رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محفوظ عبدالرحمن.. كاتب الدراما الوطنية والسيرة الذاتية

انحاز إلى الدراما التاريخية والسيرة الذاتية، فجاءت أعماله تجسيدًا حيًا لجزء كبير من التاريخ المصرى والعربى بشكل عام، ليبعث على الشاشة بعشرات الشخصيات من عمق التاريخ ويناقش معهم ليس فقط الماضى بل تأثيره فى الحاضر والمستقبل من خلال قراءة واعية لأحداث التاريخ فى قالب درامى محكم ومثير، إنه محفوظ عبدالرحمن السيناريست والكاتب المسرحى وكاتب القصة القصيرة الذى كتب أيضًا للسينما والدراما التليفزيونية والإذاعة، الذى تحل اليوم ذكرى ميلاده التسعون حيث ولد فى ١ ديسمبر١٩٣٣، وعلى الرغم من شهرته الكبيره فى المسرح، خاصة فى الأقاليم، من خلال مجموعة من المسرحيات نالت تقديرًا نقديًا كبيرًا، منها «عريس لبنت السلطان، حفلة على الخازوق، الحامى والحرامى، محاكمة السيد ميم، السندباد البحرى، ليلة من ألف ليلة وليلة»، بل يندر أن يمر موسم من مواسم المسرح فى الثقافة الجماهيرية دون أن يتم تقديم هذه النصوص خاصة «عريس لبنت السلطان، حفلة على الخازوق»، إلا أننى أنحاز لكاتب الدراما التليفزيونية الذى قدم للمشاهد مجموعة من الأعمال الدرامية أصبحت بامتياز جزءًا من وجدان المشاهد المصرى. 
تخرج محفوظ عبدالرحمن فى جامعة القاهرة ١٩٦٠، ليعمل محررًا فى «دار الهلال» قبل أن ينتقل إلى وزارة الثقافة للعمل فى دار الوثائق ثم سكرتيرًا لتحرير مجلة «المسرح»، وانحاز منذ كتابته الأولى بقوة للدراما التاريخية والسير الذاتية، وبالفعل أصبح أحد أعلام هذا النوع من الدراما، حيث كتب مجموعة من الأعمال يندر أن يكتبها مجتمعة كاتب بمفرده، ومنها «ليلة سقوط غرناطة، القادسية، ناصر ٥٦، حليم، أهل الهوى عن حياة خالد الذكر سيد درويش، مصرع المتنبى، الزير سالم، الكتابة على لحم يحترق، سليمان الحلبى، أم كلثوم، بوابة الحلوانى فى أربعة أجزاء»، ودلالة العناوين واضحة وتشى بهذا الانحياز للتاريخ وللهوية، ومسلسل «بوابة الحلوانى فى أربعة أجزاء» نموذج لهذا الانحياز، ومن خلاله نستطيع قراءة أسلوب وفكر محفوظ عبدالرحمن الكاتب الوطنى الذى جسّد صفحات مهمة من تاريخ المصريين فى أعماله الدرامية، جسد القيم والمبادئ والأعراف والتقاليد، جسّد الهوية المصرية فى مشاهد درامية، فهو من الجيل الذى آمن بالهوية المصرية وبعظمة التاريخ المصرى، ففى «بوابة الحلوانى» قدم صورة من تاريخ الشعب المصرى، حيث تقوم الحبكة الدرامية حول حفر قناة السويس، فهى الحبكة الأساسية، وهناك حبكات ثانوية عديدة وشخصيات من الحكام ومن الشعب، وهنا تظهر براعة هذا الكاتب الذى جعل من علاقات الحب فى هذا المسلسل البناء العميق للحكاية، وذلك حين قدم صورة حية للحياة الاجتماعية ورسم بدقة تفاصيل الحياة اليومية للمصريين فى القرن التاسع عشر، بداية عصر النهضة مع مؤسس مصر الحديثة محمد على باشا، ففى البنية السطحية علاقات الحب المتشابكة والمعقدة، ولكنه من خلالها يقدم للمشاهد صورة حية لصفحة مهمة ومحورية من تاريخ مصر، عاد ليكملها فى فيلم «ناصر ٥٦» الذى قدم من خلاله معالجة درامية مدهشة لقرار تأميم قناة السويس وهزيمة المصريين العدوان الثلاثى، ففى مسلسل «بوابة الحلوانى» الذى يبدأ بحكم الخديو