رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حُطام وطن.. مآسي الفلسطينيين تتراكم مع البحث عن المفقودين تحت الأنقاض

حطام وطن
حطام وطن

في غزة أصبح الوطن حطامًا وركامًا يحمل الفلسطينيون قدرها من الهموم في قلوبهم والمآسي على عاتقهم، فلم يمنحهم القدر فرصة توديع أحبائهم، كما لم يحالفهم الحظ في دفن ذويهم وتكريم مثواهم الأخير.

هنا في غزة، ذهبت العقول وذابت القلوب وتلاشت الأجساد، في آن واحد، هُدمت صوامع وبيع وصلوات على رؤوس أصحابها، ليتحولوا إلى رُفات لا يبقى منهم سوى الذكرى أو أسماء على أنقاض.

هبت رياح تشرين العاتية بإعلان إسرائيل الحرب على غزة لتعصف بآخر قلاع فلسطين الصامدة، فتحولت غزة إلى سيول من الدم وجبال من الحطام التي تضم في جوفها رفات آلاف من الفلسطينيين الذين باتوا في عداد المفقودين تحت الأنقاض. 

وفي السطور التالية وثق "الدستور" حرمان الفلسطينيين من أبسط حقوقهم الإنسانية في توديع ذويهم وإلقاء نظرة أخيرة عليهم، نتيجة تعسر محاولات البحث عن المفقودين وانتشال جثامين الشهداء، جراء معركة "السيوف الحديدية" التي شنتها إسرائيل على غزة في السابع من أكتوبر 2023.

إنفوجراف الدستور

محرومون من الوداع

"كتب علينا الفراق وهو كرهٌ لنا، ولا شئ يُطفئ نار الفقد الذي أذاب قلوبنا"، هكذا حاول محمد عاطف، 35 عامًا من غزة ويعيش في رفح الفلسطينية، أن يصف مرارة ما يشعر به بعد أن فقد أكثر من 20 شخصًا من عائلته أكثر من نصفهم في عداد المفقودين.

ففي منتصف نوفمبر، استهدفت إسرائيل العديد من المخيمات في شمال غزة التي تكتظ بالمواطنين الفلسطينيين المدنيين، وقصفت حارات كاملة بمخيم المغازي وكان منها منزل عائلة "عم عاطف" الذي أصبح ركامًا في أقل من ثانية وهُدم على رؤوس كل من يعيشون فيه.

If ground invasion comes, combat in Gaza's cities will be a bloody grind |  The Times of Israel
آثار القصف على غزة 

"بعد قصف مخيم المغازي وفي طرفة عين فقدت عائلة عمي بأكملها والمكونة من 7 أفراد بينهم طفلان، وبعد عملية البحث عنهم تحت الأنقاض والتي استمرت حينها لمدة أيام طويلة من قِبل الدفاع المدني وجهود الأهالي والجيران، عثرنا على الطفلين فقط وكانا قد استُشهدا ولم نتمكن من العثور على البقية لدفنهم وحُرمنا من توديعهم وراحوا في عداد المفقودين"، "عاطف" يوضح.

صدمة واحدة كفيلة بأن تُفقد الشخص عقله وأعصابه، ولكن الفلسطينيين ضربوا مثالًا للصمود عجز العالم عن إدراكه، وعاطف أحد هؤلاء الفلسطينيين، فبينما لا يزال متخبطًا من فاجعة استشهاد عائلة عمه بأكملها، استقبل نبأ قصف مخيم النصيرات والذي يقبع فيه منزل عائلة ابن عم والده. 

"بينما لا يزال البحث مستمرًا عن المفقودين تحت الركام من عائلة عمي كنا نحاول انتشال 14 فردًا من عائلة ابن عم والدي الذي قصف الاحتلال الإسرائيلي بيته، وأيضًا لم نتمكن من العثور سوى على 6 أشخاص فقط منهم كانوا رُفاتًا، فيما أصبح 8 أفراد آخرين جدد في تعداد المفقودين ولم يتسن لنا دفنهم حتى ولو عظامًا". "عاطف" يختتم حديثه مع "الدستور".

