رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وباء بلا دواء

"الكوليرا" تنهش أجساد السودانيين ونقص اللقاح العالمي يهدد بالكارثة (ملف)

الكوليرا في السودان
الكوليرا في السودان

آلام مبرحة، شعور بغثيان، قيء، إسهال مائي شديد، تلك الأعراض فاجئت محمد حسن محمد من قبيله "البجا" في مدينة بورتسودان حي ديم في دولة السودان.

لم يمتلك “محمد” في ظل الأوضاع التي فرضتها عليه الحرب الدائرة في البلاد ثمن أجرة وسيلة نقل تقله من منزله المتواضع إلى المستشفى خاصة مع بُعد المسافة بين منزله وبين أقرب مستشفى في الوقت الذي تسببت فيه الحرب في خروج أغلب المستشفيات عن الخدمة.

وفقًا للجنة التمهيدية لنقابة الأطباء في السودان، فإن نحو 70 في المئة من مستشفيات العاصمة والمناطق المتاخمة للاشتباكات، خرجت عن الخدمة بسبب تضررها من القصف الأخير، أو استحالة الوصول إليها.

داء "الكوليرا" هو المرض الذي شُخص به “محمد” وتأكدت إصابته به بعد نقله إلى أحد المستشفيات عن طريق مساعدة بعض الآهالي، بين الحياة والموت بعد أن تعرض لجفاف شديد ناتج عما سببته الكوليرا بسبب الإسهال المتواصل.

“محمد” ليس سوى واحدًا بين مئات المواطنين السودانيين الذين أصيبوا بالكوليرا في الآونة الأخيرة في ظل سوء الأوضاع التي يعاني منها السودان نتيجة الحرب الدائرة بين قوات الدعم السريع وقوات الجيش، ما تسبب في الخوف من تفشي المرض في ظل نقص اللقاحات الواقية وصعوبة وصول المساعدات نتيجة ظروف الحرب.

 

حسب تقرير أعلنته الأمم المتحدة فقد تم الإبلاغ عن ما لا يقل عن 6.939 حالة حتى 10 ديسمبر، بعد أن زاد بأكثر من 136 بالمائة خلال شهر واحد فقط، كما سجلت أكثر من 160 حالة وفاة، في 27 محلية في ولايات القضارف وجنوب كردفان وكسلا، والخرطوم والجزيرة وسنار، بالإضافة إلى الزيادة بنسبة 70 بالمئة في حالات الإصابة بالمرض.

وقد تسبب اندلاع الحرب داخل العاصمة الخرطوم التي وقعت في ١٥ من إبريل/ العام الحالي، بين الجيش السوداني بقيادة البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة "حميدتي" في صراعهما على السلطة، في العديد من المآس الإنسانية إذ أسفرت عن مقتل ١٠ آلاف مواطن وتشريد ما يقرب من ٦ مليون آخرين، وكذلك وقوع خسائر مادية بما يعادل ٦٠ مليار دولار، كما تسببت في نزوح مئات الآلاف من مدن رئيسية كالعاصمة الخرطوم.

جثث الشوارع سببًا في انتشارها 

ارتفاع أعداد الضحايا الذي خلّفته الحرب ومازال يثيره الصراع الدائر بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع أدى إلى انتشار الجثث في شوارع البلاد، وعدم توافر أماكن لدفنها حتى تحولت كثيرًا من منازل السودان إلى قبور حسب روايات المواطنين بالإضافة إلى إعاقة توصيل المساعدات الإنسانية لهم وسط تفشي الأمراض.

ممرض: المياه الملوثة 

حسب صديق أنور ممرض في مستشفى سواكن بولاية البحر الاحمر بالسودان، فإن لجوء المواطنين إلى شرب المياه الملوثة نتيجة ما سببته حرب السودان من تعطيل للعديد من محطات تنقية المياه وتدمير البنية التحتية هو سببًا رئيسيًا في الإصابة بداء الكوليرا مضيفًا أن انتشار الجثث بالشوارع وعدم التخلص الآمن منها كذلك سببًا هو الآخر في انتشار الذباب الذي يعد ناقلًا رئيسيًا للمرض.

