رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شرف الكلمة فى أزمنة الشدائد

اللفظُ حَجَرْ.. اللفظ منيّهْ
فإذا ركّبت كلامًا فوق كلامْ
من بينهما استولدتَ كلامْ
لرأيت الدنيا مولودًا بشعًا
وتمنيتَ الموتْ
أرجوكْ  ...
الصمتِ  ...
الصمتْ !
إنها الكلمة ومسئولية إطلاقها ومُطلقها وفق الأبيات البديعة للشاعر المصري العظيم الراحل صلاح عبدالصبور، ولعل البشاعة والخطورة التي أشارت إليها الأبيات في زمان شاعرنا قد باتت أكثر خطورة الآن في زمن تراجع القيم الإيجابية، قد يكون من بين عوامل خطورتها زيادة وانتشار منافذ الكلمة ومنصات إطلاقها، وبشكل خاص غير الخاضع منها لأي نوع من الرقابة إلا وازع من ضمير..
وعليه، قد أسعدتني ملاحظة كاتبنا الكبير عادل حمودة، حيث يقول "إنّه شعر بخوف في صوت الإعلامية ريهام السهلي رئيسة شبكة قنوات دي إم سي"، مشيدًا بهذا الأمر، موضحًا: "محدش بياخد منصب كبير وهو فارد صدره، وجاء في مداخلة هاتفية مع الإعلامي أحمد الطاهري مقدم برنامج "كلام في السياسة" على قناة "إكسترا نيوز"، أن هناك تميزًا في القيم الأخلاقية والمهنية للقيادات الإعلامية الجديدة التي عينتها الشركة المتحدة، ولا يخرجون عن سياق القواعد الأخلاقية والشخصية من أجل "الفرقعة" أو إثبات الاسم، والإنسان عندما يتربى في مكان تتكون لديه تركيبة غريزية تظهر في وقت الأزمات، والصحفي والإعلامي يتشرب بشكل أو بآخر بالبيئة التي عمل فيها، فقد نجد صحفيًا موهوبًا في الكتابة والآخر موهوبًا في الحصول على الخبر، ولكن القيادة موهبة، فيجب أن يتعلم الكادر على يد قيادي مميز، وكلنا تعلمنا على يد أساتذة كبار، علمونا وتركوا لنا المسئولية ويراقبوننا عندما نتصرف، والأكثر أهمية أننا عندما كنا نخطئ تحملوا التبعات". 
في أحيان كثيرة يؤيد أهل الكتابة والرأي ماخلص إليه الكاتب الكبير "توفيق الحكيم" في نظرته اليائسة من جدوى الكتابة التي عبر عنها عندما سأله أحدهم "لماذا تكتب؟"، قال: "أنا لا أكتب إلا لهدف واحد هو دفع القارئ للتفكير.. وبعد مائة كتاب.. أعتقد أن أعمالى غير مجدية".
ولكن برغم هذه النظرة المتشائمة ظل "الحكيم" يكتب ويبدع ويضيف وينتقد ويطور ويفكر ويحاور، وتتلقف إبداعاته دور النشر وتزين أفكاره صفحات إصدارات عصره الصحفية والثقافية، وذلك ببساطة لأنه موجود، وهو ما يؤكد عليه الكاتب الكبير "يوسف إدريس" للرد على نفس السؤال: "أنا أكتب لأنى أحيا، وأستمر في الكتابة لأني أطمح لحياة أفضل، طالما الرغبة في الكتابة مُلحة"، كما يؤكد الكاتب السوداني "الطيب صالح" على نفس الإجابة ويضيف "أجدني ميالًا إلى القول إنني أكتب طالما أني أرغب فعلًا وأبدًا بأن أصبح كاتبًا، فأنا أنتمي لثقافة ممارسة واحترام الكتابة في تقاليدها".. والكتابة ليست ورطة كما وصفها الشاعر محمود درويش عندما قال "ربما لأنني متورط في الكتابة بإيقاع لم يسمح لي بالتساؤل عن جدوى الكتابة.. أحيانًا أكتب لألعب.. لكن لماذا أكتب.. ربما لأنه لم تعد لي هوية أخرى.. لم تعد لي محبة أخرى وحرية أخرى ولا وطن آخر".