إنفوجراف الدستور

حرب بقاء

وفي السياق، يقول السفير الدكتور هيثم أبوسعيد، رئيس بعثة المجلس الدولي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، إنه في البداية لا بدّ من التأكيد على أن ما شهدناه وما زلنا نشهده في حرب غزة لم نر له مثيلًا في تاريخ الحروب الحديثة، ولم تستطع العقول البشرية الإنسانية استيعابها، فهي ليست فقط جريمة حرب ضد الإنسانية وإنما إبادة عرقية وحقد دفين. بالتالي فإن خرق المواثيق لميثاق جنيف الرابع واتفاقية لاهاي والشرعية الدولية لحقوق الإنسان في عدد كبير من بنودها تمّ خرقها على مسمع ومرأى من كل المجتمعات الدولية والمعنيين في الشأن الحقوقي.

يوضح "أبوسعيد" في حديثه مع "الدستور" "أن العدد الكبير للضحايا المفقودين والشهداء الذين لقوا حتفهم والذين تم إحصاؤهم، يجعلنا نقبل بهذا الرقم برغم عدم وجود دلائل حسية، إلا أن هذا الرقم سيكون جليًا بعد انتهاء الأعمال العسكرية، وعليه يمكن عندها التأكيد إما بالزيادة أو النقصان. لكن في كل الأحوال الأعداد التي خرجت عن وزارة الصحة في غزة كفيلة أن تضع هذا الملف وفق المعايير الدولية بالكارثي".

الدكتور هيثم أبوسعيد رئيس بعثة المجلس الدولي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة

يستكمل "أبوسعيد" أنه في كل مفصل من مفاصل الحرب المفتوحة في غزة، كانت دائمًا هذه المساعدات مدار سلاح يستعمله الكيان الإسرائيلي كوسيلة ضغط على أهالي غزة، وهذا أمر منافٍ للقانون الدولي، حيث تنص المادة 59 من اتفاقية جنيف الرابعة على أنه: "يجب على أطراف النزاع، في كل الحالات، أن تتخذ جميع التدابير الممكنة لتسهيل وحماية حركة السكان المدنيين الذين يرغبون في مغادرة منطقة النزاع أو الوصول إلى منطقة أخرى".

"وبالتالي فإن من أحد أهداف الكيان الإسرائيلي هو ليس فقط قطع المساعدات الإنسانية وإنما وقف كل ما له علاقة في الحياة وقابليته في الاستمرار؛ حتى يتمكنوا من ممارسة الضغوط على المدنيين للخروج من غزة لتنفيذ مشروع - الترانسفير- الذي أعدّوا له العدّة منذ فترة طويلة"، وفق "أبوسعيد".

No description available.

عائد من الموت

ما أشق على الإنسان أن يعود من الموت ليموت مرةً أخرى، ولكن في غزة أصبح الموت راحةً ونعمةً يبحث عنها الفلسطينيون في ظل الحصار الذي يعيشونه والحرب اللا نهائية لها. ففي مطلع ديسمبر بينما كان يجلس رامي سالم، الذي يعيش في حي الشيخ رضوان، مع أسرته يصلون ويدعون لمفقوديهم من العائلة، أصبحوا هم ذاتهم مفقودين.

لا يتذكر "سالم" ما حدث تحديدًا وقت قصف منزله سوى أنهم وجدوا سيلًا من البراميل المتفجرة التي قصفها العدوان الإسرائيلي على بيته، ليصبح هو وكل عائلته من أمه وزوجته وأطفاله وأسرة أخيه وأعمامه، ضمن عداد المفقودين تحت الأنقاض.

يقول سالم: "فقدت الحياة للأبد دون عودة في لحظة ولم أتذكر سوى أصوات النيران والصواريخ والبراميل وهي تتفجر فوق رءوسنا وتحطم المنزل علينا وأصبحت أنا وعائلتي تحت الحجارة".

إنفوجراف الدستور

"بعد ساعات طويلة من الرقود تحت الحطام لم أستطع عدها وحتى لم أعرف إذا كانت ساعات أو أيامًا، وجدت ذاتي وعائلتي في المستشفى ولم أر أو أتذكر أي شىء منذ وقت استهداف بيتي، فبمجرد تفجير البيت تحول كل شىء إلى أنقاض ولا أتذكر كيف ومتى وصلت المستشفى، وحتى الآن زوجة أخي وابنته مفقودين لم نعثر عليهم"، "سالم" يحاول استرجاع لحظات الموت.

