريقة شعوريّة إراديّة..
ووفق تلك المفاهيم التعريفية للفن ودوره، هل لنا أن نسأل عن أحوال تدريس التربية الفنية في بلادنا؟.. معلوم أن التربية الفنية في مسماها المكون من كلمتي "التربية" و"الفنية" ينبغي أن يساهم تدريسها في تحقيق هدف التربية المتكاملة لشخصية الطالب، باعتبار أن ممارسة الأنشطة الفنية من خلال مجالات الفنون الجميلة والتطبيقية باتت تمثل ضرورة تربوية، مع الاستفادة بمعطيات مختلف العلوم الإنسانية والحديثة، مثل: (علم النفس التربوي، وطرق التدريس، والمناهج، وطرق البحث العلمي، وفلسفة التربية، وفلسفة الفن، وعلم التاريخ وعلم الاجتماع، وعلم الإنسان)..
والتربية الفنية بمفهومها الحديث من وجهة نظر "رالف سميث"، قائمة على الاتجاه المعرفي والذي يشمل المحتوى العلمي لمادة الفن، من الجانب التاريخي والجانب الجمالي والجانب الثقافي والجانب الإنتاجي، فالتربية الفنية من خلال هذا المفهوم لا تقتصر على مجرد امتلاك المعرفة ولكنها تتعداه إلى الخبرة بالقوة التعبيرية والقيمة الكامنة في الفن، وبدون هذا المفهوم لن يكون للتربية الفنية أي معنى..
يلاحظ، المتابع لأحوال تدريس مناهج التربية الفنية وكتيبات التعريف بمبادئ التذوق الفني لدينا أنها لا تسعى ولا تهدف في النهاية إلا للكشف عن أصحاب المواهب، فما زلت أذكر أنه ومنذ أكثر منذ نصف قرن أن مدرس الرسم أو التربية الفنية ليست لديه وحتى تاريخه سوى مجموعة من عناوين لموضوعات حصصه هى فى معظمها مناسبات دينية أو اجتماعية أو وطنية يتم اعتمادها في أيام حلول تلك المناسبات كموضوعات للرسم.. مثل حلول شهر رمضان وعيد الفطر، عيد الأضحى، عيد الربيع وشم النسيم، ونصر أكتوبر، و23 يوليو، وحاليًا أضيف إليها مناسبة 30 يونيو تاريخ ومسمى ثورتنا المجيدة، وعليه، ليس على المدرس سوى كتابة عنوان المناسبة على السبورة والإشارة بكلمتين بقدر ما تسمح به القريحة والذاكرة عن أحداث ومظاهر الاحتفال بتلك المناسبات، وبعض تفاصيل معايشتها الزمانية والمكانية، ثم مطالبة تلاميذه "ورونا هتعبروا عن المناسبة دي إزاي؟".. 
وبهذا التفهم لرسالة تدريس تلك المادة، نكون دائمًا في انتظار التلميذ الموهوب والتصفيق له وبروزة أعماله وتعليقها على جدران الفصل، وفي بعض الأحيان في غرفة معالي ناظر المدرسة تكريمًا لموهبته..
ويبقى السؤال: وماذا عن غالبية التلاميذ وإحساسهم بالفشل والعجز عن قدرتهم على التعبير عن مثل تلك الموضوعات إلى حد تولد مشاعر الكراهية لتلك المادة ومدرسها لديهم؟.. بل ويحدث بشكل سلبي مَرضي أحيانًا أن تتولد مشاعر الحقد لدى من يفشل من الطلاب في التنافس مع أصحاب مواهب التعبير والرسم..
