رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أولاد الأرض.. ابن الكابتن غزالى: أهل السويس يحفظون أغانيه.. والدولة كرمته مرارًا

الكابتن غزالى
الكابتن غزالى

بالتزامن مع اليوبيل الذهبى لحرب السادس من أكتوبر، كان لزامًا علينا أن نرصد دور الفن عامة فى المقاومة، وكان من الطبيعى أن نتطرق لتجربة الكابتن غزالى، صاحب فرقة «أولاد الأرض»، التى ألهمت جنودنا فى الجبهة بأغانيها، مثل «عضم ولادنا نلمه نلمه.. نسنه نسنه.. ونعمل منه مدافع وندافع». الكابتن غزالى فتى أسمر، نصفه صعيدى ثابت كالوتد فى الأرض من قرية أبنود بمحافظة قنا، نسبة لوالده، ونصفه سويسى معلق بالبحر مرتحل دومًا يخشى الثبات نسبة لوالدته.. نصفه ربابة ونصفه سمسمية، نصفه رسام ونصفه مصارع، نصفه مقاتل ونصفه مُغنٍ. 

ولد الكابتن غزالى فى ١٠ نوفمبر ١٩٢٨ بقرية والده أبنود، ثم عادت به والدته وهو ابن ١٢ يومًا للسويس حيث يعيشون، وكان قلبه معلقًا بالسويس وشوارعها وأرضها وناسها.. وعقب انتهاء ظروف التهجير ظل فيها حتى رحل عن عالمنا فى ٢ أبريل ٢٠١٧، رحل ولم يجنِ من هذا التاريخ الحافل مكسبًا ماديًا ولا منصبًا ولا سلطة.. فقط كسب حب الناس والخلود. دكانه الصغير الذى لا تتجاوز مساحته خمسين مترًا مربعًا مكدس بالكتب والحكايات وتاريخ الجمال والحب.. سخّر قوته كمصارع من أجل حماية وطنه حين انضم للفدائيين وهو لا يزال شابًا.. كرّس مواهبه المتعددة لحب الوطن، فقد كان يلعب المصارعة والجمباز ويؤلف الأغانى ويلحن ويغنى وينفذ عمليات فدائية ويعمل رسامًا وخطاطًا. زُرنا دكان الكابتن غزالى، وهو قريب من الخندق الذى قضى فيه الكابتن وقتًا غاليًا بصحبة أفراد المقاومة الشعبية. التقت «الدستور» ابنه الأكبر «أحمد»، الذى تعهد بالحفاظ على تاريخ أبيه، وحكى لنا كيف كان يوازن الكابتن غزالى بين مهامه، كزوج وأب ومناضل وفنان.

■ بداية.. من هو الكابتن غزالى؟

- عرف الناس أبى، الكابتن غزالى، عام ١٩٤٨، كرياضى ناجح، فقد كان عضو منتخب مصر للمصارعة حتى عام ١٩٥١، وفى الوقت نفسه كان يعمل خطاطًا ورسامًا.

وانضم والدى لحركة «الفدائيين» وهو ابن ١٩ عامًا، وسجل المؤرخ السويسى أحمد العشرى اسمه ضمن الفدائيين الذين قاوموا الإنجليز، واتخذوا من كفر «أحمد عبده» بالسويس مخبأ لهم، حتى دكّه الإنجليز فى ٨ ديسمبر١٩٥١.. وظل أبى فى حركة الفدائيين حتى ١٩٥٦ فى العدوان الثلاثى، ونفذ العديد من العمليات معهم. 

■ ماذا كانت مهنته الأساسية وقتها؟

- تعلم الكابتن غزالى الرسم خلال عمله داخل معسكرات الإنجليز، حيث عمل مع خطاط أجنبى وتعلم منه مهنة الخط، وكان يكتب باللغتين الإنجليزية والعربية بخط جميل، وهذا المحل كان مقر ورشته حينها.. كما كان يدرب شباب السويس على المصارعة، وفى وقت لاحق على الجمباز.