وصل عدد الشهداء من العائلة حتى هذه اللحظة لأكثر من 160 شخصًا بين مفقود وشهيد، يقولها "سالم" وهو قابع في المستشفى ينتظر دوره لتلقي ما تيسر من الكشف والعلاج -إن وُجد- ويوضح: "لا أعرف مَن أنقذنا من تحت الأنقاض، كنا في حالة يُرثى لها تقريبًا كتلة دم وغبار".

ويختتم "سالم" حديثه: "صدقًا أهلكتنا الحرب وأصبح الوضع لا يُحتمل، فهناك أكثر من نصف العائلة لا يزالون بين المفقودين ونأمل أن نجد زوجة أخي وابنته، الذي حرمنا الاحتلال من تكريم مثواهما الأخير ودفنهما".

آثار القصف على غزة 

صامدون تحت الظلام

منذ اندلاع الحرب يواصل الاحتلال الإسرائيلي استهداف أطقم الإسعاف بالرصاص الحي أثناء تأدية عملهم وتحديدًا خلال البحث عن المفقودين وانتشال الشهداء من بين الركام أو إنقاذ المصابين وإسعاف الجرحى. إذ أكد مدير الإسعاف والطوارئ بالهلال الأحمر الفلسطيني أحمد جبريل لـ"الدستور" ارتفاع وتيرة اعتداءات الاحتلال على أطقم الإسعاف في قطاع غزة والضفة الغربية؛ مما يشل عمليات الإنقاذ.

يقول جبريل: "أعداد المفقودين والشهداء في زيادة مستمرة، وهناك حديث عن إصابات وضحايا بالشوارع لا نستطيع الوصول إليهم بسبب ضعف الإمكانيات المتاحة التي أوشكت على النفاد، والمساعدات الإنسانية تدخل بشكل ضعيف للغاية. ولكنا صامدون حتى النهاية".

أحمد جبريل مدير الإسعاف والطوارئ 

وعن الأشلاء فإنه يصعب التعرف على أصحابها، لذا يشير جبريل إلى أن هناك عددًا من الشهداء مجهولي الهوية لا يمكن التعرف عليهم، كذا حتى هذه اللحظة لا أحد يعرف مصير المفقودين تحت الأنقاض وما إذا كانوا أحياءً أو أمواتًا، ولا تزال طواقم الإسعاف تواصل عملية البحث عنهم، ولكن نحن بحاجة إلى جهد كبير من أجل انتشالهم خاصةً مع تجاوز أعدادهم 7 آلاف مفقود تقريبًا.

الوضع ليس أفضل حالًا في وسط قطاع غزة، إذ يوضح مدير الإسعاف والطوارئ أن عددًا كبير من سيارات الإسعاف خرجت عن الخدمة؛ بسبب حصار المستشفيات ومراكز الإسعاف واحتجاز السيارات بشكل كامل، ما أدى إلى وقف البحث عن المفقودين وتجميد خدمات الإسعاف. أما في الجنوب فيجرى العمل بأقصى طاقة ممكنة.

No description available.
إنفوجراف الدستور

"نحن منذ اليوم الأول للعدوان نعمل بكامل طاقتنا لإنقاذ وانتشال الجثث والبحث عن المفقودين بجانب مواظبة دورنا في إسعاف الجرحى على مستوى قطاع غزة من الشمال إلى الجنوب، ولكن الآن توقفت خدمات الإسعاف في الشمال نتيجة استهداف سيارات الإسعاف بالقصف المباشر والرصاص الحي أو نتيجة استنفاد الوقود أسوة بباقي الخدمات الصحية بشمال القطاع"، مدير الإسعاف والطوارئ يختتم حديثه.

وعن وجود رادع للانتهاكات وجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل، يشير رئيس بعثة المجلس الدولي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة إلى أنه إذا دققنا بشكل بسيط وعفوي نرى أن الكيان الإسرائيلي يستمد قوته العدوانية من دعم بعض دول القرار ومن لهم مصالح اقتصادية معها، وقد آثروا المصالح الاقتصادية على المصالح الإنسانية. 

يضيف: "كما أن هناك جهلًا واسعًا في مجال الحقوق والمطالبة بها من قبل الهيئات المجتمعية والتي لا تدرك من أين عليها أن تبدأ مع حكوماتها للضغط عليهم من أجل وضع حدّ نهائي لعدوانية إسرائيل، كما أن هناك أُطرًا دبلوماسية بين الدول لم تتم العودة لها للجم غطرسة إسرائيل".

