رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف صنعت مصر الاحتفال بـ«المولد النبوى الشريف»؟

- الاحتفال بالمولد النبوى بدأ بشكل رسمى فى مصر فى عهد أول الخلفاء الفاطميين وهو «المعز لدين الله»

- الشام والجزيرة والموصل واليمن وإفريقيا والمغرب والأندلس نقلت تقليد الاحتفال المصرى بالمولد النبوى

متى وأين وكيف بدأ المسلمون يحتفلون رسميًا بالمولد النبوى الشريف؟، وما حجم المساهمة المصرية فى نشر هذا الاحتفال بين الأقطار الأخرى؟، وكيف صبغت مصر هذا الاحتفال بشخصيتها المميزة المتفردة؟

منذ عدة أيام، حاولت شركة عالمية لصناعة الحلوى منح تاريخ وأصول حلوى الاحتفال بالمولد النبوى الشريف لإحدى الدول المسلمة غير العربية على غير حقائق التاريخ، وخيرًا فعل المصريون حين وجهوا اعتراضات قوية أجبرت الشركة على تقديم اعتذار عن هذا الخطأ. 

تتفق المراجع الأكاديمية التاريخية المسلمة على عدة حقائق بخصوص جذور الاحتفال الرسمى بهذه الذكرى العطرة، بينما تختلف تلك المراجع فى تقييم فكرة الاحتفال حسب توجهات كُتابها وما يعتقدونه، وظل هذا الاختلاف عبر القرون حتى الآن، بين من يرى أنها عادة مستحسنة لا ضرر فى إحيائها، بل على العكس فهى من مفردات تأليف القلوب وإضفاء البهجة المشروعة على قلوب المسلمين وغير المسلمين فى البلاد الإسلامية، بينما هناك من يرى وكتب مؤلفات يحاول بها توجيه النقد لهذه الاحتفالات بدعاوى تناقضها مع العقائد الإسلامية. ولاقت هذه الدعاوى رواجًا فى القرن الماضى بين تيارات التسلف المتعصبة ومعتنقى الأفكار الوهابية وأعضاء الجماعات المتطرفة؛ بمختلف مسمياتها وطوائفها وجنسياتها. 

«٢»

المؤيدون والمستحسنون والمعارضون يتفقون فى التأريخ لبدايات الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، حيث بدأ تحديدًا فى مصر فى بدايات العصر الفاطمى، وبدأ بشكل رسمى أولًا وبمراسيم من خلفاء الدولة الفاطمية ضمن مجموعة أخرى من الاحتفالات الدينية. لكن، وبمجرد أن بدأ تدشين الاحتفال بذكرى المولد النبوى، فقط التقطه المصريون بشكل شعبى ولم يتخلوا عنه أبدًا طوال القرون السابقة مهما تباين موقف الحكام فى مختلف العصور تأييدًا ورعاية، أو رفضًا ومنعًا. 

فى القرن العاشر الميلادى، الرابع الهجرى، بدأت الدولة الفاطمية فى محاولات الاستيلاء على مصر وما تستطيعه من ولايات الخلافة العباسية، فشلت محاولات كثيرة حتى تولى زمام حكم مصر كافور الإخشيدى الذى قرر استغلال وفود أم الخليفة الفاطمى المعز لدين الله إلى مصر فى طريقها للحج، فأكرم وفادتها وأحاطها بالعناية وبعث معها ثلة من الجيش المصرى لرعايتها وعددًا كبيرًا من الجمال لحمل متاعها وحاشيتها، فكان موكبها مهيبًا «يعتقد مؤرخون أن هذا الموكب كان أساس فكرة المحمل الذى بدأته الملكة شجرة الدر فيما بعد واستمر لعقود قليلة ماضية». 

عادت أم الخليفة إلى بلادها راضية عن حسن رعاية كافور والمصريين لها، وذكرت لابنها ذلك فحفظ لمصر ذلك، وعقد اتفاق صداقة وحسن جوار مع الإخشيد ظل قائمًا حتى وفاة كافور وانتشار الفوضى فى مصر بين الجنود والقواد واختلال النظام وانتشار الخوف، فكتب مجموعة من المصريين إلى المعز لإنقاذ مصر. أتى المعز إلى مصر بعد أن استتب الأمر لهم فى مصر على يد جوهر الصقلى عام ٩٧٣م، وبعد أن استقرت الأمور رأى الفاطميون أن المصريين يحبون آل بيت النبوة، وأن مصر كانت دائمًا ملاذًا آمنًا للفارين منهم من صراعات السياسة فى عواصم الخلافة فى شبه الجزيرة العربية. لذلك أخذ المعز فى التفكير فى أساليب استمالة المصريين، حتى رأى أن إقامة احتفالات دينية خاصة بآل البيت قد تكون أحسن تلك الوسائل، خاصة أنها تخدم مذهبه الشيعى أيضًا، لذلك أمر بإقامة احتفالات بالمولد النبوى الشريف ومولد الإمام على ومولد السيدة فاطمة الزهراء ومولد الإمام الفاطمى، وبعده أضيف يومان آخران هما مولدا الحسن والحسين. 

