رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صانع الأقنعة.. نجيب محفوظ.. حكايات روائى فى عصر المسرح 

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

المسرح ونجيب محفوظ علاقة أعمق وأبعد من المسرحيات الثمانى التى كتبها فى ثلاث مجموعات، أو من أعماله التى تحولت إلى عروض على خشبة المسرح، لكن ثمة ظواهر مسرحية عديدة فى أعماله الروائية والقصصية، منها استخدامه الحوار الدرامى فى عدد كبير من أعماله، والحوارات المدهشة التى تشى بالقلق والصراع الدائمين بين الشخصيات، بالإضافة إلى اللغة البسيطة والعميقة فى آنٍ، والتى تحمل فى طياتها لغة التكثيف الشعرى ببراعة لا يتقنها سواه، ولن يستطيع القارئ أن يهمل عنصر الزمن ولعبة الأقدار فى رواياته، والنموذج الأمثل رواية «الحرافيش» الملحمة التى يطرح من خلالها عناصر التراجيديا وصراع الإنسان مع الموت والزمن، بالإضافة إلى أمثلة عديدة منها «اللص والكلاب» و«بداية ونهاية» و«زقاق المدق». ففى أعماله شخصيات تلعب بها الأقدار، بالإضافة إلى الفضاء المسرحى الذى كان يؤسسه بإتقان كى يمارس فيه أبطاله حياتهم، وتصميمه على اختيار المكان/ فضاء الحدث مسرحًا لهذه الشخصيات، مثل «زقاق المدق، السكرية، قصر الشوق، بين القصرين، خان الخليلى، ميرامار، قشتمر» وغيرها، ناهيك عن الشخصيات التى تمارس التنكر، وتلعب أدوارًا تختلف عن جوهرها الحقيقى، وكأنها تؤدى دورًا فى مسرحية، أى أنها تمارس فن التحايل بإتقان. 

روايات مسرحية 

فى رواية «المرايا» يقول زهير كامل، الأستاذ الجامعى الذى مرت حياته بتحولات غير طبيعية وتنقل بين اتجاهات متباينة مدافعًا عن أفعاله: «يتساءلون عن سر ازدهار المسرح، أتدرى ما هو سر ذلك؟ السر أننا صرنا جميعًا ممثلين»، وزهير كامل ارتدى عشرات الأقنعة فى حياته! بالإضافة إلى أن نجيب محفوظ كان مولعًا بروايات الأصوات، التى تحكيها أكثر من شخصية والتى تجسد علاقة جدلية بين هذه الشخصيات مثل «ميرامار والمرايا وأفراح القبة»، والأخيرة تدور أحدثها فى المسرح، والنص المسرحى يلعب دور البطولة فى هذه الرواية بل ويأتى بمثابة القوة الفاعلة التى تحرك الأحداث! وكأنه يعلن عن علاقته الوطيدة بالمسرح عام ١٩٨١. حيث توج بهذا العمل حواره مع المسرح، رواية أبطالها فرقة مسرح قطاع خاص يملكها «سرحان بك الهلالى»، وبعيدًا عن التكنيك فى بناء هذه الرواية هى درس فى المسرح، رؤية نقدية عميقة لما يجب أن يكون عليه هذا الفن، حيث يحكى الأحداث الأب والابن والأم وممثل من الدرجة الثانية، الأب ملقن وقواد، الأم قاطعة تذاكر وعاهرة، والابن مشروع مؤلف بعد أول نجاح حققه فى المسرح، فهو شاب مثالى رغم نشأته فى بيئة فاسدة، كتب العديد من النصوص، سخر منها مدير الفرقة، ولكن حين كتب حياة الفرقة وفضائح العائلة، طار مدير الفرقة فرحًا، ونجح العرض، حين جسّد الواقع على خشبة المسرح دون زيف أو تجميل، حين قام بتعرية الجميع حتى الأم والأب، بل وقام أعضاء الفرقة بتمثيل أدوارهم فى الحياة على خشبة المسرح، فى تجربة نادرة بين المسرح والرواية، ليس فقط لأن الحبكة قوامها النص المسرحى الذى كتبه عباس كرم يونس ابن الملقن وقاطعة التذاكر، بل لأن الحوار الدرامى هو الأساس للبنية العميقة لهذه الرواية. ما أقصده أنه فى أعمال نجيب محفوظ تجليات مختلفة للمسرح من خلال عناصر متعددة أهمها الحوار الدرامى، مما دفعه بعد ذلك إلى كتابة حواريات، أثارت جدلًا كبيرًا حول طبيعتها الدرامية. 