إنفوجراف الدستور

روح بلا جسد

لا يزال شلال الدم مستمرًا في غزة دون انقطاع إلى الحد الذي لا يسمح حتى بلقاء أخير لتوديع الأحبة، فلم يستطع عبدالرحيم الزراعي، الذي يعيش في وسط غزة، رؤية أفراد عائلته قبل استشهادهم؛ جراء القصف الجنوني التي تشنه إسرائيل على المنازل والمخيمات دون توقف منذ السابع من أكتوبر الماضي.

"أكثر ما يزيد مرارة الفقد هو أن تودع روحًا بلا جسد"، يقولها "الزراعي" لـ"الدستور"، مستطردًا: "أصغر أطفال العائلة إبراهيم الذي يبلغ من العمر نحو 13 عامًا لم نعثر على جسده، وفُقد بعدما قصفت إسرائيل أكثر من 27 بيتًا بحارة واحدة في أقل من ساعة".

وعن البحث عن الطفل إبراهيم، يقول "الزراعي" إن الأولوية أصبحت لمن هو على قيد الحياة، فلا توجد إمكانيات كافية لانتشال جثث المفقودين وسط كل هذا الدمار، وعلى الرغم من عدم توفر أية وسائل ممكنة واصل الأهالي البحث عن الطفل لأكثر من 10 أيام متواصلة دون توقف، معلقًا: "كان لدينا أمل أن ننجح وننتشله ولكن كانت تلال الركام أقوى من أملنا في أن نعثر على إبراهيم كي نكرم روحه وندفن فقيدنا".

الطفل المفقود إبراهيم

"حتى الآن فقدت نحو 29 فردًا من عائلتي. فكنت على مدار 60 يومًا أتلقى أنباء فقدان شخص جديد من العائلة؛ ما بين أعمامي وجدي وزوج أختي وابن أختي وأبناء عمومتي وأم وأخوات زوجتي، منهم من كنا نسمع صوت أنفاسه الأخيرة من بين الركام، ومنهم من تمكنا من دفنه بعد البحث عنه لمدة أيام وانتشاله من تحت الأنقاض، وآخرون لا يزالون مفقودين ونحتسبهم عند الله شهداء"، "الزراعي" يستكمل حديثه.

"دون أية إمكانيات تُذكر نعيش أهوال حرب لا تحرك للعالم ساكنًا ونحمي الأقصى بمفردنا دون أن يتدخل العرب لنصرتنا، نحن لا نفقد شخصًا أو اثنين، نحن نفقد عائلاتنا بأكملها في لحظة، نحن نبحث بين الأحجار والرماد بأيدينا عن أشلاء أحبابنا كي نواري سوءاتهم، وكل ذلك نتيجة عدوان فاشي لا رادع له"، وفق الزراعي.

إنفوجراف الدستور

حصار خانق

قوات الدفاع المدني لم تتمكن من انتشال الجثامين بشكل كامل، نتيجة استهداف الاحتلال المعدات ونقص الوقود اللازم لعمل الآليات المتوفرة من أجل رفع الأنقاض، هكذا يوضح أحد ضباط قوات الدفاع المدني بالضفة الغربية محمد عواودة مدى تدهور وضع الإنقاذ والحماية المدنية.

تفرض إسرائيل على قطاع غزة حصارًا خانقًا لمنع وصول أية إمدادات أو تعزيزات إلى القطاع، إذ يضيف "عواودة" أنه غير مسموح لأي شخص دخول غزة، وكذا طواقم الإغاثة كالحماية المدنية والفرق الطبية.

محمد عواودة ضابط بالدفاع المدني

وعن التعامل في طوارئ الحروب يشير ضابط الحماية المدنية إلى أنه يجب أولًا وقف إطلاق النار؛ وذلك كي تتمكن قوات الحماية المدنية وفرق الإغاثة الأخرى من القيام بمهامها، ولكن مع عدم وجود مثل هذه الرفاهية في فلسطين، فإنه على الأقل يجب توفر الإمكانيات والمعدات اللازمة للإنقاذ، فضلًا عن الدفع بقوات ذات خبرة وكفاءة للتدخل السريع في هذا الوضع المأساوي.