بعض المؤرخين يرى أن هذه الخطوة كانت من خطوات نشر المذهب الشيعى فى مصر، بينما يرى آخرون أن الاحتفال بمولد النبى «صلى الله عليه وسلم»، تحديدًا، كان من وسائل تقرب الفاطمين للمصريين حين رأى الفاطميون حب المصريين للنبى «صلى الله عليه وسلم» وآل بيته، وأنهم، أى المصريين، كانوا بصفة عامة يحتفون ببيت النبوة بعيدًا عن الأفكار السياسية ومعاركها خارج مصر. لذلك يمكن القول إن بدء الاحتفال بمولد النبى «صلى الله عليه وسلم» بشكل رسمى كان فى مصر فى عهد أول الخلفاء الفاطميين فى مصر، وهو المعز لدين الله فى نهايات القرن العاشر الميلادى. ومنذ ذلك التاريخ أصبح هذا الاحتفال من مفردات المصريين التى لم تنقطع عبر تاريخهم اللاحق. 

من مصر انتقلت فكرة الاحتفال بيوم المولد النبوى إلى العديد من الأقطار والبلدان المسلمة، وكانت الشام والجزيرة والموصل واليمن وإفريقيا والمغرب والأندلس من هذه البقاع التى نقلت تقليد هذا الاحتفال. وحاولت كل بلدة أن تصبغ هذا الاحتفال بما يتناسب معها، لكن ظلت الأسس الأساسية واحدة «المواكب، مجالس الذكر، صناعة الحلوى بأشكالها المصرية الخالصة»، كما سأوضح فى موضعه. 

داوم على إقامة الاحتفالات خلفاء المعز من أولاده وأحفاده بصور وتفاصيل متباينة، وحدث بعض الانقطاع الرسمى لعدة سنوات وتحديدًا عام ١٠٩٥م، حين تولى منصب الوزارة الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالى. كان هذا الوزير مستبدًا بأمور الدولة دون الخليفة، وكان سنيًا فأمر بإبطال الاحتفالات الأربعة: المولد النبوى، ومولد الإمام على، ومولد السيدة فاطمة الزهراء، ومولد الإمام الفاطمى، لكنّ المصريين لم يتوقفوا شعبيًا عن إقامة الاحتفال النبوى رغم أوامر الوزير. بعدها بعدة سنوات وتحديدًا عام ١١٠٢م تولى الخلافة الآمر بأحكام الله، وكان محبوبًا من الناس فطلب منه أكابرهم أن يعود ويأمر بإقامة الاحتفالات الرسمية، لكن ذلك لم يحدث سوى بعد اغتيال الوزير الأفضل عام ١١٢٣م حين صدر أمر الخليفة بعودة الاحتفالات الستة. 

«٣»

اتخذ شكل الاحتفال بالمولد النبوى الشريف فى صورته الأولى إصدار مرسوم من الخليفة ببعض العطايا، مع إقامة مواكب تشارك فيها مجموعات من الجنود ويتم ترتيل القرآن وإغداق المنح والعطايا والصدقات، وإقامة الزينات والولائم ومشاركة الأعيان وشيوخ الطوائف والحرف. وتقدم القضاة والدعاة للمواكب، ومصاحبة الموكب بالطبول والزمور والبيارق. وهناك نموذج للمرسوم الذى أصدره الخليفة الآمر «ستة آلاف درهم، أربعون صينية فُطرة، أربعمائة رطل حلوى، ألف رطل خبز، بخلاف السكر واللوز والعسل»، ويتم توزيع ذلك على القراء والفقراء. وكان الخليفة يجلس فى منطقة تقع أمام دار فخر الدين جركس الأيوبى الذى تم تشييده فيما بعد. 