و "الكوليرا" أو الإسهال المائي تنتقل عن طريق المياه الملوثة، وهى قابلة للعلاج ويمكن الوقاية منها بدرجة كبيرة، طالما أنه يوجد لها لقاحات ومضادات حيوية فعالة، وعلى الرغم من أن بعض التدخلات مثل معالجة الجفاف غالبًا كافية لإبقاء المرضى على قيد الحياة، إلا أن هذا المرض يمكن أن يقتل في غضون عدة ساعات، وذلك إذا لم يتم الوصول إلى التدابير المنقذة للحياة، وخاصة المياه النظيفة.

تعرضت محطة المنارة لمعالجة المياه في أم درمان د في 21 تشرين الأول/أكتوبر للقصف الأمر الذي أدى إلى التوقف المؤقت لإمدادات المياه، وهو ما أدى إلى أن أبدت كلیمنتاین نكویتا سلامي المنسقة الأممية قلقها بشكل خاص إزاء استمرار تفشي وباء الكوليرا في ولاية الخرطوم وأجزاء أخرى من البلاد.

وتعد محطة المنارة من محطات المياه الرئيسية في منطقة أم درمان، حيث تغذي كل أحياء محلية كرري بالمياه، كما أنها تغطي جزئيًا محليات أم درمان وأمبدة.

وكان قد تم احتلال أيضًا محطة مياه سوبا وإعتقال العاملين وكذلك محطة مياه المقرن، كما احتلت مياه بحري وبيت المال مما يعني توقف خدمات أربعة محطات رئيسية آخرين تعتمد عليها أجزاء واسعة من أحياء ولاية الخرطوم.

المصدر: بيان هيئة مياه ولاية الخرطوم

عدم توافر اللقاحات بما يتناسب وأعداد الإصابات

الأزمة حسب “صديق” تكمن في عدم توافر الأدوية المعالجة من الكوليرا مثل دربات الملح وبعض المضادات الحيوية مثل الدوكسيساكلين وكذلك لقاح الفاكسين بما يتلائم مع أعداد الإصابات المتزايدة به، وذلك في الوقت الذي يرتفع فيه معدل الإصابات بشكل لحظي ومستمر إذ أنه في ولاية البحر الأحمر وحدها أصبح هناك ثلاث مناطق عزل للكوليرا وهما محليه سواكن، ومدينه وبورتسودان، ومنطقه الإنقاذ في مدة وجيزة.

والفئات الأكثر إصابة بالمرض والذين تزداد فيهم أعداد الوفيات هم كبار السن ذوي الأمراض المزمنة والأطفال، "حالات الأطفال بتحنن" مؤلمة" -حسب صديق-.

انخفاض حاد عالمي من مخزون لقاح الكوليرا 

حسب تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية فإن المخزون العالمي من لقاح الكوليرا الفموي منخفض للغاية، في الوقت الذي أكد فيه أوضح فيليب باربوزا رئيس فريق مكافحة الكوليرا وأمراض الإسهال الوبائي في منظمة الصحة العالمية في تصريح سابق، أن المخزونات التي تحتفظ بها مجموعة التنسيق الدولية لتوفير اللقاحات والتي تديرها منظمة الصحة العالمية وشركاء آخرون، 27 مليون لقاح ضد الكوليرا، ولكنها ليست كافية لمواكبة العدد المتزايد من الحالات وتوسع مناطق الضعف مما يهدد بمعدلات متزايدة في أعداد الوفيات الناتجة عنه.

ونتيجة هذا النقص الحاد في الإمدادات العالمية من لقاحات الكوليرا أُرغم فريق التنسيق الدولي – وهو الهيئة التي تدير إمدادات اللقاحات في الطوارئ – على وقف مقرر التطعيم النموذجي بجرعتين في حملات الاستجابة لفاشية الكوليرا مؤقتًا، والاكتفاء عوضًا عنها بنهج الجرعة الواحدة.

"مانو" فقدت عائلتها في الحرب وهاجمتها الكوليرا

تسببت الحرب السودانية الأخيرة في فقدان الفتاه مانو كريشنا ذات الأصول الهندية جميع عائلتها، ثم نزوحها من العاصمة الخرطوم إلى مدنيه بورتسودان بسبب هذه الحرب.

فوق الفقر والضعف وفقد الأهل الذي أصاب مانو بسبب الحرب، كانت الإصابة بداء الكوليرا كارثة أخرى تنتظرها، إذ هاجمتها وتملكت من جسدها، وتملكت من جسدها حتى وصلت بها إلى حالة متأخرة كادت معها أن تفقد حياتها في الوقت الذي عجزت مانو فيه عن شراء الطعام والشراب فكان الفتات من الخبز هو نصيبها من الغذاء لكي لا تفقد أنفاسها.

