رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إدارة التخلف وتهميش التنمية

تُعبر الإدارة عن المهارات الإبداعية في فن التخطيط والتنظيم  والتوجيه وحسن تدبير  الموارد وتنميتها باستمرار، وتعتمد كفاءة الإدارة على النضج القيادي ومهنية القائد واحترافية القرار وكفاءة التنفيذ وكفاية الأداء. إدارة التنمية بمفهومها العام الذي يشمل كافة مجالات الحياة وجوانبها المختلفة، بالنظر إلى مفهوم التنمية الكلي غير  القاصر على المجال الاقتصادي فحسب، بل إلى ما يتعداه في كافة المجالات الإنتاجية والخدمية للمجتمعات البشرية.

 

كثيرًا ما تتعثر خطط وبرامج  التنمية، بحسب ظروف كل دولة والمتغيرات التي تطرأ عليها، والواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي الذي تعيشه، والسلوك الإداري الذي تنتهجه. لذا تتعدد الآفات التي في محيطها تتأكل التنمية.

أدهى وأمر آفات التنمية آفة التهميش فهما ضدان فالتهميش يتضاد تمامًا مع التنمية، في تصور لظاهرة بشعة قاهرة، ومتسلطة ومهيمنة ومقيدة لنمو وتطور المجتمع، وكأن التهميش  تأكيد على سوء الأحوال العامة وتردي الأوضاع المجتمعية.

فإذا كانت التنمية تسعى إلى تحرير المجتمع من آفة التهميش، فالتهميش مفهوم متعدد الأبعاد، يشمل الفقر والجهل والتخلف والإقصاء والاستعباد والتبعية والإذلال وانتهاك حقوق الإنسان. وفي إطاره يأتي  التخلف الذي يتمحور في كل ما يعوق ويكبح فرص تقدم وتطور المجتمع.

فظاهر التخلف الفقر والجهل والمرض، وباطنه الفشل في الاستفادة الكاملة من فرص التنمية، وتراجع مستوى الأداء الاقتصادي، وتدني الإنتاج الناجم عن سوء الإدارة وتخلف المعرفة المهنية والتقنية، وانخفاض مستوى الدخل القومي بالمقارنة بالدول المتقدمة، واختلال في التوازن الهيكلي، ووهن مؤسسات المجتمع في مقاومة دواعي  التخلف.

تتفاوت الدول في الاهتمام بالتنمية التي تنشدها الشعوب وتسعى إليها الحكومات. مستوى نضج ومهنية الإدارة يُحدد الاتجاه نحو خيار التنمية وعنوانها التطور والتقدم، أم إلى خيار التخلف المفضي إلى البؤس والشقاء.

لا يمكن دفع عجلة التنمية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية والتقنية إلا بقدرات إدارية تواكب سرعة التغيير ومعطيات التحضر التي لا تتوقف. وفي هذا الإطار ألقت التطورات والمتغيرات الحديثة بأعبائها وتبعاتها على عنصر الإدارة، وأصبحت مهمة الإدارة تواجه تحديًا حقيقيًا فعليها استيعاب المتغيرات واستشراف المستقبل وتجاوز التحديات ومعالجة المشكلات بمهارات متجددة، تستهدف باستمرار  تحسين وضعية ما أو تطويرها، من حالة السوء والرداءة إلى حال العطاء والجودة. تتمايز الدول فيما بينها على سلم التطور والتقدم والتحضر بمقدار قدراتها الإدارية، فالدول المتقدمة تتسم بقدرات وإمكانات إدارية أكثر احترافية، وتتدرج نحو التخلف بمقدار تراجع خبراتها وتجاربها الإدارية التي ترسم معالم تقدم أو تخلف التنمية فيها.

