رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جحيم مستشفيات غزة.. كيف تتم العمليات الجراحية دون تخدير لضحايا القصف؟

جحيم مستشفيات غزة
جحيم مستشفيات غزة

«سيتم البتر للقدم دون تخدير».. كان لتلك الكلمات وقع مُرعب في نفس معتصم جواد، شاب فلسطيني، أصيبت قدمه اليسرى بشظايا قصف إسرائيلي، وقع على حي الرمال شمال قطاع غزة خلال 25 أكتوبر/ تشرين الجاري، نُقل على إثره إلى مستشفى الشفاء وسط غزة المكتظة بالجرحى.

يوضح معتصم لـ«الدستور» أن الجرحى كانوا في كل مكان بالمستشفى على الطرقات وداخل الغرف، والجميع يصرخ بمن فيهم هو بسبب شدة الألم الذي كان يشعر به في قدمه والنزيف الذي أصابها: «لم يكن هناك مكان فارغ لإجراء أشعة بحسب ما قاله الأطباء، وكان لا بد من إيقاف النزيف بأي طريقة».

قرر الأطباء بتر قدم معتصم، التي دُمرت عظامها تمامًا وفق تقارير طبية- اطلعنا عليها- كان ينتظر دوره بقلق شديد في تلك العملية، إلا أن القلق تحول إلى رعب حين علم أن المستشفى به نقص في التخدير وأن عملية البتر ستُنفذ بدونه لعدم وجود بدائل.

إنفوجراف الدستور

الأسوأ من صراخ مريض يقوم بعملية جراحية دون تخدير هو الرعب الذي يصيب المنتظرين لدورهم بعده، فليس معتصم وحده من أبناء غزة الذي أجرى عمليته الجراحية دون تخدير، إذ إن 95% من مواد التخدير في مستشفيات غزة نفدت، ويعتمد الأطباء في على بدائل ليست آمنة بسبب القصف المستمر على المستشفيات، حسبما يكشف هذا التحقيق.

إنفوجراف الدستور

 

معتصم: «كان أقسى ألمًا شعرت به في حياتي»

يؤكد معتصم، أنه أجرى عملية البتر دون تخدير، لكن أطباء الجراحة استخدموا الخل من أجل تسكين الألم وتطهير الجرح، إلا أنه كان يشعر بكل شيء، بالمشارط وهي تحتك بجلده ثم لحمه، وكميات الخل التي كانت تُصب على قدمه وصراخه الذي ملأ المستشفى، وكذلك المنشار لبتر العظام.

يتذكر الشاب أن ما مر به هو أقسى ألم تعرض له طوال حياته لمدة ساعة وربع كاملة، وقع في منتصفها مغشيًا عليه من شدة الألم حتى اضطر الطبيب لإعطائه مخدرًا موضعيًا: «حتى وقت التئام الجروح لم يكن هناك مسكنات إلا بجرعات قليلة بسبب زيادة الطلب عليه من قبل الجرحى وإجراء عمليات جراحية كثيرة».

إنفوجراف الدستور

 

مدير مستشفى الشفاء: «200 عملية جراحية بلا تخدير»

نحو 200 عملية جراحية نفذها مستشفى الشفاء (حكوميًا) دون تخدير منذ بدء معركة «طوفان الأقصى»، بحسب الدكتور محمد أبو سلمية مدير المستشفى، الذي يؤكد أن هناك نقصًا في مواد التخدير بنسبة 100%، وأن مستشفيات القطاع بأكمله تعاني نقصًا في كل المستلزمات الطبية.

يقول لـ«الدستور»: «أصبحنا غير قادرين على إجراء جميع العمليات الجراحية بسبب عدم وجود مواد تخدير أو مسكنات كافية، فيتم المفاضلة بين آلام المرضى حسب تقييمات الطبيب أيهما أشد ألمًا وإعطاءه مخدرًا أو مسكنًا حيث يصل نحو 200 إلى 250 جريحًا للمستشفى يوميًا».