■ كيف كان يعمل مع الإنجليز ويقاومهم فى الوقت نفسه؟

- كان العمل فى معسكرات الإنجليز، آنذاك، أمرًا طبيعيًا وشائعًا، وبالنسبة للفدائيين ساعدهم عملهم فى تلك المعسكرات، إذ استخدموه كتمويه، فضلًا عن أنهم كانوا يعرفون بدقة مداخل ومخارج المعسكرات، وهذا سهّل عليهم تنفيذ العمليات الفدائية، التى تضمنت التفجير وأسر الجنود المحتلين.

بعد ذلك عمل أبى موظفًا بوزارة الزراعة، فى قسم مكافحة الجراد، وكان يرسم لهم الخرائط التى ترشدهم فى مقاومة الجراد، بجانب عمله كخطاط يكتب «يفط الانتخابات» واللافتات ويكتب على المراكب.. يذهب لعمله صباحًا ويعود لورشته، ثم يذهب لنادى الاتحاد ليدرب «مصارعة وجمباز».

■ متى أدرك الكابتن غزالى قدرته على صياغة وتلحين الشعر؟

- اكتشف الكابتن موهبته فى كتابة الشعر فى ١٥ مايو ١٩٦٧، حين أعلن الرئيس جمال عبدالناصر عن إغلاق خليج العقبة؛ حينها استشعر الكابتن أن مصر على أبواب مرحلة تحتاج إلى شحذ الهمم والحماس والعزيمة، واكتشف وقتها مَلَكة الشعر عنده، فكتب أشعارًا بسيطة تلهب الحماس وتؤجج العزيمة: 

مش هاتمر مش هاتمر 

خليجنا بتاعنا مش هاتمر 

ناصر قالها وعبا رجالها

غل الدنيا عليك هايشر.

آنذاك جمع الأطفال الصغار، وكنت منهم، وكتب على فانلاتنا شعارات مثل «هانحارب هنحارب- مش هاتمر- خليجنا بتاعنا»، كما أعطانا لافتات وانطلقنا فى شوارع السويس.

وعقب النكبة مباشرة انضم الكابتن غزالى للمقاومة الشعبية، ولأنه كان صاحب خبرة، اعتبروه رئيس منطقة غرب، واتخذوا خندقًا قرب «السلاحليك» كمركز للعمليات ومكانًا للراحة لعناصر المقاومة.

كان يكتب وقتها كلمات لم يكن فى ظنه أنها أشعار، فقط كلمات أراد بها التأكيد أننا قادرون على تجاوز النكسة.. حيث أراد إلهام المصريين.

وفى وقت الراحة مع رجال المقاومة، كان يحاول تلحين تلك الكلمات، ولم يكن يطلق عليها ألحانًا، واستخدم أدوات بسيطة لصناعة موسيقاه، مثل الملعقة والكوب، واستحسن أهل السويس وقيادات الجيش ذلك التعبير الشعبى الذى صاغه الكابتن غزالى، فبدأوا ينظمون رحلات له ولفرقته فى مقرات الجيش فى الجبهة كلها.

وبدأ الناس فى التوافد من أماكن مختلفة بمصر، للتعرف عليه، خاصة حين وجّه رسالته القاسية وقتها للمثقفين:

على فين على فين 

يا جماعة يا مثقفين

علامكم صوته فين

ده بلدنا طحنها البين.

■ وكيف تكونت فرقة أولاد الأرض ولماذا أطلق عليها هذا الاسم؟

- حينما أصبح الكابتن غزالى مشهورًا، وأصبح مطلوبًا منه التجول فى الجبهة، استدعى أشهر عازفى السمسمية فى السويس، وضمهم إليه، وكوّن الفرقة، ومنهم سيد كابوريا.

فى البداية، أطلق على فرقته اسم «البطانية»، لأنهم كانوا يفرشون بطانيات الجيش ويجلسون بشكل دائرى فوقها، ويؤدون أغانيهم، ثم تغير اسمها لـ«أولاد الأرض».

وحينما انتبهت الإذاعة لهذا النشاط، دعاها محمد عروق، ابن السويس، الذى كان يعمل مديرًا بإذاعة صوت العرب، وذهبت الفرقة لتسجيل بعض أغانيها، وكانت الإذاعة تبثها قبل بث البيانات العسكرية، وبسبب ذلك اكتسبت الفرقة شهرة أكبر، وعرف الجميع الكابتن غزالى، وغنى له العديد من المطربين، مثل سمير الإسكندرانى وفايدة كامل ومحمد العزبى وسيد مكاوى.