صاحب نوبل والمسرح

ثمانى حواريات أو مسرحيات قصيرة ذات الفصل الواحد، خلال عشر سنوات، كتبها صاحب نوبل، إذ بدأ الكتابة المباشرة للمسرح بعد نكسة ١٩٦٧، ولا يخلو التاريخ من دلالة سياسية، واجتماعية، وجاءت هذه الأعمال فى ثلاث مجموعات قصصية هى «تحت المظلة ٦٩، الجريمة ٧٣، الشيطان يعظ ٧٩» فما الذى دفعه لكتابة المسرح فى تلك الفترة؟ ولماذا توقف بعد ذلك؟ وإلى أى تيار مسرحى تنتمى هذه النصوص؟ وربما الشائع هو تحويل رواياته وقصصه القصيرة إلى عروض مسرحية، حيث جاءت رواية «بداية ونهاية» الأكثر حظًا وتم تقديمها على خشبة المسرح ثلاث مرات من خلال ثلاثة مخرجين «عبدالرحيم الزرقانى، فتحى الحكيم، عبدالغفار عودة»، بالإضافة إلى «قصر الشوق، بين القصرين، زقاق المدق، خان الخليلى، ميرامار»، وأغلب هذه الأعمال تم تقديمها فى الفترة من ١٩٦٠ وحتى ١٩٦٩ باستثناء «القاهرة ٨٠» من إخراج سمير العصفورى، وأيضًا «ثرثرة فوق النيل» لنفس المخرج، و«حارة العشاق» من إخراج سعد أردش، وتم تقديمهما على خشبة المسرح عام ١٩٨٩، وأعمال أخرى بعد ذلك، أهمها «حارة عم نجيب» التى قدمها أحمد حلاوة فى مسرح الطليعة، بالإضافة إلى «رواية أفراح القبة» التى تم تقديمها على خشبة المسرح أكثر من مرة فى السنوات الأخيرة.

دلالة البداية فى نهاية حقبة الستينيات قوية، وهى التى تقود القارئ لعالم نجيب محفوظ المسرحى الذى قال عنه فى أحد حواراته بعد ذلك، إنه كتب هذه المسرحيات تحت إلحاح اللحظة التاريخية التى نعيشها الآن، وإنه لجأ إلى الحوار والنقاش ليشارك فيما يحدث «ولا أقصد أن أقول رأيًا صريحًا، كنت أرغب فى مواكبة الأحداث السريعة المتغيرة» ولا بد أن نقف أمام تصريحاته عام ١٩٧٠ حول المسرح، بعد أن نشر مجموعة «تحت المظلة» وقال «إننا نعيش عصر المسرح بلا جدال، فهذه اللحظة المزدحمة بالكثير من الأفكار والمشكلات لا يمكن مناقشتها إلا عن طريق المسرح، الرواية تحتاج إلى هدوء ورويّة لأوضاع مستقرة، ولهذا لا بد أن تتوارى الآن ليصبح المسرح هو سيد الموقف»، وربما يبدو هذا الكلام غريبًا الآن، وليس فى حقبة الستينيات، حيث ازدهار المسرح المصرى والعلاقة الوثيقة بين المسرح والجمهور، حين كان المسرح يلعب دور البطولة فى الحياة الثقافية، بل أطلقوا على تلك الحقبة عصر المسرح. 