والغريب أنه لا توجد فروق تذكر فى فحوى ومضمون تلك المناهج من عام إلى آخر، مما قد يشير إلى عدم وجود هدف عام من قِبل الوزارة فى نهاية كل مرحلة تعليمية ينبغى تحقيقه، وحتى حالة بهجة التلاميذ بترك غرفة الفصل إلى غرفة التربية الفنية المُعدة بشكل مختلف يسمح بممارسة الرسم أو النحت أو تلوين الخزفيات وغيرها من الأشغال الفنية تم افتقاد تلك الحالة السعيدة، للأسف لم تعد فى مدارسنا مثل تلك الغرف، لأن الإدارات المدرسية باتت تقرر الاستفادة بها فى أمور أخرى أهم من تخصيصها للرسم والكلام الفاضي من وجهة نظرهم، بل إن الأمر وصل إلى حد إلغاء الحصة ذاتها لحساب مواد ومناهج أخرى قرب نهاية كل فصل دراسي لعمل مراجعات أو استكمال تدريس المناهج والمواد اللي بجد!
لقد كنت أتخيل اعتماد مناهج تلك المواد الفنية والإبداعية على تدريب طلابنا في مراحل التنشئة على إعمال الرؤية والتأمل عبر تحلق الطلاب حول وجود شيء ما من الطبيعة أو أي وحدة جماد أو نبات.. ليتعرف الممارس لتلك الرؤية على طبيعة خامة ذلك المجسم أو الكائن، والإحساس بطبيعة الملمس الخارجي وحجم ما يشغله من فراغ في فضاء وجوده، ومدى تنوع درجات الظل والنور على "المجسم" وانعكاس ظلاله على الموقع المحيط به.. والتغيرات الحادثة مع تفاصيل انثناءات حركات الأجسام عندما تتحرك..
أتذكر في هذا السياق  "حدوتة" تم تداولها فى الوسط التعليمي، عندما اكتشفت إدارة توجيه التربية الفنية أن هناك أحد مدرسي المادة يخالف أساليب طرق التدريس التي على مثال "ارسم لنا شم النسيم في مصر" أو "كيف تصور معركة 6 أكتوبر؟"، وأنه رد ساخرًا على الموجه أو المفتش "يا سيادة المفتش الموضوعات بتاعتكم دى عايزة صلاح طاهر شخصيًا في عز مجده يرسمها، بل وتحتاج "دافنشي" بكل تاريخه الإبداعي لتصوير تلك العوالم البانورامية الصعب تخيلها والتعبير عنها، وبشكل خاص الأحداث التي لم يشارك فيها فلذات أكبادنا بالحضور لأنها كانت قبل ميلادهم!".
وفي إطار ما ينبغى أن تتضمنه مناهج التربية الفنية والتذوق الفني، يذكر الناقد الفني الرائع "صبحي الشاروني " - على سبيل المثال - أن أهمية تعرف طلابنا على التمثال الأشهر عالميًا للملك "خفرع " المنحوت بخامة الديوريت، وهو أحد ملوك الأسرة الرابعة في الدولة المصرية القديمة، الذي امتد حكمه في الفترة ما بين (2559 و2535 ق.م)، والملك خفرع من أشهر الملوك القدماء المحفورين في ذاكرة الأجيال الجديدة من الأحفاد، لارتباطه بأثر هام تركه الأجداد، حيث شيد "خفرع" الهرم الثاني بالجيزة، والتمثال يعد من أهم كنوز متاحف العالم، بعد نجاح مبدعه في تشكيله في أروع تحقيق للشخصية كحاكم منذ ٥ آلاف عام..
ويا جماعة تطوير المناهج، لا بد من إدراك أن التذوق الفني يلزم إدراكه التزود بالمعارف والمعلومات عن عالم الإبداعات الفنية، والأعمال الشهيرة التي ساهمت في إثراء المدارس الفنية عبر التاريخ، ودور مبدعيها، وتدريب طلابنا على إضافة المزيد من المعلومات، ليصبح الفن في النهاية إحدى المتع التي يسعون إليها كالذهاب إلى دور السينما وعروض المسرح ومباريات كرة القدم.