ولكن على جانب ما يخص الكتابة الصحفية فهناك الكثير من الأدوار والمهام والمسئوليات المهنية الدورية المنوط قيامها بها، والتواصل مع المتلقي طالب الخبر والمعلومة والتحليل والقراءة لأحداث الواقع.. 
وعليه، تقع مسئولية الالتزام بالقيم الأخلاقية كضرورة حاكمة وضابطة للأداء المهني الصحفي لخطورة تبعات إخفاق المؤسسات الصحفية في الانحياز الحقيقي لمصالح المواطن وأمن ورخاء وتقدم الوطن..
لا ريب أن القيم الإيجابية هي أهم ما نتوارثه عبر الأجيال، التي ينبغي أن نعض عليها بالنواجز، وهي نتاج طبيعي للضمير الحي الذي أودعه خالق النفس البشرية منذ بداية الخلق وحتي قبل نزول التوجيهات الإلهية عبر الأديان والعقائد والكتب السماوية، وانتشار بيوت الله في المعمورة..
والحديث عن القيم والضمير عبر الأزمان حديث ممتد ومتواصل جاء في رسالات الرسل وعبر آيات وقصص الكتب السماوية وأحاديث الأنبياء.. وأيضًا عبر أشعار الأولين والمحدثين وفنون القدامى والمجددين وإبداعاتهم.. وتظل الكلمة بما تشكل من لغة تواصل حية وسريعة في مقدمة الأسلحة النافذة في تحريك الضمائر وبناء القيم..
ورغم أننا نسمع ونشاهد العديد من كتابنا ومبدعينا في وسائل الإعلام المختلفة وهم يكررون عبارة أنهم ليسوا في حاجة لملاحقة الأجهزة الرقابية لهم، وأنهم يمتلكون "فلاتر"، خاصة تستطيع تنقية خطابهم للمجتمع والناس من الشوائب والرذائل، إلا أننا وللأسف تطالعنا الكثير منها في العديد من منافذ الكلمة والإبداع وفي بعض الصحف التي لا يدرك كتابها قيمة الكلمة ومدي تأثيرها، فأحالوا دنيانا إلي مساحات قبح من شأنها أن تُقلص لدي الناس فرص التقاط الأنفاس والرؤية ولو من بعيد لمناطق الأمل..
وتعتبر عملية نقل المعلومات من أهم وظائف الصحافة، وتمثل جزءًا مهمًا من نظام صنع القرار الديمقراطي، وهذا من شأنه ضرورة اعتماد مبدأ الشفافية عند ممارسة النقل إلى المجتمع، ومن الضروري أن يتم إعلام المواطنين بالقرارات وهي قيد الإعداد، لضمان إتاحة الفرصة لعمليات التأثيروالمناصرة المدنية.
كما تلعب الصحافة أيضًا دورًا ثنائيًا بين الجمهور وواضعي الخطط والسياسات، فمن جهة، تنقل الصحافة إلى المواطنين معلومات حول ما يحدث في المجتمع، ومن الجهة الأخرى، تتيح لواضعي السياسات معرفة الآثار الناجمة عن تطبيق تلك القرارات التي اتخذوها سابقًا، كما تُمكن الصحافة واضعي السياسات من معرفة ما يتوقعه ويريده الجمهور منهم..
أخيرًا إذا كان لنا أن نبث همسات عتاب لحملة الأقلام وصناع الرأي العام، فلتكن دعوة للتذكير بالواجب الذي يجب أن يتحلى به قلم الصحفي وعدسته، وتنشيط لضمير حجبت عنه في بعض الأحيان الرؤية الصائبة فراح يتخبط بين وازع للحق يناديه ووازع للإثارة ولفت الأنظار يستدعي أدوات.
وتبقى دومًا التحية واجبة لمن يحملون شرف ومسئولية الكلمة والدعوة لإعمال الفكر المستنير والمعلومة الصحيحة والحقيقة الكاشفة والمرشدة في مسيرة بناء الوطن في ظل ما يمر بهذا الوطن من مواجهات لتحديات لا يخفى أمرها على أحد بضمير مهني وتوجه تنويري.