مسرح العبث

إذن ليس غريبًا أن يلجأ إلى المسرح كأسلوب للتعبير عن نفسه، فكما ذكرت عناصر المسرح تتردد فى أعماله بأساليب مختلفة، بالإضافة إلى ازدهار المسرح المصرى فى تلك الفترة، والأهم هو تأثير نكسة ١٩٦٧ على المثقفين، حيث الصدمة العنيفة وسقوط الحلم، والرؤية الضبابية للحاضر والمستقبل معًا، وفقدان اليقين فقد فرضت هذه الحالة ليس فقط الشكل المسرحى فى التعبير، ولكن نوع المسرح وهو مسرح العبث، لأنه كان الشكل الأمثل للهزيمة، كان الإحساس الصادق والحقيقى للجميع بعبثية كل شىء، وبالتالى لا بد من التعبير عن هذه اللحظة بما يناسبها، وهو مسرح العبث الذى يعبّر عن إحساس بالصدمة نتيجة غياب القيمة وفقدان اليقين، وإن الأعمال المُحكمة الصنع وليدة المعتقدات الواضحة المطمئنة، والقناعات الراسخة، وهذا ما سقط ولو بشكل مؤقت بعد الهزيمة، فكتب نجيب محفوظ بذكائه المعهود نصوصًا تُعبّر عن هذه المرحلة، نصوصًا تهزأ بجميع المعايير، ليس فقط الفكرية بل والفنية، وتسخر أيضًا من تقنيات الكتابة الراسخة، وهذا من ملامح مسرح العبث، حيث النصوص الخالية من الكائنات البشرية التى تُقدم على أفعال خالية من الدوافع، بل وفى أحيان كثيرة ينحدر الحوار فيها إلى الثرثرة التى لا معنى لها، لتشترك المسرحيات الثمانى فى الجنوح نحو الغرابة رغم اختلاف أفكارها وشخصياتها وأسلوب البناء، جنوح إلى الغرابة إلى حد الدهشة والإضحاك، بل وخلق الشعور بالتشاؤم، ناهيك عن غياب الرابطة المنطقية بين شخصيات هذه المسرحيات، خاصة فى مجموعتى «تحت المظلة والجريمة» ومرجعيتها فى العالم، لتتسم هذه النصوص باضطراب المعنى وصعوبة التفسير العقلانى، وربما هذا ما جعل مؤلفها يقول: «كتبت مسرحياتى الخمس التى ظهرت فى مجموعة تحت المظلة مستهدفًا بها القراءة أولًا وأخيرًا»، وبالفعل كانت رغبة صادقة من نجيب محفوظ كى يلتقى بالجماهير مباشرة، فقد لجأ إلى هذا الشكل ليشارك من خلال حواريات أو مسرحيات ذات فصل واحد سمها ما شئت فيما يخص الشكل» فقد اختلف البعض حول نوعها الأدبى» لكنها تعتمد فى بنائها العميق على الصراع الفكرى وليس الصراع الدرامى وإن كان بناؤها السطحى ينتسب إلى المسرح.

أنا كاتب مسرحى مبتدئ!

بتواضعه المعروف أنكر نجيب محفوظ أنه مؤهل لكتابة المسرح، وقال «أنا مجرد كاتب مبتدئ، ولا يمكن أن أزعم أننى أنتمى إلى كُتّاب المسرح الجماهيرى، وأننى ما زلت أجرّب، ولهذا فأنا أنضوى تحت لواء المسرح التجريبى»، ودون شك كان مؤهلًا لكتابة المسرح، ليس فقط من خلال هذه الحواريات ولكن من خلال تجليات المسرح فى أعماله القصصية، وأتفق معه فى استخدام مصطلح التجريب، فقد كان كعادته يجرب فى المسرح كما فعل فى الرواية، واستخدم مصطلح المسرح التجريبى عام ١٩٧١! وظنى أنه سبق الكثير من كُتّاب المسرح فى استخدام مصطلح التجريب، بل وتطبيقه عمليًا، فى هذه الحواريات التى أثارت جدلًا حول طبيعتها المسرحية وإنتمائها إلى جنس المسرح، خاصة بعد أن صرح هو فى أكثر من حوار «نستطيع أن نسمى هذا النوع على سبيل الطرافة (ق. م) أى قصة مسرحية، لأنها تجمع بين جوهر القصة وشكل المسرحية»، وأيضًا إن هذه الحواريات مزج بين القصة والمسرحية فى وحدة عضوية فنية واحدة، وظنى أن هذا هو أدق توصيف لهذه الحواريات، ولن ننسى أن المسرح كان حتى سبعينيات القرن الماضى فى قمة ازدهاره، مما دفع نجيب محفوظ أن يقول «ليس أمام الروائى الذى يعيش فى عصر المسرح إلا أن يكتب قصة فى شكل حوار»، وهذا ما حدث بالضبط، بالإضافة إلى ارتباطه العميق بفن المسرح الذى ظهر واضحًا فى أعماله الروائية. 

لقد عاصر نجيب محفوظ منذ طفولته فى العقد الثانى من القرن العشرين أزهى عصور المسرح المصرى، التى امتدت حتى الستينيات، فكان من الطبيعى أن يكون جزءًا من مشروعه الأدبى، واستفاد منه فى إطار ما يخدم مشروعه الروائى.