ويعتمد جرّاحو مستشفى «الشفاء» بالفعل على بدائل للتخدير مثل الخل، وتتم خياطة الجروح دون تخدير، حسب أبو سلمية، الذي يوضح أن تلك البدائل لها أضرار مثل الصديد للجروح أو الإصابة بالغرغرينا: «ليس أمامنا حلول أخرى لأن العمليات الجراحية كثيرة للغاية ولا يمكن التعامل معها جميعًا، لا سيما أن عدد الأطباء غير كاف في المستشفيات كلها».

الدكتور محمد أبوسلمية 

 

مدير مستشفى كمال عدوان: «نقص التخدير تفاقم إلى 80%»

هو نفس الحال المأساوي الذي يمر به مستشفى كمال عدوان (حكومي) شمال غزة، حسب الدكتور أحمد كحلوت، مدير المستشفى، الذي يوضح أن النقص في التخدير قبل الحرب في القطاع كان يقدر بنسبة 40% بينما الآن تضاعف ووصل إلى 80%.

يقول، لـ«الدستور»، إن العمليات الجراحية تتم في العراء دون تعقيم حيث إن الاحتلال استهدف قصف غرف المستشفى أكثر من مرة، كما يتم إجراؤها في الظلام تحت إضاءة الهواتف، وهو أمر ينطوي على مخاطر وأخطاء عديدة إلا أن الأطباء ليس أمامهم حلول أخرى.

إنفوجراف الدستور

«كحلوت» يبين أن الوقود نفد وبالتالي تعطلت أجهزة المستشفى التي تحتاجها العمليات الجراحية مثل التنفس وأنابيب القلب وغيرها: «نفاد التخدير ينذر بكارثة صحية حقيقية لكل من يجري عمليات جراحية في المستشفيات لأنها تتم في أوضاع ضارة من الناحية الطبية، إذ يؤدي عدم وجود مواد مطهرة إلى تلوث الجروح، كذلك العمليات لا بد من أن تتم في غرف مغلقة تحت درجة حرارة باردة»

يسمع «كحلوت» كل يوم هو وأطباء الجراحة في المستشفى صافرات إنذار الاحتلال الإسرائيلي تصدح، محذرة بضرورة إخلاء المستشفى بما فيه من مرضى وجرحى فورًا بسبب قصف قادم، إلا أنهم يستمرون في عملهم فلا يمكن إخلاء المستشفى في ذلك الوضع الحرج.

الدكتور أحمد كحلوت

عبدالله يجرى جراحة دون خيط طبي

كان هو النداء نفسه الذي سمعه عبدالله العطار، فلسطيني 32 عامًا، حين كان يجري أطباء مستشفى كمال عدوان له جراحة برأسه، والتي شجت بجرح قطعي في أثناء قصف إسرائيلي عنيف على بيت لاهيا شمال غزة في 15 أكتوبر/تشرين حيث يقطن، وأدى إلى استشهاد 14 فلسطينيًا.

الجراحة كانت تتم في أحد طرقات المستشفى وفي الظلام، حسبما يحكي العطار لـ«الدستور»، بسبب انقطاع الكهرباء وتكدس المرضى في كل مكان: «لم يكن هناك تخدير متوفر لذلك أجريت العملية دون تخدير وكان الألم شديدًا لا يحتمل»

الأصعب فيما حدث لـ«عبدالله» هو أن خيط الجراحة الطبي لم يكن متوفرًا لذلك اضطر الأطباء إلى إجرائها باستخدام خيط وإبر الملابس: «تلوث الجرح بعد يومين فقط، واضطر الأطباء إلى تنظيفه خوفًا من الوصول إلى الغرغرينا».

 

إنفوجراف الدستور

رئيس تجمع الأطباء الفلسطينيين: «نفاضل بين المرضى في استحقاق التخدير»

الجراحة التي قام بها عبدالله وغيره من الممكن أن تلحق أضرار بالغة بالأنسجة، حسب الدكتور محمد أمين رئيس تجمع الأطباء الفلسطينيين، والذي يؤكد أن الأطباء في المستشفيات يعانون نقصًا في المستلزمات الطبية كافة وعلى رأسها التخدير، ويقومون بتنفيذ عمليات جراحية معقدة للغاية.

