رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شعب الله المطرود

قبل اثنى عشر عامًا، وتحديدًا فى مايو ٢٠١١، كنت فى رحلة عمل إلى العاصمة التركية الأولى «إسطنبول»، وهى العاصمة التى تم تغييرها مع تولى كمال أتاتورك الحكم قبل مائة عام بالتمام والكمال، ومع رغبته فى التخلص من كل ما له علاقة بالدولة العثمانية، واختياره مدينة «أنقرة»، التى كانت مقرًا لقيادة عملياته خلال حرب الاستقلال، كعاصمة لدولته.

كانت الرحلة لتجريب إحدى السيارات الجديدة لواحدة من كبرى شركات السيارات الكورية، وكنت ممثلًا لجريدة «الخليج» الإماراتية، التى كنت مسئولًا بها عن قسم الاقتصاد العربى والدولى، وكان عدد الصحفيين المدعوين كبيرًا، ومن لغات وجنسيات كثيرة.. المهم أنه فى صبيحة اليوم الثانى من الرحلة كان من المقرر أن يتبادل كل اثنين من المدعوين قيادة إحدى السيارات فى رحلة تستغرق نحو الساعتين، تتخللها استراحة لتناول الغداء فى أحد المطاعم الفاخرة.

لسبب لا أعرفه، وجدت نفسى بمفردى فى واحدة من السيارات، فقلت لنفسى «هايل جدًا، لن يعكر صفو الرحلة مجهول»، فقد كنت لا أعرف أيًا من المدعوين، حتى المصرى الذى كان موجودًا ضمنهم لم تعجبنى طريقته فى الأكل ولا فى الكلام ولا الحركة، فتعمدت تجنبه طوال الوقت، وربما كان ذلك هو السبب فى أننى كنت بمفردى، إلا أنه للأسف الشديد لم يستمر الوضع على هذه الحال، فقبل التحرك بأقل من دقيقة واحدة وجدت أحدهم يخبط على زجاج سيارتى، ويرجونى بإنجليزية تشبه إنجليزيتى المصرية الركيكة أن يشاركنى الرحلة، مدعيًا أنه كان يخطط للذهاب مع بلدياته، لكنه عندما ذهب إليه وجده بصحبة آخر، وبالتالى لن يستطيع تجربة السيارة.. رحبت به، وبدأت الرحلة.

لم تمض دقائق على بداية التحرك بالسيارات، التى كان يزيد عددها على العشرين، حتى وجدته يحاول فتح حوار معى، سألنى عن اسمى وبلدى، ثم صمت تمامًا بعدما أجبته.. فى البداية لم أهتم، فلست هنا للتعارف، ولا لتبادل أى شكل من أشكال الخبرات، وحتى إن حاولت فلن تسعفنى اللغة.. لكن حالة الصمت تلك لم تطل بيننا، وبمجرد دخولنا إلى الطريق السريع، وزيادة معدل السرعة التى صار الجميع يتحركون بها، وجدته يقول بصوت شبه مسموع: «أنا من إسرائيل»، سمعتها جيدًا، لكننى تحت وقع المفاجأة، التى لم يكن لى أن أتوقعها بأى حال من الأحوال، نظرت ناحيته وسألته: «ماذا قلت؟!» فكرر ما قال.. هنا كان علىَّ أن أركز عينى باتجاه الطريق، وأنا أقول له بنبرة ثابتة، واضحة الحسم، وبإنجليزية سليمة تمامًا: «انظر.. سوف أعتبر نفسى لم أسمع منك شيئًا، وأنك لم تقل أى شىء، وليسر الأمر على النحو التالى.. نحن مجرد شخصين بلا أى تاريخ شخصى، ويجب علينا أن نجلس وحدنا فى سيارة تتحرك بسرعة شديدة، على طريق سريع.. لا أريد أن أسمع منك، ولا أن أتحدث معك حتى نصل إلى نهاية هذه الرحلة اللعينة.. تمام؟!»، فرد بنفس الصوت شبه المسموع: «تمام».

كان يبدو من ملامحه أنه فى نهايات العشرينات، أو على مداخل الثلاثين من عمره، وأنه يريد الحديث، أو أن لديه رسالة ما عليه إبلاغها بأى طريقة، هكذا لم تمض دقائق أخرى حتى بدأ فى الحديث عن القضية الفلسطينية، طلبت منه مرة أخرى أن يصمت، لكنه استمر قائلًا: حولنا عشرات الدول العربية، وكلها تريد حلًا لهذه المشكلة، وتحب الفلسطينيين، فلماذا لا تأخذهم عندها.. ليرتاح الجميع؟!

هنا وجدتنى ألتفت ناحيته بكامل جسدى، فيما تزداد قوة الضغط بقدمى على دواسة البنزين، وأقول له بكل هدوء وحسم: تقولون إنكم شعب الله المختار، وإنه يحبكم.. هذا جيد جدًا.. ويقول الواقع، وحقائق التاريخ، إن الفرنسيين طردوكم من بلادهم خمس مرات، وطردكم الإنجليز أربع مرات، وقبلها تم طردكم من إسبانيا، والبرتغال والمجر وسويسرا، وبولندا وبعدها من إيطاليا وألمانيا.. ما يعنى بوضوح تام أنه لا أحد يريدكم فى هذا العالم، لا أحد يريدكم على وجه الكرة الأرضية! فإذا كان الله يحبكم بالفعل، لماذا لا يأخذكم عنده، فيرتاح العالم كله؟!

لم ينطق بعدها بكلمة واحدة، ثم اختفى تمامًا فى استراحة الغداء.. ويبدو أنه تخلى عن تجربة القيادة، فعادت سيارتى خالصة لى وحدى.. وعادت لى، فى رحلة العودة، متعة القيادة دون «زن»، ودون روائح كريهة لم أذكرها فى الحديث عن رحلة الذهاب.