رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سلامة موسى وأشاوس عصره

 هو المُنبت الذى لا عِلْمًا قطع ولا أدبًا أبقى!.. هكذا وصف عباس العقاد شخص ورحلة سلامة موسى الأدبية والفكرية: إن سلامة موسى أثبت شيئًا هامًّا، هو أنه غير عربى ومتهكم، إن العلماء يحسبونه على الأدباء، والأدباء يحسبونه على العلماء، لهذا فهو المنبت الذى لا عِلْمًا قطع ولا أدبًا أبقى.
ولم تكف مجلة الرسالة عن مهاجمة سلامة موسى إلى حد وصفه بأنه الكاتب الذى يجيد اللاتينية أكثر من العربية، أما إبراهيم عبدالقادر المازنى فوصفه بأنه دجال ومشعوذ! 
قد يكون من بين الأسباب التى دعت إلى مهاجمة المفكر وفكره تبعية أطروحاته إلى تيار حداثى يكاد يركز طموحاته على العمل نحو تغيير البنية الفكرية والثقافية وتجديدها أساسًا للتحديث الشامل، وهذا التيار فى معظمه عصرى فى الفترة التى شهدت ألق وتدفق خطاباته، يرتبط بالمفاهيم والقيم الأساسية للحضارة العصرية، وهو لا يدعو إلى حضارة أخرى كما تصور مناهضو رسالته، وإنما كانت دعوته تذهب إلى ضرورة الذوبان فى هذه الحضارة العصرية، والتماهى مع منتجاتها، والتفاعل الإيجابى مع كل جديد لصالح تنمية الذات والمجتمعات والأوطان، على ألا يكون أمر ذلك التفاعل على حساب خصائصنا الذاتية والقومية..
وهذا التوجه هو ما أكد عليه المفكر محمود أمين العالم عندما كتب كثيرًا حول الجهود التنويرية الكبيرة التى قام بها شبلى شميل وفرح أنطون وإسماعيل مظهر ويعقوب صروف وغيرهم..
كانت أفكار سلامة موسى على حد تعبير كامل الشناوى أشبه بمطرقة.. تقرع الرءوس لتنبهها وتثير اهتمامها، وتنقلها من الخيال إلى الواقع، ومن الوهم إلى العلم، ومن الخرافة إلى الحقيقة..لقد مارس سلامة موسى الاشتباك فى حروب وذهب إلى منازلات مع أشاوس عصره، ولم يكن له من أغراض وأهداف سوى الدعوة إلى تحقيق طفرات حضارية، وتوفير معطيات القدر المأمول من العدالة الاجتماعية، ووضع أسس بناء مجتمع الحرية والديمقراطية والوفرة والاندماج الوطنى النبيل بين الناس، والعمل على نشر وإعمال التفكير العلمى والمبدع بعيدًا عن أهل الدجل من سكان أوطان الخرافة بعقلانية وحرية فكرية والتزام بكل قيم البحث العلمى الأخلاقية.. وهو مازلنا ننشده ونطالب به النظم والحكومات المتعاقبة حتى الآن فى منطقتنا العربية.. 
ونحن بصدد تطبيق منظومة جديدة فى إطار إصلاح التعليم، والنظر من جديد فى أمر تطوير آليات النظم التربوية، أرى ضرورة إعداد وتقديم مناهج تربوية عبر عرض سير حياة رموزنا الوطنية فى كل مجالات العطاء الوطنى والفكرى والثقافى والاجتماعى والإنسانى لدعم قيم الانتماء والوطنية والإبداع الفكرى المتجدد والتفكير العلمى والمنهجى..
لقد كانت فكرة ناجحة فى هذا الاتجاه تدريس كتاب «الأيام» وهى المتضمنة السيرة الذاتية لحياة عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، باعتبارة رمزًا إنسانيًا رائعًا للنضال وتجاوز الصعاب وصاحب رؤية وحلم وامتلاك عزيمة لا تلين لتحقيق معالم متكاملة لذلك الحلم وتلك الرؤية للتطبيق وتقديم النموذج الوطنى المتكامل للأجيال التالية..
وأرى أن كتاب تربية سلامة موسى هو الآخر ينبغى الالتفات إليه ونحن بصدد وضع آليات دعم النظم التربوية الجديدة، وذلك لما يطرحه من رؤى وأفكار ومثاليات وقيم صالحة لكل عصر للتطبيق والانتفاع بها..
