رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«العروس» صورة لمجتمع استهلاكى غير قادر على الإبداع.. وأبطالها يعانون صراعات داخلية للهروب من الواقع وتحقيق ذاتهم المفقودة

روايته «العروس»
روايته «العروس»

من عنوان يفتح الأبواب على مصراعيها على شتى الدلالات ومختلف التأويلات، يشرع الروائى حمدى الجزار فى روايته الجديدة «العروس» فى تقديم شخصيات روائية نابضة بالحياة وشديدة الصلة بالمجتمع المصرى وتحولاته على مدار السنوات الماضية، عبر سرد سلس ومتدفق بنعومة بين الماضى والراهن. 

ترسم الرواية أطياف شخصيات مختلفة من شتى المستويات الثقافية والاجتماعية والفكرية، وفيما تكشف تطورات الأحداث فى حياة كل شخصية عن حاضرها وأسئلتها الباطنية وعذاباتها التى ربما لا يدرى أحد بها، فإنها تعود إلى الماضى برشاقة عبر «فلاش باك» يستدعيه الراوى العليم للكشف عن ماضٍ له أيادٍ فى بلورة كل شخصية وصراعاتها وأسئلتها. 

يبدو مطعم «العروس» القابع بمنطقة وسط البلد فى القاهرة ساحةً تتكشف فيها الرغبات الاستهلاكية المتوالدة بلا انقطاع، والتى باتت سمة رئيسية فى حياة الإنسان المعاصر. يشهد المكان الصاخب أشخاصًا يتصارعون طمعًا فى سُلطة أكبر وفى نفوذ أشد، وتقودهم الرغبة فى جنى المزيد إلى قلق دائم يُغيَّب فيه الإنسان عن كُنه وجوده. 

ومع ذلك، فليس «العروس» فى الرواية هو فقط المطعم الفخم، والدُرة الفريدة بين مطاعم القاهرة وملتقى الطبقة الراقية، والذى يمثل فى الرواية مكانًا مركزيًا وبؤريًا تجتمع فيه خيوط السرد كافة، ولكن عنوان الرواية يُحيل إلى مقاربة تجريها الرواية، عبر سرد عفوى لا يعمد إلى تحديد الفترة الزمنية تحديدًا صارمًا، بين ماضٍ فى قرية «قمن العروس» كان محكومًا ببساطة الحكايات والأساطير التى تمنح معتنقيها راحةً وحبورًا، وحاضر فى مطعم «العروس» يشهد مظاهر اجتماعية براقة مقابل عذاب متواصل تؤججه رغبات استهلاكية لا تتوقف. 

الشخصيات جميعًا تبدو مسحوقة تحت عجلة الرأسمالية الضخمة التى لا ترحم؛ سامية بشندى ابنة الحى الشعبى تطمح فى حياة أخرى تُلائم معايير المجتمع المعاصر، فتصير ضحية لسخط دائم، حيث الوصول أمنية تستحيل كلما اقتربت منها، أما زوجها خالد عبدالبارى الشاعر العاجز عن كتابة الشعر، والذى يعمل «متردوتيل» بالمطعم، فإنه يسعى جاهدًا لتلبية رغبات زوجته وحياتها المبتغاة دون جدوى، فتتلقفه عذابات حياته اللاهثة والساخطة يومًا تلو الآخر.

شهوة المال والنفوذ تطال أيضًا شخصيات رئيسية أخرى على رأسها عمر رئيس مجلس إدارة مطعم العروس، والذى عاش سنوات من عمره بحى السيدة زينب ولم يستطع أن يعبر خط الفقر، رغم شهادتيه فى التجارة والحقوق، إلى أن يُمنح فرصة إدارة هذا المطعم لكنه يُقرر أن يستحوذ على المزيد، وأن يطمس ماضيه بأقصى ما يستطيع. 

تُصور الرواية خسران بعض الشخصيات الروائية لذواتها، بينما تتدافع لنيل المزيد من المُتع أو حتى لمجرد تحقيق حياة كريمة، الجميع هنا يواجه ذاته المفقودة، سواء جاء فقدانها من طمع وشهوة وصول أو من محض رغبة فى حياة كريمة يقتضى الوصول إليها وضع الأقنعة وفقدان حقيقة الذات فى مجتمع بات محكومًا بتعزيز الرغبات الاستهلاكية. 

يُبرز السرد عبر تنقله السلس بين الماضى والحاضر، وبين الباطن والظاهر، أن الشخصيات جميعًا ضحية شهوات تتناسل بلا انقطاع، وأسرى أسئلة مهملة عن الجدوى من كل تلك العذابات المتتالية، ومع أن السرد لا يتولى مهمة المنافحة عن نموذج من الماضى أو إدانة نموذج راهن من الحياة الإنسانية، فإن حسًا نوستالجيًا ربما يتسلل ما بين السطور إلى حياة القرى البسيطة، حيث ينعم الناس بأساطيرهم ومعتقداتهم عن منابع القوة الفائقة، وعما يحمله النيل إلى المخلصين لأسراره من بشائر. 

فضلًا عن الصراعات الداخلية التى تموج بها كل شخصية، والتى تكشف عن سياقها المتأزم، فإن الرواية تُلمح إلى سياقات اجتماعية كانت لها سطوة بالسنوات الأخيرة فى مصر، فهناك هذا النمط من التديُن الذى يُحرِّم الفن ويوصم الفنانين، ويُبيح للرجل أن يتزوج ما شاء من النساء تلبيةً لرغباته، ويُجبر المرأة على الرضوخ لأفكار نُسبت إلى الدين تُحدد مكانتها ودورها، وحديث آخر عن قصص الحب التى لا يقيض لها التمام بسبب اختلاف الدين، والاغتراب عن الوطن الذى بات خيارًا للكثيرين بالسنوات الأخيرة. 

تحفل الرواية بنماذج بشرية تكشف عن ملامح عصر شهد سطوعًا للتفاهة وسباقًا استهلاكيًا لا يتوقف، وعذابات يحيا فى خضمها الإنسان المعاصر، ولا سبيل للخلاص منها سوى بالتخلى الذى يستحيل تحققه فى حياة سائلة تفرض على كل فرد الانخراط فى هذا السباق المحموم كى يصون وجوده الهش.