 وبسبب تلك الكوليرا التي أصابتها أبى حتى ذلك الفتات أن يستقر في أمعاء مان، ما حوّلها في ساعات قليلة إلى شبيه الهيكل الذي كساه الجلد على عظمه، تحاول بيديها الناحلتين إبعاد أسراب الذباب التي تجمعت حول وجهها الأسمر حتى كادت أن تستلم تمامًا للمرض.

تدخلات بعض الجيران كانت هي المنقذ الوحيد بعد العناية الألهية لمانو عندما أسرعوا في نقلها إلى مستشفى توافر بها قسمًا لعزل الكوليرا ليتم حقنها بما يقارب 20محلول وريدي من دربات السكر والملح ومحلول الرينقر المغزي، وظلت مانو في قسم الوبائيات حتى تم إتمام ما أسموه الأطباء بالمعجزة وهو شفائها.

عدم وجود مواد تنقية المياه وممرات آمنة أسباب أخرى لخروج محطات المياه عن العمل

وتعاني مناطق عديدة في الخرطوم العطش منذ أكثر من ثماني أشهر أي منذ اليوم الأول للحرب بين الجيش وقوات «الدعم السريع نتيجة خروج ٥٠ بالمئة من محطات المياه عن العمل، ما أدى إلى اتجاه السكان إلى أحياء أخرى بحثًا عن الماء.

وقد توقف عمل معظم محطات المياه بالسودان ليس فقط نتيجة قصفها بل لعدم وجود مواد تنقية وعدم توفر الممرات الآمنة للفرق الفنية، وهو ما اضطر بعض المواطنين في بعض الولايات إلى شرب المياه من النيل مباشرة، ما أدى لانتشار الإسهالات المائية "الكوليرا".

عائلة كاملة مصابة تتنظر المصير

ثلاثة من الأشقاء يقيمون في مدينه بورتسودان هم كريستينا وجمعه وميري بيتر، وقعن ضحايا الكوليرا بعد أن أصابتهم العدوى بها جميعًا.

عائلة بيتر التي تعاني الفقر والجوع بسبب ما فرضته ظروف الحرب عليهم تقطن في مناطق الإيواء الجنوبية حيث مياه الشرب الملوثة والأوضاع الصحية المتردية.

 ومع سماع أنباء الوفيات المتتالية عن كثير من مرضى الكوليرا، تملك الخوف السيدة ماري أم الأشقاء على أولادها المصابين، والتي مازالت تنتظر مصير أبنائها بعد نقلهم إلى إحدى المستشفيات في حالة سيئة، وهي تصرخ موجهة سؤالًا واحدًا بالدموع إلى الأطباء بين الحين والأخر وهو "هل أولادي سيموتون ويلقوا نفس المصير؟".

الكوليرا تقتل 143 ألف شخص سنويًا فى أفقر دول العالم 

تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن الكوليرا تقتل ما يصل إلى 143 ألف شخص سنويًا فى أفقر دول العالم، حيث لا يزال الوصول إلى المياه النظيفة صعبًا والصرف الصحى الأساسى غير مكتمل.

منشورات شعبية للعلاج 

"انتهينا من مرحله الوقايه خير من العلاج لأننا متأكدين تمامًا أنه أي بيت سوداني من يوليو حتى سبتمبر سيكون فيه "شخص" يعاني من الإسهال المائي، واللي ما عندهم الليله نخاف بكرة هيجيهم، عشان كدا هندخل في مرحله العلاج طوالي"، تلك هي الكلمات التي قالها المواطن صفوان خان واصفًا ما جاء ببعض المنشورات التوعوية التي لجأ إلى توزيعها المواطنون أنفسهم على بعضهم البعض للتوعية بمخاطر الكوليرا التي تفشت في البلاد وطرق مواجهتها.

يقول صفوان مستكملًا ما جاء في تلك المنشورات "بما أن وزارة الصحه لا تستطيع احتواء الكارثه لأسباب متعلقه بالإمكانيات نحن حنعالج نفسنا بنفسنا وفي البيت قبل ما نصل مرحلة الجفاف لأنه يردى لمضاعفات يصعب علاجها".

حسب المنشورات الشعبية التي وزعها المواطنون على بعضهم مثلما يقول أصلان فإنه في حال الإصابة بالكوليرا يجب الإفطار على الفور وعدم الصوم لأن السبب الأساسي للوفاة هو الجفاف. 