وفى يوم الثانى عشر من ربيع الأول، أمر الخليفة بأن يُعمل فى دار الفطرة عشرون قنطارًا من السكر اليابس حلوى يابسة تُعبأ فى ثلاثمائة صينية نحاس تفرق بين ذوى المراتب، وأولهم قاضى القضاة، وداعى الدعاة الشيعى والقراء، وغيرهم. يتقدم الخليفة الموكب ويذهبون إلى الجامع الأزهر فيجسلون لقراءة القرآن، وأحيانًا يتوجهون للجامع الأنور أو جامع الحاكم، حيث يستمعون لخطبة من إمام الجامع.

سجل بعض المصادر وصفًا لمواكب بعض الخلفاء الفاطميين فى الاحتفال بالمولد النبوى، يتقدم الموكب الأمراء وطائفة من العسكر والعلماء وصاحب بيت المال، ثم الخليفة يحيط به مقدمو صبيان الركابة متقلدين سيوفهم، ويزيد عددهم على ألف رجل. تصاحب الخليفة مجموعات من أقوياء الجند يبلغ عددهم خمسمائة، وخلفه الطبول والصنوج وطوائف من الفرسان.

تضاء جميع المساجد بعد غروب الشمس ويخرج الناس إلى الجامع الأزهر الذى تُضاء حافاته بالمشاعل ويُعقد فى صحنه مجلس حافل من القضاة والعلماء. 

لقد قبل المصريون من الفاطميين ما يتفق مع شخصيتهم من احترام آل بيت النبوة، ورفضوا أى مساس بالصحابة الآخرين. هذا ما حدث مع بعض الخلفاء الفاطميين، وأشهر مثال على ذلك الحاكم بأمر الله الذى أمر بنقش عبارات لسب الصحابة على جدران بعض المساجد والأسواق والشوارع عام ٩٩٩م، لكنه اضطر بعد ذلك إلى التراجع عن سلوكه، فأمر بمحو عبارات سب الصحابة وإقامة مدرسة لتعليم المذهب السنى. انتصرت شخصية مصر على غُزاتها. لم يقبل المصريون فرض مذهب دينى عليهم رغمًا عنهم. قبلوا ما يوافق شخصيتهم المتسامحة والمقدرة للرموز الدينية، ورفضوا بقوة التطرف الفاطمى الشيعى الذى أظهره وحاول فرضه بعض الخلفاء الفاطميين. لم يستوعب كل خلفاء الدولة الفاطمية شخصية المصريين، ولم يدركوا هذه الشعرة الرفيعة الفاصلة بين حب المصريين للنبى «صلى الله عليه وسلم» وآل بيته وبين وَهم الفاطميين بأن المصريين سوف يقبلون بأى شكل المساس بباقى الصحابة من غير بيت آل النبوة. 

ورغم أن الاحتفال الأول جاء بأمر رسمى من الدولة، فإنه ومنذ العام الأول للاحتفال به تحول إلى ممارسة مصرية شعبية خالصة لم تخضع لأهواء الحكام المختلفة. ففى سنوات المنع احتفل المصريون وأقاموا الزينات فى الأزقة وصنعوا الحلوى وتداولوها بينهم، وأقاموا تجمعات تلاوة القرآن فى المساجد.

«٤»

بعد استيلاء صلاح الدين على مصر نحو ١١٧١م، وقيامه بخلع الخليفة الفاطمى العاضد والقبض على بقايا الأسرة الفاطمية، أمر بإلغاء مراسم أو أوامر الدولة الفاطمية، ومنها احتفالاتها ومواسمها وأعيادها. اختلف المؤرخون فيما إذا شمل ذلك إلغاء الاحتفال بالمولد النبوى الشريف أو لا. لكن المؤكد أن الدولة الأيوبية لم تقم رسميًا، فى مصر، بإقامة احتفالات بالمولد النبوى الشريف على غرار ما كانت تفعله الدولة الفاطمية. وبعض المؤرخين يعتقد أن انشغال الدولة الأيوبية بمواجهات الصليبيين طغى على اهتمامهم بأى أمور أخرى. لكن هذا لا يتفق مع ما تم تسجيله من اهتمام الملك المظفر حاكم إربل التابعة للموصل بإقامة احتفالات كبرى فى ذكرى المولد النبوى الشريف. 

