رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محاكمة جولدا

بعد مرور ٥٠ عامًا على الحرب التى غيرت كل شىء، «حرب أكتوبر»، كانت ولا تزال جولدا مائير محل جدل داخل إسرائيل، فلا يزال هناك خلاف حول مسئوليتها عن الفشل، لا توجد رواية واحدة حولها، فبينما يعظمها بعض الأعمال الوثائقية والدرامية ويتم الاحتفاء بها من خلال التماثيل الصغيرة والقطع المغناطيسية، إلا أن هناك من يراها «سيدة التقصير»، و«أم الخطايا»، وهناك من اعتبرها أسوأ رئيسة وزراء فى تاريخ إسرائيل.

عادت صورة «جولدا» إلى العرض، فى الشوارع الرئيسية فى جميع أنحاء إسرائيل فى الأسابيع القليلة الماضية، ليس فقط لاقتراب ذكرى الحرب، ولكن بسبب الفيلم الهوليوودى «جولدا».

لم يكن وجه «جولدا» هو الذى غطى البنايات والإعلانات فى شوارع إسرائيل، بل وجه الممثلة البريطانية هيلين ميرين، التى لعبت دور جولدا مائير فى الفيلم للمخرج الإسرائيلى غى ناتيف، وطرح الفيلم مجددًا السؤال القديم الجديد: هل تتحمل جولدا المسئولية الكاملة عن الفشل فى حرب أكتوبر؟ 

اليوم وبعد ٥٠ عامًا، المسافة الزمنية عن الصدمة المؤلمة التى حدثت فى أكتوبر ١٩٧٣ قد تسمح للإسرائيليين فى رؤية ما حدث بطريقة أهدأ، وربما يأتى الوقت لمحاكمة جولدا بشكل حقيقى، أو ربما مسامحتها على اعتبار أنها لم تكن الوحيدة المسئولة عن الفشل، هكذا يقولون فى تل أبيب.

كما يرى المؤرخ يغال كيبنيس، مؤلف كتاب «١٩٧٣- الطريق إلى الحرب»، فإن «جولدا أسهمت كثيرًا فى خدمة إسرائيل، لكن لا أحد يتذكر سوى الهزيمة فى أكتوبر، وأكبر دليل على هذا الفشل هو أنها استقالت بعد أربعة أشهر.. لماذا استقالت؟ لأنها علمت بفشلها ومسئوليتها فيما حدث».

ورغم أن لجنة «أجرانات» برأت جولدا مائير تمامًا من الإخفاقات الاستخباراتية والعسكرية، ووضعتها على عتبة الجنرالات، فإن هناك مسألة واحدة ليست محل إجماع فى إسرائيل، وهى مركز الجدل الدائر، وهى: هل فوتت جولدا مائير فرصة فى منع الحرب؟ 

فى بداية عام ١٩٧٣، كان أمام صناع القرار فى إسرائيل خياران: قبول المبادرة الأمريكية للمفاوضات، أو انتظار الحرب فى النصف الثانى من الصيف، وبالفعل تم تجنب هذه المفاوضات، التى قادها كيسنجر ونيكسون، لأن جولدا رفضت التراجع عن مطلبها النهائى بضم إسرائيل ثلث سيناء. هذا لا يمكن الجدال فيه، ومذكور فى الوثائق، ومن يريد تبرئة جولدا يتجاهله.

ورغم التبريرات بأن مصر فقط عرضت السلام وهى تعلم أن جولدا سترفضه، لتكون لها شرعية ببدء الحرب، وأن جولدا خُدعت. فلم تنصفها، فلا يزال هناك من يقتنع داخل إسرائيل أن «جولدا» فوتت فرصة منع الحرب. 

وهناك من يقول إنه من خلال الوثائق التى تم الكشف عنها فى السنوات الأخيرة لم يكن هناك أى خطأ حقًا، وأن الذى رفض التفاوض طوال الوقت هو أنور السادات. كان من المستحيل التوصل إلى اتفاق سلام قبل الحرب، فالحرب هى التى رتبت السلام. 

محاولات تبييض وجه جولدا، وإعادة النظر فى أخطائها لم تبدأ اليوم فقط، ففى الكنيست الإسرائيلى، تم تقديم مشروع قانون لإحياء ذكرى جولدا مائير لأول مرة فقط فى عام ٢٠٢٠، من قبل رئيسة حزب العمل ميراف ميخائيلى، ولم يتم الترويج له مطلقًا، وبالطبع لم يحظ بدعم من مختلف الأحزاب. ويقولون، باستثناء ميخائيلى، لم يكلف أى من قادة حزب العمل على مدى أجيال عناء الحضور إلى مراسم التأبين الرسمية لجولدا.

إذن، بعد خمسين عامًا: هل إسرائيل مستعدة لمسامحة جولدا، أو على الأقل إعادة محاكمتها؟ 

ليس مهمًا، المهم هو أن التاريخ سيحكم عليها، وستحمل حتى يومها الأخير مسئولية الفشل.