يقول، لـ«الدستور»، إن عدم تطهير الجروح يؤدي إلى تلويثها، كما أن إجراء العمليات في الخلاء يسبب انتشار العدوى: «عدم توافر التخدير يصيب المرضى بألم شديد ويضع الأطباء في مواقف إنسانية صعبة من خلال المفاضلة بين من يستحق التخدير في عمليته الجراحية».

رصد التجمع خروج 9 مستشفيات في قطاع غزة عن الخدمة نتيجة القصف المستمر ونقص المستلزمات الطبية الضرورية مثل التخدير، بحسب رئيس تجمع الأطباء الفلسطينيين، وهناك مستشفيات تعرضت للقصف يعمل أطباءها في ظروف حرجة الآن.

الدكتور إبراهيم بدر

 

كارثة نفاد المستلزمات الطبية

يرجع الدكتور أشرف القدرة، المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، تلك الأوضاع الصعبة للمستشفيات إلى أن أعداد الجرحى تفوق الأطباء والإمكانيات، مبينًا أن المستلزمات الطبية في مخازن المستشفيات على وشك النفاد بسبب كثرة القصف.

يقول لـ«الدستور»: «إذا نفدت المستلزمات الجراحية والطبية سيكون الأمر كارثيًا، لأن الغارة الواحدة تورد إلى المستشفيات مئات الجرحى الذين يتطلب علاجهم تخديرًا وإبر خياطة ومطهرات وشاش وقطن وكلها مستلزمات في طريقها للنفاد».

يوم السبت الماضي طالب جيش الاحتلال الإسرائيلي بإخلاء 20 مستشفى بشمال قطاع غزة تم إخلاء 6 منها، بينما استهدف في ليلة 17 أكتوبر/ تشرين مستشفى المعمداني بقصف عنيف أدى إلى استشهاد 800 شخص وفق وزارة الصحة في غزة.

أشرف القدرة

أضرار صحية لبدائل التخدير

هي المستلزمات نفسها التي احتاجها مصابو مستشفى القدس شمال غزة، الذي تعرض لقصف في محيطه قبل 6 أيام من الآن، حسبما يقول الدكتور محمد طه، مساعد جراح في المستشفى الذي يؤوي 400 مريض و12 ألف مدني نازح.

يقول «محمد» لـ«الدستور» إنه أجرى عشرات العمليات الجراحية دون تخدير وبأقل الإمكانيات، موضحًا أنه من الناحية الطبية فهناك أضرارًا بالغة قد تصيب الجرحى منها التلوث والغرغرينا للجروح بسبب استخدام الخل لتسكين الألم: «مصابو غزة يتجرعون الألم مرتين».

قصف حي تل الهوى

 

أم نصر: «تجرعت الألم مرتين بسبب نقص التخدير»

بالفعل تجرعت أم نصر، فلسطينية، الألم مرتين، الأولى حين تم قصف حي تل الهوى منذ ثلاثة أيام، والذي أدى إلى إصابة 16 شخصًا، وكان نصر ابنها الصغير منهم، والذي أصيب بجرح قطعي في ركبته لتهرول السيدة إلى مستشفى القدس وتتجرع الألم الثاني حين أجرى ابنها الجراحة دون تخدير.

يؤوي حاليًا مستشفى القدس أكثر من 400 مريض و12 ألف مدني نازح، وتعرض للقصف الإسرائيلي في 23 أكتوبر/ تشرين الجاري

تقول لـ«الدستور»: «يبلغ ابني من العمر 12 عامًا، بينما كان هناك أطفال أقل في العمر يحتاجون إلى عمليات جراحية، لذلك قرر الأطباء أن ابني سيتحمل إجراء الجراحة في ركبته دون تخدير»، كان صراخ الصغير يملأ أرجاء المكان بينما أمه تحاول سد أذنيها.

لن تنسى أم نصر تلك اللحظات إذ يتردد صراخ ابنها من شدة الألم في أذنها، بينما يظل أقسى ألم تعرض له معتصم في حياته هو بتر قدمه دون تخدير، أما عبدالله فيتابع جرحه يوميًا خوفًا من التلوث، فيما ما زال يتدفق المصابون على المستشفيات جراء تكثيف القصف الإسرائيلي على القطاع، ويجرون العمليات الجراحية دون تخدير.