وهذا يعنى أن الدولة الأيوبية لم تتشدد فى منع الاحتفال بهذا اليوم، لكنها تشددت فى منع الاحتفالات الشيعية، مثل يوم الغدير وموالد آل على بن أبى طالب. فهى لم ترعَ رسميًا الاحتفالات النبوية فى مصر، لكنها لم تمنع المصريين من إقامتها. لكن حالة الملك المظفر تمثل حالة فريدة أفاض بعض المصادر فى وصفها. ففى أحد الأعوام أقام سرادقًا ضخمًا به أكثر من خمسة آلاف رأس غنم مشوية، وعشرة آلاف دجاجة، وثلاثين ألف «صحن» حلوى. وحضر أعيان العلماء والصوفية وخلع عليهم الهبات، وكان ينفق على «المولد النبوى» كل عام ما مقداره ثلاثمائة ألف دينار. وكان يحضر إليه من البلدان المجاورة، مثل بغداد والموصل وغيرهما خلقٌ كثير من الصوفية والشعراء والقراء، يبدأون فى التوافد من شهر المحرم إلى أوائل ربيع الأول.

كانت مصر تعنى بإقامة الاحتفال كل عام دون الالتفات إلى أوامر أو توجهات الدولة الأيوبية. فبعد ما يقرب من مائتى عام، أصبح الاحتفال بيوم المولد النبوى مناسبة مصرية كبرى يستعد لها صناع الحلوى والنساجون، وتتزين المساجد بالمشاعل ويتم تنظيفها وتجديدها. لكن يمكن القول إنه لم تقم فى مصر احتفالات رسمية كبرى فى عصر الدولة الأيوبية على غرار ما كان يواظب عليه الملك المظفر.

«٥»

فى عام ١٢٥١م نحو ٦٤٨ هجرية، بدأ حكم المماليك «البحرية» لمصر، وكان أول من تولى السلطنة المعز أيبك. اتسم عصر المماليك البحرية بمواجهة حملات متعددة، منها الصليبية والمغولية؛ لذلك كان الاحتفال الرسمى بالمولد النبوى الشريف على غرار عصر الدولة الأيوبية. لم يكن هناك منع، كما لم يكن هناك اهتمام رسمى أو مواكب ضخمة. لذلك يمكن القول إن الاحتفال استمر بشكل شعبى أكثر منه رسمى حتى نصل إلى الجزء الثانى من عصر المماليك وهو «المماليك الجراكسة أو البرجية» الذى بدأ بالسلطان الملك الظاهر أبوسعيد برقوق بن أنس عام ١٣٨٣م الموافق ٧٨٤ هجرية. ومعه بدأ الاحتفال الرسمى بيوم المولد النبوى للعودة إلى الحياة فى مصر وبشكل قوى جدًا؛ ربما فاق ما كان يقوم به خلفاء الدولة الفاطمية. فقد أقيم أول احتفال فى عهده بقلعة الجبل، وأنفق فى ليلة الاحتفال نحو عشرة آلاف مثقال من ذهب، بين خلع ومطعوم ومشروب ومسموع على القراء، وغيرها. قامت الدولة بالنفقات وأقامت الولائم الكبرى الفاخرة وعم الخير الناس جميعًا. وقد استمر الاحتفال طوال سنوات حكمه، وفى عهده وفد إلى مصر ملك العراق أحمد بن أويس فرارًا بعد هزيمته أمام تيمورلنك. وأثناء إقامته فى مصر شاهد احتفالات مصر بالمولد النبوى، وعرف مقدار النفقات للفقراء وأشكال الزينات ومراسم الاحتفال، ولما استتب الأمر له وعاد لبلاده قلد ما شاهده فى مصر، وحظى عمله بقبول الشعب العراقى. 

استمر الاحتفال فى عصور سلاطين المماليك البرجية أو الجركسية بصور ومشاركة رسمية متفاوتة. ومن أهم من عنى بهذا الاحتفال الأشرف قايتباى الذى تولى السلطنة عام ١٤٦٨م الموافق ٨٧٢ هجرية. حيث أضاف كثيرًا من مفردات هذا الاحتفال، ومنها «السرادق الكبير أو السرادق الأشرفى»، حيث أمر بصنع سرادق خاص بالاحتفال بالمولد النبوى وعهد بتصميمه إلى مهرة الصناع المصريين، فأبدعوا فى صناعته حتى انتهوا إلى صناعة آية من آيات الصناعة المصرية. فقد صنعوه من القماش السميك المنسوج من القطن المصرى الجيد الحلج، وتفننوا فى تزيينه من الداخل بشرائح من الألوان الزاهية وتحليته بالرسوم والنقوش، ثم أبدع أرباب الخطاطين فى كتابة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والكلمات والعبارات المشهورة. ثم تم نصبه على قوائم فخمة، وكان فى مجمله مستدير الشكل يشمل أربعة إيوانات كبيرة وتعلوه من وسطه قبة شاهقة. وفى كل عام كان يتشارك فى تشييده وتثبيت أساطينه خمسمائة رجل من بحارة الأسطول «المصرى» الأقوياء. كان ينصب فى الحوش السلطانى فى قلعة الجبل وأنفق لصناعته أكثر من ستة وثلاثين ألف دينار. كانت تقام به احتفالات طوال الاثنى عشر يومًا الأوائل من شهر ربيع الأول يضاء بآلاف الشموع والقناديل والمشكاوات. 