سعيد، الذى وقّع على الاتفاق الشهير حين منح ديلسيبس امتياز حفر قناة السويس يجسد عصر الخديو الذى افتتحت القناة فى عهده وهو الخديو إسماعيل، مؤسس القاهرة الخديوية المعروفة لنا بوسط البلد، وصولًا إلى الخديو توفيق والثورة العرابية، قدم ما يقرب من نصف قرن من الأحداث المحورية فى التاريخ المصرى وعشرات الشخصيات السياسية والثقافية، قدم رواد عصر النهضة، مثل رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك ورائد المسرح المصرى يعقوب صنوع، وبداية النهضة الموسيقية على يد عبده الحامولى وألمظ من خلال بناء عميق لهذه الشخصيات، ليس فقط من خلال تصوير أبعاد كل شخصية بل ملامح هذا العصر من خلال أفعالها، حيث قدم للمشاهد نموذجًا دقيقًا للمغنى فى ذلك العصر وكيف كان يتعلم ويشق طريقه، قدم صورًا حية لعالم الطرب والموسيقى وعلاقة المصريين بهذا الفن، وهذا ما فعله فى المسرح حين قدم يعقوب صنوع ومسرحه، وأيضًا بشير التقدم رائد الترجمة فى العصر الحديث رفاعة الطهطاوى، وجهوده فى نقل العلوم الحديثة وتأسيس مجلة «روضة المدارس»، حيث قدم معالجة درامية مدهشة للصراعات السياسية فى ذلك الوقت، حيث يشعر المشاهد بأن محفوظ عبدالرحمن يرسم صورة تفصيلية متكاملة لتلك الحقبة دون أن يسقط فى فخ المباشرة أو يشعر المشاهد بأنه أمام توثيق درامى لهذه المرحلة، وقد احتاج منه ثقافة موسوعية فى شتى مناحى الحياة فى القرن التاسع عشر لدرجة أننى سمعته ذات مرة فى حديث إذاعى يقول إنه قرأ عن كيفية دخول الكهرباء مصر، قرأ كل شىء لذلك جسد نموذجًا مدهشًا لمصر فى القرن التاسع عشر، وكأننا أمام معمارى يبنى مدينة متكاملة على الشاشة، وقد توفر لهذا المسلسل كل عوامل النجاح بدءًا من الكتابة، وصولًا إلى المخرج المتميز إبراهيم الصحن، مرورًا بموسيقى بليغ حمدى وأشعار سيد حجاب، والأدوار المتميزة لمحمد وفيق فى دور الخديو إسماعيل وأسامة عباس «إسماعيل المفتش» وأحمد راتب فى أجمل أدواره سلامة الحلوانى، وعدد كبير من الفنانين يندر أن يجتمع فى عمل درامى مثل عبدالله غيث، عبدالله فرغلى، حسن مصطفى، عزت العلايلى، حسن حسنى، نجاح الموجى، صلاح قابيل، على الحجار، والأدوار النسائية، سميرة عبدالعزيز، ميمى جمال، شيرين وجدى، ليلى طاهر وسعاد نصر، وآخرين. 
وهذا أيضًا ما فعله فى مسلسل «أم كلثوم» الذى يحكى فى ظاهره ومن خلال البنية السطحية سيرة سيدة الغناء العربى أم كلثوم، ولكن يقدم من خلال البنية العميقة للمسلسل سيرة حية لعصر النهضة الذى شهدته الموسيقى المصرية وأهم رموزها، حيث قدم معالجة درامية لعصر أم كلثوم ورياض السنباطى والشيخ أبوالعلا محمد وزكريا أحمد والقصبجى وبيرم التونسى وأحمد رامى ومأمون الشناوى، وعشرات من رموز النهضة دون أن يشعر المشاهد بالملل من سرد عشرات التفاصيل التاريخية، فلدى محفوظ عبدالرحمن قدرة فذة على معالجة الأحداث التاريخية فى عمل درامى شيق يفيض بالمشاعر الوطنية، ويُشعر المشاهد بمدى عشق هذا الكاتب لمصر وقد عبّر سيد حجاب عن هذا الحب فى أغنية المقدمة والنهاية لمسلسل «بوابة الحلوانى» وهو يقول: «عشان كده يا أولاد مصر حلوة الحلوات» وفى كل أعماله قدم محفوظ عبدالرحمن ليس فقط التاريخ المحض، بل صورة حية للحياة الاجتماعية يطل من خلالها التاريخ.