"البحث عن المفقودين ليس سهلًا على الإطلاق ويتطلب على الأقل دعم الدفاع المدني بالمعدات والأدوات الثقيلة مثل: الجرافات واللوادر وسيارات مجهزة للحفر وتعبئة الركام، فضلًا عن الوقود اللازم لتشغيل كل تلك المعدات، ولكن هذه الوسائل تعد الآن رفاهية في غزة وغير متوفرة. الأهالي ينبشون في الحجار والركام لإيجاد رُفات ذويهم". ضابط الحماية المدنية يختتم حديثه.

إنفوجراف الدستور

في تعداد الموتى

"أصبح كل من في غزة أرقامًا في تعداد الموتي"، هكذا بدأ الدكتور بشار مراد، المدير التنفيذي للهلال الأحمر بقطاع غزة، حديثه مع "الدستور" قائلًا: "جميع من في غزة سواءً تحت الأنقاض أو فوقها فهو مفقود. الدمار في كل مكان بغزة". 

يوضح "مراد" في حديثه: "منذ 60 يومًا ولم تتوقف المجازر والجرائم التي خلفت أكثر من 10 آلاف مفقود تحت الأنقاض منذ بداية الحرب ولا توجد معدات ثقيلة ولا طواقم لانتشال الشهداء، فقد أصبحنا مجرد أرقام من ضحايا، مفقودين، وشهداء، فيما يواصل الاحتلال ممارسة العقاب الجماعي والإبادة العرقية الممنهجة ضد الشعب الفلسطيني".

إنفوجراف الدستور

"جميع المؤن والموارد التي كانت لدينا نفدت، المستلزمات الطبية والعلاجية انعدمت فقد تدهور القطاع الصحي في غزة، ولا توجد إمكانيات للبحث عن المفقودين أو وقود لتشغيل المعدات لانتشالهم من تحت الأنقاض في ظل هذا الحجم من الدمار والركام"، وفق مراد. 

يستكمل: "غزة تنزف حرفيًا الآن إثر القصف والتدمير الذي طال كل شىء، الجميع هنا من الأطفال والمدنيين يعاني الخوف والجوع والعطش -هذا إذا كان حيًا- لا إغاثات تصل إلينا المساعدات التي تدخل ما هي إلا فتات لا تكفي مدرسة حتى".

وطالب المدير التنفيذي للهلال الأحمر بضرورة وقف تلك الحرب الإجرامية، ومد جسور المساعدات للإغاثة الإنسانية، والتدخل السريع لتوفير الوقود اللازم لتشغيل المستشفيات وغرف العمليات والمعدات التي تبحث وتنتشل الشهداء من بين الحطام.

بشار مراد المدير التنفيذي للهلال الأحمر بقطاع غزة

أحلام مفقودة

في غزة، ليس المواطنون فقط من يُستشهدون أو يُفقدون.. الأحلام والذكريات أيضًا تُسلب وتُهدم. فعلى مدار 30 عامًا دأب فيها بهاء بحور في بناء بيت يؤويه هو وعائلته الصغيرة لينتهي منه قبل 8 شهور فقط من الآن، يقول: "ثلاثون صيفًا وثلاثون شتاءً اشتغلت فيها عدد ساعات عمل مضاعفة لتجميع كل شيكل لأتمكن من الانتهاء من بناء بيتي وبيت أولادي في أقرب وقت".

"وقبل 8 شهور من الآن كنت أضع اللمسات الجمالية الأخيرة لبيتي، وأختار من صور أمي أجملها كي أعلقها على الحائط لتحاوطني بركتها، كنت أشعر أني أسكن قصرًا رغم بساطة الحال، وللحظة تصورت أني ملكت الدنيا"، بحور يسرد كيف قضى 30 عامًا من عمره.

في منتصف نوفمبر، هُدمت البيوت، دُفنت الذكريات، وتحطمت الأحلام، يقولها "بحور" عن لحظة اندلاع الحرب وقصف بيته، مستطردًا: "في لمح البصر أصبح بيتي رمادًا، النار لم تأكل بيتي وكدي فحسب بل أكلت قلبي، هذا البيت مش مبني من حجار مبني من لحمي وتعبي وحلمي، صحيح ممكن أبنيه مرة أخرى ولكن فرحتي وعمري وشبابي من يعوضني عنه؟".