ومع تهجير أهالى السويس، كوَّن الشباب فرقًا صغيرة بأسماء مشتقة من اسم الفرقة، مثل «أصدقاء أولاد الأرض» و«شباب أولاد الأرض»، وكانوا يغنون أغانى الفرقة، فازدادت معرفة الناس بأغانى غزالى.

■ هل كان أعضاء الفرقة يعملون فى الفن قبل الفرقة؟

- لا.. بل كانوا من المقاومة الشعبية ولا علاقة لهم بالفن، وتعرفوا على بعضهم فى هذا الإطار.

■ ماذا تقول لشباب اليوم عن دور المقاومة الشعبية فى مدن القناة؟

- دور المقاومة الشعبية وقتها كان الحراسة، أى حراسة البنوك والمؤسسات، وهو أمر يشبه اللجان الشعبية وقت الثورة، أما الحرب فهى اختصاص الجيش.

فيما بعد اختار الجيش منهم بعض العناصر وكوّن منها «منظمة سيناء»، ولم يكن الكابتن غزالى منهم، و«منظمة سيناء» هى تنظيم ضم جماعات من الفدائيين المصريين شاركوا الجيش المصرى فى القتال ضد الاحتلال الإسرائيلى.

■ وأين كنتم كأسرة وقتها؟

- فى ١٩٦٧ هاجرنا إلى محافظة قنا، بلد أبى، ثم ذهبنا إلى بنها، ولم يكن معنا، ولم يعد قبل ٧ مارس ١٩٧٣ حين صدر قرار بإنهاء تفرغه والعودة للعمل، ربما لأن أشعاره أزعجت البعض، وربما كان ذلك جزءًا من خطة الدولة للإخفاء والتمويه قبل حرب أكتوبر.. حتى يظن العدو أننا فقدنا الأمل ولن نحارب.

لحق بنا أبى فى بنها، ولم أرَ أحدًا فرح بنصر أكتوبر مثلما فرح أبى؛ استيقظ فى هذا اليوم وكنت ألعب فى الشارع، وجرى نشر الخبر، فذهبت للبيت جريًا وقلت له، ففتح الراديو، وغمرته السعادة، وأمسك بقلم وورقة وكتب أشعارًا، ثم ذهب بعد يومين للقاهرة لطلب تصريح بالعودة للسويس، ولكن القيادة رفضت طلبه، ثم عدنا للسويس فى أول عيد قومى بقرار سيادى، وجلس أبى على المنصة يوم ٢٤ أكتوبر ١٩٧٤ مع الوزراء، وكان ذلك بمثابة تكريم له. 

■ كيف كان دور الكابتن غزالى بعد نصر أكتوبر؟ 

- أسس صالونًا أدبيًا فى السويس، فى النادى الاجتماعى، حمل اسم «الكلمة الجديدة»، ثم انضم للعمل بالمجلس المحلى، وكان يكافح من أجل مطالب أهل السويس ولا يتهاون فى حقوقهم، وكان على صلة بكل نواب السويس فى مجلس الشعب وبالمحافظين أيضًا.. ولم يطلب أبى طلبًا لنفسه أبدًا ولا حتى شقة فى الإسكان.

كما أتاح للشباب استعارة كتب من مكتبته، ولم يكن يشترط إعادتها، على عكس ما أفعله حاليًا فأى شخص يستعير كتابًا أطلب منه إعادته، لأن الكتب هى ميراث مهم لا أستطيع التفريط فيه.

■ كيف عملت فرقة «أولاد الأرض» فى المسرح؟ 

- شارك الكابتن غزالى مع المسرحيين فى فترة الاستنزاف مع المخرج السيد طليب، فى مسرحية «غنوة على خط النار»، وقد شاركت معهم فى العرض، على مسرح الجمهورية، حيث أدى الكابتن غزالى وفرقته أغانى «أولاد الأرض».

وشارك بعدها مع المخرج حسن الوزير فى مسرحية «كان يوم صعب جدًا»، تأليف هشام السلامونى، وعرضها بالسويس، وشارك أيضًا فى العروض بأشعاره، وكانت تعرض تلك المسرحيات مع فرقة السويس فى قصر الثقافة.