الاحتفالات فى هذا العهد كانت تقام بشكل رسمى فى حوش القلعة، لكنها كانت تقام فى سائر مصر. يحضر الخليفة العباسى المقيم بمصر يحف به القضاة الأربعة والعلماء والفقهاء ورؤساء الأروقة والأمراء والقواد وكبار رجال الجيش وعظماء الدولة وأعيان الأمة وكبار التجار، وأكثرهم يمتطون الخيول المطهمة، وتتوالى مواكب شيوخ الطرق الصوفية ويتقدمهم حملة البيارق والأعلام وأصحاب الطبول والمزامير. 

تسير هذه الجموع فى مشهد هو أصل «الزفة» المعاصرة التى يشاهدها المصريون فى مختلف المدن والقرى. يصلون لباب القلعة ويتلقاهم على أبوابها نفرٌ من حاشية السلطان. يجلس كبار القوم داخل السرادق ثم يبدأ الاحتفال بترتيل القرآن الكريم، ثم يقوم الوعاظ فيخطبون بين الملأ، ثم تمتد الولائم الزاخرة بالأطعمة والحلوى للجميع.

فى تلك الأثناء يكون السلطان فى رواقه بصحبة بعض حاشيته، ويُدعى كل فريق على حدة للمثول بين يديه، فيسلم إليه ما يخصه من الخلع والكساوى. يتم ذلك مع جميع الطبقات والفئات فقراء وأغنياء.

فى العصر المملوكى وفد إلى مصر بعض أمراء البيت العثمانى فرارًا من صراعات عائلية فشاهدوا تفاصيل تلك الاحتفالات ونقلوا بعضها قبل الغزو العثمانى لمصر.

«٦»

بعد الغزو العثمانى لمصر ١٥١٧م، أطل الاحتلال العثمانى لمصر بوجهه الدموى القاتم على كل مفردات الحياة والحضارة فى مصر، ولم تسلم مفردات الاحتفال بذكرى المولد النبوى من سلوكهم الدموى والنهاب. يقول المؤرخ ابن إياس «لما صعد سليم الأول إلى القلعة ورأى السرادق الأشرفى باعه للمغاربة بأربعمائة دينار، فقطعوها وباعوها للناس ستائر وسُفرًا، مع أنها قد كلفت الخزانة المصرية أيام الأشرف قايتباى ما يتجاوز ستة وثلاثين ألفًا من الدنانير الذهبية، وكانت من جملة عجائب الدنيا، ولم يُعمل مثلها قط».

بعد ذلك أمر سليم الأول بإقامة الاحتفال بيوم المولد النبوى وإجراء الزينات، فلم يشعر به الناس أو يشاركوا فيه لأن مصر كلها كانت فى مأتمٍ كبير. وتولى ولاية مصر بعده «خير بك»، أو كما يلقب فى التاريخ «خاين بك»، الذى ارتكب الخيانة الشهيرة لصالح العثمانيين، وتمت مكافأته على خيانته بولاية مصر. أراد أن يستميل المصريين بعد خيانته، فقرر الاحتفال بيوم المولد النبوى، وكما قال نفس المؤرخ إن المصريين أعرضوا عن هذا الاحتفال الرسمى. 

بعده ظل ولاة العثمانيين يقومون بالاحتفال الرسمى، لكن تميزت هذه الفترة بأن الاحتفالات الشعبية المصرية قد اتخذت مسارًا بعيدًا عن الاحتفالات الرسمية، فكان المصريون فى هذا اليوم يحتفلون بطريقتهم بطبخ الأرز باللبن، ويملأون بها القصاع ويوزعونها على الفقراء والمحتاجين. كما كانوا يصنعون الكحك المحشو بالسكر والعجمية والشريك ويوزعونه على الفقراء، ويزورون المدافن والترب، أى أن الاحتفال اصطبغ بصبغة حزينة بخلاف طابع البهجة الذى كان سائدًا قبل الغزو العثمانى.