منزل بهاء بحور قبل وبعد الحرب

جذور ممتدة

وفي حديث خاص لـ"الدستور" قال الدكتور محمد زيارة، وزير الأشغال العامة والإسكان في فلسطين، إن الوضع في قطاع غزة يزداد سوءًا على كل المستويات؛ الأمنية، الإنسانية، الصحية، الاجتماعية، والبيئية. كما أنه لا يمكن حاليًا تقدير حجم التدمير بصورة واقعية نظرًا لظروف الحرب وعدم تمكن جهات الاختصاص من النزول على الأرض، وكذا لأن آليات الاحتلال الإسرائيلي ما زالت تواصل إمعانها في التدمير.

"ولكن يمكن التقدير بشكل مبدئي من واقع معرفتنا بالبلد ومعايشتنا الحرب مع شعبنا في غزة ومشاهداتنا الميدانية نقدر أن ما يزيد عند 25٪ من المناطق الحضرية طُمست عن وجه الأرض، وأن أكثر من ربع مليون وحدة سكنية حُطمت بدرجات متفاوتة من كلي إلى جزئي، كما أن أكثر من 30٪ من البنية التحتية دُمرت بالكامل بما في ذلك الطرق وشبكات المياه والصرف الصحي وخطوط الكهرباء والاتصالات، فضلًا عن هلاك آلاف المنشآت التعليمية والصحية والخدماتية ودور العبادة الإسلامية والمسيحية"، وفق حديث "زيارة".

وعن البحث عن المفقودين، يكشف وزير الأشغال العامة والإسكان عن أنه لا توجد آليات ثقيلة لرفع الركام وفتح الطرقات من أجل عملية الانتشال، ونحتاج  بشكل فوري إدخال المعدات والآليات لانتشال جثامين الشهداء تحت الأنقاض، إذ يلجأ المواطنون بمحاولات الإنقاذ من تحت الأنقاض باستخدام الطرق البدائية والجهود الذاتية؛ مما تسبب باستشهاد آلاف المدنيين معظمهم أطفال ونساء وشيوخ لا يزالون مفقودين تحت الركام.

No description available.

يستكمل وزير الأشغال العامة والإسكان: "الشعب هنا يُقتل ويُشرد ويُجوع ويُهدد بالتهجير، الخراب طال الإنسان والشجر والحجر وتُرك الفلسطينيون دون أية مقومات للحياة؛ دون مأوى أو مأكل أو مشرب أو رعاية صحية أو وقود، وبالرغم من هذه الظروف فإن الشعب الفلسطيني متجذر في أرضه مدعوم بالقرارات الصلبة المقاومة للتهجير وخاصةً من مصر والأردن". 

ونوه إلى أنه حاليًا تتركز جهود القيادة الفلسطينية ومعها الدول العربية والإسلامية والعالم الحر لوقف الحرب والعدوان، أما مرحلة إعادة البناء فسيتم البدء فيها بعد توقف الحرب واستقرار الوضع.

ويشير وزير الأشغال العامة والإسكان إلى أن رؤيتهم التقديرية الأولية أنها تحتاج لعشرات المليارات من الدولارات ولمجهود دولي ضخم لإعادة إعمار غزة مرة أخرى، والأهم هو توفر الوضع السياسي المناسب والذي يعتمد على حل الدولتين حسب قرارات الشرعية الدولية.

الدكتور محمد زيارة وزير الأشغال العامة والإسكان

فيما ينوه رئيس بعثة المجلس الدولي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة بأنه يجرى العمل منذ اندلاع أحداث 7 أكتوبر 2023 في غزة على توثيق معظم الانتهاكات الخطيرة، وأعدّت اللجان القانونية مطالعات داخلية من أجل إرسالها إلى المحكمة الجنائية الدولية ولاحقًا إلى محكمة العدل الدولية لبحثها لدى اللجان القضائية المختصة ومن قبل القضاة المعنيين لتلك المحاكم.

ويختتم أنه لا بد من استكمال كل التحقيقات الحسية حتى يتم أخذ القرار النهائي بهذا الشأن، حيث ندرك مسبقًا أن الوقت ليس كما يبتغيه العامة إلا أن العمل الجدي والمهني والحيادية قائم ومساره واضح.

عمليات البحث عن المفقودين شبه توقفت في غالبية مدن قطاع غزة، فيما لا يزال قليل من الأهالي يبحثون عن ذويهم بأيديهم وبأدوات بدائية أملًا في تكريم أرواحهم لمستقر أخير.

 

إنفوجراف الدستور