رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أما لهذا "النتنياهو" من آخر؟!

لا فرق بين حكام إسرائيل في صناعة الشرور، بمدى تاريخها الملطخ بالعار، غير أن نتنياهو قد يكون الأكثر شرا والأقل سماعا لنصائح الأصدقاء الأمريكيين والأوروبيين، والآخرين من الشرقيين والمصريين والعرب.
يعرف نتنياهو لغة واحدة هي الموت، ويسمع صوتا واحدا هو صوت نفسه، ويريد هدفا واحدا هو أن يستولي على كامل غزة ومن ثم فلسطين، حتى يتمدد منها إلى دول الجوار شيئا فشيئا تحقيقا لفكرة إسرائيل الكبرى "من النيل إلى الفرات".
يعكس الرجل، وهذه هي الحقيقة، أزمة إسرائيل الكبرى التي تكمن في حاكميها بالذات، والمعنى أن إسرائيل لن تذوق صلحا ولا أمانا، ما دامت مصرة على أن يكون أمثال هذا الوحش البشري على رأس السلطة فيها!
يوغل نتنياهو في دم الأطفال والنساء فوق ما توغل وحوش الغابة في دمي فرائسها، وفوق ما يوغل مصاصو الدماء السينمائيون في تصفية ضحاياهم، وإن قيل له: توقف! قال: أنا مستمر! وإن رأى المقاومة الفلسطينية، وهي ضئيلة بالقياس إلى آلته العسكرية الجبارة، تقتل جنوده وتأسر ضباطه وتدمر دباباته العمياء، ولم يقو على اصطيادها ولا معرفة مخابئها، قال واثقا: سأسقط المباني على رءوس السكان، وأقتحم المستشفيات، وأخطف الجثث، وأهلك الضروع، وأحرق الزروع، وأعطل الهدن، وأبدد صفقات التفاهم.. (الصفقة الأولى التي تمت لتبادل الأسرى، وتتخللها هدنة لأربعة أيام قابلة للتمديد، تمت مؤخرا بوساطة أمريكية مصرية قطرية مشتركة وتنفيذ خطواتها جارٍ حاليا)؛ قال نتنياهو (في أثناء الاتفاق بشأنها وقبيل أن تبدأ فعليا): إن الحرب مستمرة حتى تدمير حماس، وإن قطاع غزة لن يشكل تهديدا لإسرائيل بعد الآن. تكلم بهذه اللهجة المحبطة المستفزة، في حين أن أمثال هذه الصفقات من المفروض أنها بدايات هبوط لحرارة الصراع الساخنة على وجه العموم.. بدايات فك للعقد المحكمة وانفراج للأوضاع اليائسة التي فاقت، في بعض تجلياتها، أوضاع الحروب العالمية الفائتة.. لكن الرجل تعود أن يتكلم كما تتكلم مدافع حربه!
أما لهذا "النتنياهو" من آخر؟!
كل خطوة يخطوها إلى الأمام ترجع بإسرائيل ألف خطوة إلى الوراء؛ تنهيها
سياسيا وعسكريا، وتفقرها بعد غنى، وتجعل سمعتها السيئة أصلا في الحضيض وتحت الحضيض بكثير، وتعزز فكرة الثأر منها إلى الأبد.. لقد ثار الإسرائيليون أنفسهم بقوة في وجهه، ثاروا، بالأمس القريب، ويثورون باستمرار حاليا غير راضين عن الأداء العنيف المستهجن الذي لا يفضي إلى شيء، لكنه يخرج بعدها فارغا معاندا كعادته، لا منتصرا في الحرب بوضوح ولا مستعيدا كامل الأسرى والمخطوفين بطرقه السادية التي ضجت منها الجمادات قبل الأحياء بالفعل، والأدهى أنه صار يحدد الخطط المصيرية لما بعد المعركة؛ كأنه الملك الظافر!
على كل حال جميل أن يكون مثله سيدا لإسرائيل لأنه يفضح تطرفها الفادح وأطماعها المستحيلة في الصعود على حساب الباقين، وقبيح في الوقت نفسه أن يحتل مثله هذا المنصب لأنه يقتل فرص التعايش الأليف الودود، يقتلها متتابعة بغباوته! 
أما لهذا "النتنياهو" من آخر؟!
الطبيعي أن يكون في المحكمة الدولية بتهمة الإبادة الجماعية لشعب أعزل، وفي المحكمة الإسرائيلية بتهم شتى، يعرفها البعاد كما يعرفها الإسرائيليون، وفي المحكمة الإنسانية بالأساس؛ لأنه انسل من إنسانيته وانتسب إلى ضراوة الضواري فاضحا سعاره الرهيب المزمن.
الأصح أن تنقذ إسرائيل نفسها من أوحاله، وتنظف ساحتها من بطش يديه ومن مريديه ومؤيديه، هكذا لو كانت تنشد الحياة، هكذا لو كانت تبغي الصلح والأمان، هكذا لو كانت تريد أن يكون لها علاقات مستقبلية طبيعية بجيرانها ومحيطاتها، إسرائيل التي لا ننكر وجودها، بالمناسبة، وإن كنا ننكر حدودها!
قدر ما أخاف من الأكثرية الإسرائيلية التي حملت السلاح كالجنود وأدمنت موافقة حاكميها المستبدين، قدر ما أعول على قلة قليلة من المدنيين الإسرائيليين الموجودين بها والمنتشرين في العالم، أعني الودعاء الذين ضاقوا بأجواء الصراع الخانقة وتاقوا إلى الحرية والطمأنينة، ومن الحاخامات العدول عارفي الحق ومريدي إقراره، ومن الحكماء والمثقفين السلميين رافضي البغي والطغيان.
لا حل يتخطى إسرائيل نفسها أيا كان مساره، ما دام نتنياهو وأشباهه يسيطرون على الكراسي الكبيرة هناك، إنما منها وإليها بالأصل، والخطوة المبدئية هي الإطاحة بهؤلاء ومن ثم خلق إسرائيل جديدة، إسرائيل سوى الشوكة التي في حلق فلسطين والجميع، ربما كان هذا وهما، لكن الأمنيات البعيدة تبدأ كأوهام في العادة!