فى النصف الأخير من عصر الاحتلال العثمانى لمصر، أو ما يُعرف بعهد المماليك الذين كانوا يسيطرون على البلاد تحت ولاية اسمية للوالى العثمانى، بدأ الاحتفال بيوم المولد النبوى يُقام ويحتفل به المصريون تحت إشراف بيت السادة البكرية ورعاية شيوخ هذا البيت. كان بيت السادة البكرية يقوم بالساحة الكبرى الممتدة من جنوب دار الأوبرا الآن إلى مسجد العشماوى، وتشمل حارة عبدالحق السنباطى غربًا إلى دار البريد شرقًا، وكان يطل على بركة الأزبكية. كان هذا البيت منتدى للطرق الصوفية، وكان شيوخ آل الصديق يقيمون الاحتفال فى ساحاته وينصبون الأعلام والزينات ويوقدون القناديل والثريات فى سواريه وشرفاته. وفى الليالى الأولى من شهر ربيع الأول كان قبلة القاصدين والوافدين والفقراء، وفى الليلة الختامية يحضر الباشا وكبار رجال الدولة وزعماء الانكشارية وأرباب الوظائف ورءوس التجار، وتُحضر الأوانى بمختلف الأطعمة والحلوى، ثم تقام حلقات الصوفية.

«٧»

يروى الجبرتى شيئًا عن الاحتفال بالمولد النبوى بعد الغزو الفرنسى لمصر.. بعد أن استتب الأمر لبونابرت، فكر فيما يقرب المصريين إليه- كعادة كل المحتلين فى البدايات- فأمر بإقامة الاحتفالات الدينية المصرية كما كانت. وسأل الشيخ خليل البكرى عن سبب عدم إقامة الاحتفال بالمولد النبوى، فأجابه بسوء الأحوال. فأمر بونابرت بإعطائه ٣٠٠ ريال فرنسية معاونة وأمر بتعليق التعاليق والقناديل، وشارك الفرنسيون وأرسلوا الطبلخانة الكبيرة إلى بيت الشيخ البكرى واستمروا يضربونها طوال النهار، وفى المساء، قام الفرنسيون بإشعال «صواريخ تصعد فى الهواء»، وفى هذا اليوم تقلد الشيخ خليل البكرى نقابة الأشراف، وكان بونابرت كثيرًا ما يحضر إلى بيت البكرى بالأزبكية لتناول الطعام فى المواسم والأعياد. وفى فترة كليبر قام بعمل احتفال بيت البكرية وحضر كليبر مع مجموعة من الأعيان وضربوا المدافع وعملوا حراقة الصواريخ، وأمر بفتح الأسواق والدكاكين ليلًا وإسراج القناديل. 

وفى فترة المفاوضات لجلاء الفرنسيين عن مصر، أشرف الوزير العثمانى يوسف باشا على إقامة الاحتفال بالمولد النبوى، فصدرت أوامر بكنس ورش الشوارع وزينوا الحوانيت بشرائط الحرير، وفى المساء أوقدوا القناديل ونصبت المغانى والمزامير بجوار حلقات الذكر، ونصبوا خيامًا كبيرة فى وسط بركة الأزبكية بعد جفافها. كانت طقوس الاحتفال تقام على حواف البركة، إن كانت بها مياه، أو فى الميدان بأكمله، إن كانت جافة.

«٨»

فى عصر محمد على بدأ الاحتفال بيوم المولد النبوى يكتسى بمظاهر وتفاصيل جديدة تمثل نواة لما استمر عليه حتى اليوم. ولدينا وصفٌ تفصيلى للاحتفال بيوم المولد النبوى عام ١٨٣٤م تركه الكاتب الإنجليزى «إدوارد وليم لين» فى كتابه «أحوال المصريين المحدثين وعاداتهم».