لم ينتج الكابتن غزالى مسرحًا بالمعنى المعروف، لكنه كان يقدم فقرات مسرحية فى الجبهة، ضمن برنامج «أولاد الأرض» مع الأغانى.

■ هل ترى أن والدك حصل على التكريم المستحق؟

- كل يوم يُكرم الكابتن غزالى فى السويس، فقد كرمه محافظ السويس الأسبق اللواء سيف جلال، كما كرمه بعد وفاته وزير الثقافة الأسبق حلمى النمنم، وكرمه قصر الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة.

■ كيف نوصل هذا التاريخ للأجيال الجديدة؟

- لدينا صفحة على موقع فيسبوك، ننشر عليها فيديوهات وأغانى الكابتن غزالى، لكننى أديرها وفقًا لإمكاناتى المحدودة. 

وهناك رابطة لمحبى الكابتن غزالى، وينشر المحبون أغانيه على صفحاتهم، ويكتبون كلماته.

■ ما أبرز الأغانى التى حصلت على شهرة كبيرة؟

- ملعون أى صوت يعلى فوق صوت المعركة 

ملعون أى كلمة تسلبنى الحركة 

يا نارى يا نارى يا نار الاحتلال

ملعونة المداين ملعونة الجناين

لو سابت أى خاين فى العشق وفى النضال

ملعون اللى ما يتألم ملعون اللى ما يتكلم 

ويمد إيده معانا ويكون للحق ميدان.

وهناك غنوة أخرى غناها محمد منير وفايدة كامل، بعد أن غناها «أولاد الأرض»:

فات الكتير يا بلدنا ما بقاش إلا القليل 

ما بقاش إلا القليل 

إحنا ولادك يا مصر وعينيكى السهرانين 

ونصرك أصبح نشيدنا واللى يعادينا مين 

جينا يلا بينا

نحرر أراضينا 

وعضم ولادنا نلمه نلمه

نسنه نسنه

ونعمل منه مدافع

وندافع 

ونجيب النصر 

هدية لمصر

وتحكى الدنيا علينا.

وله أغنية أخرى شهيرة، هى:

غنى يا سمسمية لرصاص البندقية 

ولكل إيد قوية حاضنة زنودها المدافع 

غنى للجنود لسمير وعلى ومسعود 

وغباشى لجل يعود 

ويجيب النصر ليا

نكتب عليه أسامينا.

■ كيف كان الكابتن غزالى كأب؟

- لم أشعر أبدًا بأنه أبى.. فمنذ طفولتى أقول له «يا كابتن»، وأذهب معه إلى النادى وأتدرب معه، وكان كل الأولاد ينادونه «يا كابتن»، لكن علاقتنا كانت قوية وظلت كذلك، أنا وجميع إخوتى؛ ٤ أولاد وابنتين.. وأنا البكرى.

وأذكر أنه بعد انضمامه للمقاومة الشعبية لم يكن يشغله سوى ماذا يفعل معنا نحن أسرته، فقد كان يريد التفرغ للمقاومة، فأحضر ميكروباص، وأرسلنا أنا ووالدتى وإخوتى لجدى بالقاهرة، ومكثنا هناك أربعة أشهر، ولم نكن على تواصل معه، فقط أرسل لنا مع شخص ما جوابات نقل المدارس.

■ لماذا اختار الكابتن غزالى الطريق الصعب فى حياته؟

- هناك قصة قد تفسر اختياراته تلك، فلم يوقع أبى على وثيقة زواجه من أمى، بل وقعها أبوه بالوكالة عنه، لأنه فى هذا اليوم كان لديه ماتش مصارعة، ويُقال إنه نسى أن فرحه فى هذا اليوم. 

انضم أبى للفدائيين وعمره ١٩ عامًا، وكان يؤمن بأنه مقاتل منذ طفولته، وكان يقول دائمًا «أهلًا بالمعارك».. كان يعشق مصر ولا شىء يضاهى عشقه لمصر.

■ ما الذى تعلمته من الكابتن غزالى؟ 

- تعلمت الكثير من تصرفاته وأفعاله، ولا أنسى أبدًا أنه رفض التربح من شهرته، وكرّس كل شىء يملكه لخدمة السويس والناس، ولم يفكر أبدًا فى مصلحته الشخصية أو فى مصلحتنا.. حبه وعشقه لمصر ألهم الأجيال وألهمنى.