رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بير «صرغتمش»

يعد الأمير المملوكى صرغتمش الناصرى «أحد مماليك الناصر محمد بن قلاوون» نموذجًا لأمير مملوكى طراز القرن الثامن الهجرى، فهو مثل غيره من أمراء المماليك كان ميالًا إلى الكيد والتآمر ضد غيره، رغبة فى اعتلاء أعلى المناصب والسيطرة على السلطان الذى يحكم، وهو أيضًا كان شغوفًا بجمع المال واكتنازه، مع إنفاق جزء منه فى أعمال البر والخير، ومتدينًا بذات الصورة التى كان عليها المماليك، التى ترتدى زى التدين الشكلانى الذى يقوم على إحياء الشعائر والتعصب المصالحى للدين، دون مراعاة لقيمه وأخلاقياته فى السلوك العملى.

تميز الأمير «صرغتمش» ببراعة ظاهرة فى التخلص من منافسيه عن طريق الكيد والتآمر، حكيت لك كيف تخلص من الوزير الصاحب علم الدين الدميرى، وكيف كاد له عند السلطان صلاح الدين بن قلاوون، حتى استولى على ماله ونفاه إلى مدينة «قوص»، حيث مات فيها. ومن بعده اجتهد «صرغتمش» فى التخلص من منافسيه من الأمراء، وعلى رأسهم الأمير «شيخو» أو شيخون العمرى، والأمير «طاز». «صرغتمش» كان مجرد قائد عسكرى كبير فى بلاط السلطان حسن بن قلاوون، أما شيخون العمرى فقد كان «أتابكى العسكر»، أى القائد العام للقوات المملوكية، وكان الأمير «طاز» نائبًا للسلطان على حلب، وكان «شيخون» يحمى «طاز» ويتوجس من «صرغتمش».

تعرض الأمير «شيخون» لمحاولة اغتيال، كانت سببًا فى وفاته فيما بعد، وكان ذلك عام ٧٥٨ هجرية، وقد وصف «ابن إياس» المحاولة بـ«الحادثة المهولة»، ووقعت حين غافل أحد المماليك السلطانية «شيخون» أثناء وجوده بالخدمة بالإيوان، وضربه بالسيف فى وجهه ثلاث ضربات، وما إن علم صهره «خليل بن قوصون» بالحادثة حتى تحرك مع مماليكه بسرعة إلى القلعة وحمله إلى داره، وأحضر له «المزين» الذى حاول تضميد جراحه قدر ما يستطيع. وقد ارتج السلطان حسن من واقعة الاعتداء على الأتابكى، ويذكر «ابن إياس» أنه ذهب إليه يعوده فى بيته، وجلس عند رأسه، وجعل يحلف له أنه لم يكن على علم بما حصل، ولا خبر له بما وقع من هذا المملوك.

ويبدو أن السلطان كان صادقًا فيما يقول، بدليل أنه أحضر هذا المملوك، واستجوبه فى الواقعة، وسأله سؤالًا مباشرًا إن كان أحد قد حرضه على قتل الأمير الكبير، فأنكر المملوك ذلك تمامًا، واعترف بأنه ضربه بالسيف لأسباب شخصية تتعلق بأرض أخذها من مملوك من مجموعته، فأراد الانتقام له. وهو دافع واهٍ للقتل كما ترى. وفيما يبدو أن المملوك الذى طعن «شيخون» كان مدفوعًا من أحد، لكن «ابن إياس» للإنصاف لم يشر لذلك من قريب أو من بعيد، لكن موقف السلطان بعد ذلك من الأمير «صرغتمش» كان ذا دلالة. توفى الأمير «شيخون العمرى» متأثرًا بجراحه، وتم توسيط «إعدام» المملوك قاتله. ودفن شيخون فى الخانقاه «دار تعبد صوفية» التى أنشأها إلى جوار مسجده بشارع الصليبة، على بعد أمتار من المسجد والمدرسة اللتين أنشأهما الأمير صرغتمش.