فى هذا الوصف الشيق نرى ظهور كثير من مظاهر الاحتفال الشعبى التى لم تتم الإشارة إليها سابقًا. يقول إدوارد فى كتابه «فى بركة الأزبكية الجافة أقيمت صيوانات كثيرة جلها للدراويش لإقامة حلقات الذكر، تنصب الصيوانات باستخدام قوائم خشبية وحبال وتثبت بها القناديل، فى أثناء النهار يتسلى الناس بالاستماع إلى الشعراء وهم رواة قصة أبوزيد، والتفرج على الحواة والخلابيص- أى البهلوانات- والمضحكين وغيرهم، أما الغوانى فقد أكرهتهن الحكومة من عهد قريب على التوبة وترك مهنتهن من رقص ونحوه، فلا أثر لهن فى هذا الاحتفال، وفى عدة أماكن من الشوارع المجاورة لساحة الاحتفال أقيمت مراجيح ونصبات لبيع الحلوى، وفى احتفالات سابقة كنت ترى من يلعبون على الحبال من الغجر. أما فى أثناء الليل فتضاء الشوارع المحيطة بساحة المولد بقناديل كثيرة تُعلق فى فوانيس من الخشب وكذلك القهاوى يكون بها شعراء ومحدثون. وتمر مواكب الدراويش يحملون مشاعل بعصى طويلة، وهؤلاء الدراويش أكثر ما يكونون من الطبقات الدنيا، وليس لهم زى خاص، بل جلهم يلبسون العمائم المعتادة أو الزعابيط، ويمتلئ المولد بالشمعدانات الزجاجية، ويتخلل الذكر صياح أحد المنشدين بقوله مدد».

كما وصف كثيرًا من غرائب بعض ممارسات الطرق الصوفية مثل وصفه يومًا اسمه يوم «الدوسة»، حيث ينبطح عدد كبير من الدراويش على بطونهم، بينما يعدو فوق ظهورهم شيخهم ممتطيًا فرسًا معتدل العلو، ويفيض فى وصف هذا اليوم الغريب، وكانت هذه طقوس الطريقة «السعدية» التى ما لبث أن تركها شيوخها بعد ذلك، كما ذكر شيئًا عن أكل الثعابين الحية والتى كان يمارسها بعض شيوخ نفس الطريقة فى بيت الشيخ البكرى؛ حتى ترك هذه العادة شيوخ الطريقة.

«٩»

ما سبق هو سرد لتاريخ الاحتفال بيوم المولد النبوى الشريف، وفيه تم الاتفاق بين المؤرخين على أن مصر هى كلمة البداية، ومنها انتقلت تلك الاحتفالات إلى باقى دول العالم الإسلامى. لكن ماذا عن «مصرية» ما يتم تداوله حتى الآن من طقوس ويتم تصنيعه من حلوى أصبحت رمز الاحتفال، خاصة «عروسة وحصان المولد؟»، ولماذا تم اختيار هذين الشكلين تحديدًا؟، ولماذا يحمل بعض طرق الصوفية «مركبًا» فى موكبها يوم المولد النبوى؟

الواقع أن أصحاب فكرة الاحتفال هم حكام الدولة الفاطمية، لكن من قاموا باختيار أشكال بعينها- العروسة والحصان والمركب- لتكون رمزًا لهذا الاحتفال فى العالم الإسلامى، هم المصريون. 

أول أسرار هذا الاختيار نراه فى بعض المتاحف، مثل المتحف المصرى القديم ومتحف لندن ومتحف ألمانيا. لقد قام المصريون، ومنذ أكثر من ألفى عام قبل الميلاد، بصنع دمى وعرائس خشبية ثابتة أو بمفاصل متحركة. فى المتحف البريطانى لدينا قطع أثرية عبارة عن دمى خشبية لعرائس وحصان، كانت هذه الدمى من الإرث المصرى الخالص الذى صنعه المصريون كلعب أطفال فى مختلف ربوع مصر، ومنها أشكال أخرى مثل تمساح أو عاجن الدقيق أو رجل متحرك الذراع.

لم تندثر هذه العادة المصرية بعد أن تغيرت عقائد المصريين إلى المسيحية ثم الإسلام والمسيحية. استمر المصريون فى القرى فى صناعة هذه الأشكال، وتحديدًا العروسة والحصان من مواد مختلفة. 

ومن زار أو ينتمى لقرى فى صعيد مصر وقطن بها منذ ثلاثة أو أربعة عقود يعرف جيدًا كيف كانت تصنع الأمهات هذه العرائس من قطع قماش محشوة بقطن أو قماش ثم تقلدها الصغيرات، ويقوم الصبيان بعمل جمل أو حصان من نفس المواد. هذه الاستمرارية أو عدم الانقطاع الحضارى يقطع بالحقيقة، هذه الحقيقة أن الفاطميين أمروا بإقامة الاحتفال وصنع الحلوى، وأن المصريين ببساطة قاموا بصناعة الدمى- التى كانوا يصنعنوها من الخشب أو القماش أو الجلد- من الحلوى.