لا نذهب بعيدًا للوقوف على واقع التنمية في الوطن العربي  فتقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام ٢٠٢٢م (HDI) الذي شعاره "زمن بلا يقين، حياة بلا استقرار: صياغة مستقبلنا في عالم يتحوّل" يرسم صورة لمجتمع عالمي يترنح بين أزمة وأخرى ويخاطر بالاتجاه نحو تزايد الحرمان والمظالم. والذي يقيس الصحة والتعليم ومستوى المعيشة، ويعتمد على ثلاثة مؤشرات متوسط ​​العمر المتوقع عند الولادة، وسنوات الدراسة، ونصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي.  

تعكس مؤشرات قياس التنمية البشرية مستوى الرفاهية التي تعيشها شعوب العالم في شتى المجالات، وذلك بغرض توفير قاعدة يمكن من خلالها إجراء المقارنات بين قدرة الدول والمجتمعات على تحقيق المساواة والعدالة والرفاهية لشعوبها. وعلى هذا المقياس فقد حلت دولة سويسرا في المرتبة الأولى عالميًا على قائمة الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة جدًا، تلتها كل من النرويج وأيسلندا وهونج كونج. ولم يكن من بين العشرين دولة الأولى أي دولة عربية.

في هذا النسق يبدو أن تحسن الدول العربية البالغ عددها ٢٢ دولة لا يزال محدودًا، مع تقدم ضئيل لعدد قليل من  الدول الأفضل حالًا من بينها، إلا أن الدول  العربية جميعها ظلت خارج ربع المائة الأولى حسب التصنيف العالمي، وأن ١٢ دولة منها ترتيبها جاء بعد المائة من بين دول العالم على هذا المقياس.

يبدو أن الواقع العربي يعاني من تراكمات وعوامل كرستها  الحروب والصراعات والنزاعات الأكثر تعطيلًا لخطط وبرامج التنمية.  بنظرة سريعة خاطفة خلال نحو نصف قرن مضى لمسارات الحروب على خارطة الوطن العربي سنجد آثار حرب طاحنة مركزها العراق كانت باتجاه ايران ونحو الكويت ثم داخله، وصراع مستمر مع إسرائيل الجسم القريب المزروع في المنطقة العربية والشرق أوسطية لتعميق الصراعات فيها آخرها الحرب الدائرة على أرض فلسطين في غزة، ونتاج حرب سوريا وليبيا ولبنان، والسودان واليمن عمقت التخلف وكرست التهميش وجلبت التضخم المنفلت.

جل الموارد تستنزفها الحروب، وأكثر الثروات تظل رهينة لنفقاتها. وخطط وبرامج التنمية تتأثر كثيرًا بنتائجها، وقد تُلغى أو تُقلص إلى الحد الأدنى بسبب تلك النزاعات والصراعات التي لها بواعث وخلفها أجندات.  استراتيجية إسرائيل المعلنة من أبرز بنودها أن تظل هي الدولة الأكثر قوةً عسكرية واقتصادية وتقنية في المنطقة، وأن تشتعل بين دول المنطقة حروبًا ليست هي طرفًا فيها  لتظل دول المنطقة منهكة الاقتصاد متعثرة التنمية.

الاضطراب المتعمد وعدم الاستقرار في المنطقة العربية وجرها لحروب تتابعية، فحتمًا لن يجعل اسرائيل مستقرة مطمئنة ينعم من تجلبه من السكان برغد العيش وطيب المقام وعدم الخوف، بل سيتسع محيط الهلع والقلق، وتزداد الانهزامية والتقهقر، وسيأتي بها قصرًا لساحة الحرب كما هي الأحداث السابقة والآنية التي يوثقها التاريخ وتستقر في ذاكرة البشر. إن المُخطط الذي أداته الدفع باستمرار نحو الحرب فحتمًا سيقوض التنمية، بنمط إدارة حافة الهاوية التي ستبقي على التهميش وتجلب  مزيدًا من التخلف والحرمان. 

الدكتور/محمد الفايدي                                
خبير استراتيجي ورئيس مكتب المعرفة العربية السعودي للاستشارات