عن الكتاب يقول الكاتب وديع فلسطين: ما قرأت فى اللغة العربية سيرةً كتبها صاحبها عن نفسه فحالفه فيها توفيق كالتوفيق الذى أصابه الأستاذ سلامة موسى لما سجل أخيرًا سيرته وأصدرها فى كتاب عنوانه «تربية سلامه موسى»، فهو كتاب أصيل فريد يمتاز بالصدق والإخلاص، ويبسط آراء الكاتب وانفعالاته وما استثاره من أحداث، وما استفزه على التفكير، ويرد لأساتذته المفكرين دينًا، ويرشد أبناء الجيل الجديد إلى وسائل الكفاح الذهنى وطرق التجاوب بين الإنسان والمجتمع الذى يحيط به..  
ويضيف فلسطين: وبعد، فهذا كتاب تلوته مرتين، وأرجو أن أتلوه مرتين أخريين على القليل، فقد شغل تفكيرى ونشط حواسى وأنهض عزيمتى وأرشدنى إلى آفاق كان حريًا أن لا أقف عليها، كتاب بدل عندى قيم الأشياء وجعلنى أستعير من الطفل رغبته الدائمة فى الاستطلاع وإلحاحه المستمر فى الاستفهام والسؤال، وكأنى بالأستاذ سلامه موسى يريد أن يقول لقرائه: كونوا كونيين.. افتحوا أذهانكم لكل جديد.. لا تعيشوا بعيدًا عن الواقع.. انهلوا من موارد المعرفة غزيرًا،.. قاوموا السلفية والتأخرية والجمود.. تعصبوا للبشرية عامة.. آمنوا فبغير الإيمان لا يكون للحياة معنى.. أطلبوا مزيدًا من الحياة لتزدادوا ثقافة واتساع فكر..  
فى مجال تقديره لأهمية البحث العلمى وإعمال العقل يؤكد سلامة موسى أننا نحتاج إلى ثقافة علمية تعم الشعب حتى يترك غيبياته، وينزل على قوانين المادة فى الزراعة، والصحة، والصناعة، حتى تعمه العقلانية العلمية، فيحل مشكلات الزواج والطلاق، والعائلة، والجريمة، والتربية والسياسة، بأساليب العلم، وليس وفقًا وخضوعًا للتقاليد والعقائد..
ولا شك أن هذه النزعة العلمية فى الشعب هى التى كانت تحفز على التخصص العلمي، وعلى مكافأة العلميين، والاستماع لهم فى نصائحهم وتوصياتهم بشأن الارتقاء المادى لبلادنا.. وهذا الارتقاء المادى- كان فى نظره- هو أساس الارتقاء الاجتماعى والثقافى والفني، لم يطلب سلامة موسى، إذن، العلم من أجل العلم، بل كان هدفه هو تحويل العلم إلى ثقافة، وكان همه أن تكون هذه الثقافة جماهيرية.. 
والكتاب فى النهاية هو ترجمة حياة الكاتب المصرى والباحث الاجتماعى سلامة موسى بقلمه نفسه، وترجمة الحياة التى يكتبها الكاتب لنفسه كانت فى زمنه فنًا غير مألوف كثيرًا بين الكتابات فى الأدب العربى الحديث..
فى تعليقات القراء على ما جاء فى الكتاب، قال أحدهم: كيف لإنسان فى التاسعة عشرة من عمره يدرك تملك الخرافة من عقول مجتمعه، ويقرر أن يسافر ليتعلم أكثر عن نظرية التطور والاشتراكية والتفكير العلمى المنطقى لينقله إلى مجتمعه، وقارئ آخر: يؤكد سلامة موسى كان كاتبًا يكتب للبشرية والمستقبل عندما، كان هناك كتاب نظنهم كبارًا يكتبون عن الماضى، وعن عظمة الحاكم، إبداع خالص وسرد للسيرة الذاتية كما يجب أن تكون، سلامة موسى كان قادرًا على نقلى إلى عصره بشكل عبقرى، فالكاتب يسرد قصته من خلال أحداث العصر والفترة التى عاشها، وتجارب الآخرين، وصلتها بتجاربه الشخصية، والصراعات والصدامات التى أدّت إلى نموه الفكري، ونهمه غير الطبيعى للقراءة والمعرفة والعلم.