لا علاقة لفكرة ارتباط العروسة بأى شخصية إسلامية، ولا علاقة لارتباط الحصان بفكرة الفارس العربى، ولا ارتباط لذلك بموكب الخليفة الفاطمى كما يردد البعض، لأن الأقدم هو الأصل وليس العكس. ولأننا نعرف أن المصريين وبعد غزو الهكسوس مصر بدأوا فى ترويض الخيول وامتطائها وأصبحت مفردة من مفردات حضارتها ورياضتها، وأنهم بدأوا بالفعل فى صناعة دمى خشبية على شكل حصان موجود فى متحف لندن. 

يربط مثلًا بعض الباحثين بين شكل عروسة المولد وشخصية حتحور المصرية، ربما يكون هذا الربط صائبًا فى البدايات الأولى لصنع المصريين هذه الدمية، لكن حين قاموا بتصنيعها من الحلوى فقد كانوا يقومون بصنع دمية اعتادوا صناعتها فى قراهم وحوانيتهم قبل الغزو الفاطمى مصر. أصبحت هذه الدمى حاضرة فى مصر قبل بدء الاحتفال بيوم المولد النبوى الشريف.

أما شكل المركب فهو محسوم تمامًا.. ففى مولد أبى الحجاج مثلًا بالأقصر نجد هذا الحسم..اعتاد المصريون فى الأقصر فى عصورها القديمة حمل مركب مقدس من معبد الكرنك إلى الأقصر، وفى مناسبة أخرى من الكرنك إلى معبد الدير البحرى فى الغرب بمشاركة شعبية كبرى، وهذا ما يفعلونه اليوم فى مواكب الطرق الصوفية.. لم يفقد المركب مكانته فى عقائد المصريين الشعبية منذ العصور القديمة، لكن تغير مدلوله.. ففى التراث الصوفى الشعبى اختلق المصريون أساطير تتحدث عن معجزات أقطاب الصوفية وهم يمتطون ظهور مراكب ويبحرون بها فى السماء تمامًا، كما كان يعتقد أسلافهم القدامى عن إبحار مركب الشمس فى بحر السماء، أو مركب الملك المتوفى فى العالم الآخر.

أما باقى الحلوى مثل الفولية وغيرها، فهى مرتبطة بما كان يصنعه المصرى القديم من حلوى وسجلته الصور والنقوش مع تغييرات تتعلق بما وصل إليه المصريون من تصنيع للسكر وما جد من محاصيل. وقطعًا فلكل دولة من دول العالم الإسلامى بصمتها فى إضافة ما لديها من أصناف حلوى خاصة، لكن الأشكال الرمزية التاريخية هى مصرية خالصة. المصريون أول من سجل عشرات الأنواع من الحلوى والكيك والمعجبنات فى العصور القديمة، وأن تتطور تلك الصناعة بإضافة ما يستجد لديهم من عناصر فهو أمر منطقى تمامًا. 

«١٠»

بقيت نقطة أخيرة تتعلق بما كنا نطالعه بقوة فى العقود الماضية من تحفز بعض شيوخ وأئمة التعصب قبيل حلول شهر ربيع الأول ومحاولاتهم تنفير المسلمين من هذا الاحتفال. وفى مصر تحديدًا كنا نتعرض لهذا السيل من الفتاوى المنتقدة لاحتفالات المصريين. فيما يتعلق بهذه الصفحة نكتشف- من خلال تصفح تاريخ مصر مع هذه الاحتفالات - أنهم جاهلون تمامًا بتاريخ الشعب الذى يتوجهون إليه بالخطاب. فلو أنهم فعلوا ذلك بالفعل لأدركوا أنهم سيفشلون فى فرض أو حتى قبول المصريين فكرهم، لأن كل المحاولات الشبيهة- وبعضها كان أقوى ومنبعه الحكام- قد باءت بالفشل، وأن المصريين قد اتخذوا الموقف الذى يتناسب مع شخصيتهم المحبة لآل بيت النبوة حبًا مبهجًا خالصًا بعيدًا عن أى تطرف مذهبى أو سياسى. وأن هذا الموقف لن تستطيع تغييره أى شخصية دينية. فمصر ستظل تحتفل بالمولد النبوى الشريف وستظل تجمع فى طى هذا الاحتفال مفردات كثيرة من إرثها العريق القديم وشخصيتها المتصوفة والمحبة لشتى ألوان الفنون. ففى هذا الاحتفال نرى طيفًا من الفنون يتمثل فى الرسم والموسيقى والغناء والحرف اليدوية. فهذه مصر، وستظل كذلك.