كذلك يجب شرب محلول الترويه وهو المحلول الذي وصفه السودانيون بأنه منقذ للحياه وهو عبارة مياه وليمون وسكر وملح.

يعد كذلك من الضروري الإسراع إلى شراء حبوب خضراء تدعى دوكساسايكلين وتناول ٣ كبسولات منها على الفور، بالإضافة إلى شرب الماء الكثير، والعصائر مثل عصير قنقليز السوداني " وكتر من السوائل ماتخلي شوربه ولا نشأ بالكاستر حايمه في البيت اشربها كلها"- حسب المنشورات.

الحرص على غسل اليدين بالمياه والصابون جيدًا هو أحد ركائز علاج الكوليرا وفق ما جاء في المنشورات، بالإضافة إلى طهي الطعام جيدًا وغسيل الفواكه والخضروات بالخل لقتل البكتيريا الناقلة للمرض.

عضو اللجنه المشرفة على محلية "سنار": الخطر يكمن في شرب مياه الترع

على الجانب الآخر، قال عماد مأمون عابدين نائب مدير مستشفى الخرطوم التعليمي، أن ولاية القضارف هي أكثر في أعداد الإصابة بمرض الكوليرا إذ بلغ عدد المصابين في الولاية بأوائل شهر ديسمبر الحالي 1808 حالة و46 حالة وفاة، تليها ولاية الجزيرة 1345 إصابة منها 23 حالة وفاة.

وأكد "عابدين" في حديثه مع "الدستور" أنّ ولاية البحر الأحمر سجّلت 683 حالة إصابة، توفي منهم 28 شخصا بينما وصل عدد حالات الاصابة بالكوليرا في ولاية النيل الأبيض إلى 399 حالة منها 22 حالة وفاة وكان وباء الكوليرا.

ويرى الطبيب المتواجد حاليًا في ولاية سنار بالتعاون في مستشفى الدندر التخصصي، أنّ هناك تحديات كبيرة يوجهونها الفترة المقبلة في ولاية سنار، أبرزها هو شرب المواطنين من مياه الترع بها، مؤكدًا أنّ السبب في ذلك كان الإمداد الكهربائي غير المنتظم لمحطات المياه، لافتًا إلى أنّه في الأيام الماضية تم تخصيص خط ساخن لاستمرار كهرباء محطات المياه لضمان عدم انقطاع مياه الشرب.

وأردف نائب مدير مستشفى الخرطوم التعليمي: هناك خطورة كبيرة لمعالجة الحالات بالمنازل، داعيًا لمحاربة هذه الظاهرة، لأن علاج الكوليرا لابد أن يتم في وحدات صحية خاصة، تسمّى مراكز علاج الكوليرا CTC، من أجل الوقاية من انتشار المرض في المجتمع، وهو الأمر الذي لا يتوفر في المنازل خاصة مع الأوضاع المعيشية السيئة التي تعاني منها أكثر الأسر السودانية بسبب تداعيات الحرب.

 جهود المكافحة

وتعمل كلًا من الطوارئ الصحية ومكافحة الأوبئة في السودان بالاشتراك مع منظمتي أطباء بلا حدود الهولندية والإسبانية العاملة في البلاد على القيام بالعديد من الأنشطة في إطار مواجهة وباء الكوليرا والتصدي له، وذلك من خلال عملهم داخل معسكرات اللاجئين والنازحين في ولاية النيل الأبيض، بالإضافة إلى المكافحة في العديد من المناطق، (الدويم، القطنية) -وفقًا لبيان الدكتور هيثم محمد إبراهيم وزير الصحة الاتحادي-. 

وعلى الرغم من نقص لقاح الكوليرا العالمي حصل السودان على الموافقة على حوالي 2.9 مليون جرعة من لقاح الكوليرا الفموي لولايات القضارف والجزيرة والخرطوم، وهو ما يمثل 35 في المائة من المخزون العالمي، منها 2.2 مليون جرعة جرى استخدامها بالفعل في الحملات في القضارف والجزيرة. 

المصدر: مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية

يُذكر أن السودان يعاني من نقص حاد في معدل الاستجابات لاحتياجاته الإنسانية، إذ لم يموَّل نداء خطة الاستجابة الإنسانية للسودان لعام 2023 المنقحة إلا بنسبة 38.9 في المائة فقط حتى 14 ديسمبر. 

المصدر: تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.