بعد اغتيال «شيخون» أصدر السلطان حسن مرسومًا بتعيين «صرغتمش الناصرى» مكانه فى الأتابكية. وحقق الأمير المملوكى هدفه أخيرًا فى أن يكون وحده إلى جوار السلطان، ولم يعد يبت فى الأمور فى مصر أحد سواه، فبات صاحب الحل والعقد فيها، وكان أول قرار اتخذه «صرغتمش» القبض على الأمير «طاز» حتى يتخلص منه هو الآخر، بعد أن رُفع غطاء الحماية عنه بوفاة الأمير شيخون العمرى، وتم حبسه بالإسكندرية. لم يكتف «صرغتمش» بذلك، بل بدأ يتجه إلى الأهالى ودور العبادة، يستقطع من الأوقاف التابعة لها، مثلما فعل فى أراضى الأوقاف التابعة للكنائس واقتطع الكثير منها، وأبطل عيد الشهيد الذى كان يحتفل به مسيحيو مصر كل عام بمشاركة المسلمين. ونتيجة لذلك بدأ الناس يحمّلون السلطان حالة العنت التى يتعامل بها أتابكيه معهم، ومع تخلصه من الأمراء الكبار، بدأ تلامذتهم يشعرون بالخطر القادم من جانب «صرغتمش»، وأن الدور يمكن أن يأتى عليهم لو تمكن من الأمر أكثر، فاتجهوا إلى السلطان يحذرونه.

ذهب وفد من الأمراء وقابلوا السلطان ونصحوه بالقبض على صرغتمش، الذى ثقل أمره على الناس، وأصبح عبئًا على السلطنة، وحذروه قائلين: «إذا لم تبادر بالقبض عليه، فسيبادر هو ويقبض عليك». بدت الصورة واضحة أمام الجميع، بمن فيهم السلطان، وبدأ يتشكك فى أن أتابكى عسكره ضالع فى اغتيال الأمير «شيخون العمرى»، لأنه أول المستفيدين من ذلك، فهو الذى حل محله فى أتابكية العسكر، كما أن وفاته جعلته يستفرد بأكبر منافسيه، وهو الأمير طاز، وتخلص منه ليصبح السلطان الفعلى للبلاد، ومن الطبيعى أن تكون خطوته التالية هى التخلص من السلطان حسن بن قلاوون نفسه، ليجلس مكانه على سرير الملك. 

وفى ٢١ رمضان من عام ٧٦١ هجرية، نظّم السلطان حسن موكبه كعادته، وصعد الأمراء إلى القلعة، ومعهم الأمير «صرغتمش» فاجتمعوا فى الديوان كما تعودوا، ثم أعطى السلطان إشارة للحرس انقضوا على إثرها على «صرغتمش» وقبضوا عليه. انتشر الخبر فى القاهرة حتى وصل إلى مماليك «صرغتمش» فلبسوا عدة الحرب وتحركوا إلى القلعة فى محاولة لتخليص أستاذهم، لكن المماليك السلطانية أفلحوا فى التصدى لهم، فولوا منهزمين، ولاذوا بالفرار. وما إن وصل الخبر إلى الأهالى حتى انطلق الجميع، وعلى رأسهم الزعر وشلل المنسر «اللصوص» إلى بيت صرغتمش، وشرعوا فى نهب ما فيه، من السجاجيد والقناديل، حتى فكوا الرخام من الحيطان، وفعلوا الشىء نفسه فى بيوت مماليكه، فنهبوا ما فيها.

فى اليوم التالى، قيّد حرس السلطان الأمير صرغتمش ونزلوا به من القلعة، وتوجهوا به إلى سجن الإسكندرية، كما تم القبض على الأمراء المؤيدين له وسيقوا معه إلى السجن. فلما دخل «صرغتمش» إلى السجن، أقام به مدة قصيرة، أشيع بعدها أنه مات، وهناك من يقول إنه مات من تلقاء نفسه بسبب الشيخوخة، إذ كان قد تجاوز الـ٧٠ من العمر، وهناك من قال إنه تم خنقه فى السجن، بعدها وضع السلطان يده على ثروته، تمامًا مثلما حدث مع الصاحب علم الدين الدميرى، وكانت ثروة كبيرة يصفها ابن إياس قائلًا: «فظهر له من الموجود ما لا ينحصر قدره من مال وسلاح وتحف وقماش وغير ذلك».

كأن المثل الذى يردده المصريون بأنه من حفر بئرًا لأخيه وقع فيها لا يفنى ولا يستحدث من عدم.