رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"ابن مينا".. عميد الأراخنة الأقباط في الدولتين الإخشيدية والفاطمية

شريف رمزي
شريف رمزي

الأقباط.. الجزء الذي لم ولن يتجزأ من النسيج المصري مطلقًا.. من الطبيعي أن نجد كوادر يبزغ نورهم بين الحين والآخر، ممن تفانوا في تقديم كل الحب للوطن والكنيسة الوطنية وشعب مصر العظيم.

في دراسة نشرتها مجلة الكرازة، الناطقة باسم الكنيسة القبطية في عدد الأول من سبتمبر، تناول الباحث في التاريخ والشأن الكنسي «شريف رمزي»، عضو اللجنة الباباوية للتاريخ القبطي، سيرة ومآثر أحد كبار الأراخنة (الأعيان) الأقباط، ممن كان لهم شأن عظيم في عصر الدولتين الإخشيدية والفاطمية، وهو «أبو اليُمن قزمان بن مينا»، والذي يُلقّبه الباحث بـ«عميد الأراخنة الأقباط».

 

«قزمان بن مينا» في كتابات المقريزي

في إشارة فريدة عن أبي اليُمن نصيبًا يذكر المؤرخ المسلم تقي الدين المقريزي: «أشرَك [جوهر] بين محمَّد بن سالم وبين أبي اليُمن قُزمان بن مينا في [ديوان] الضِّياع الكافوريَّة»..
 

علاقته بالبابا مينا الثاني

بينما يُشار إلى أن الاطلاع على القدر الأكبر مما يتعلق بأبي اليُمن، يأتي في كتاب «سِيَر البِيْعة المُقَدَّسة»، والذي تبحر في الحديث عن علاقاته بالباباوات، وأولهم البابا مينا الثَّاني البطريرك ٦١. ويكشف الباحث «شريف رمزي» هن واقعة طريفة نقلها الأنبا ميخائيل المؤرخ أسقف تِنِّيس عن روايات شفهية كانت شائعة في أيامه، فيقول: «فلمَّا تَقَضَّت سَبع السِّنين ماتَ الوَلَدان [ابنا الإخشيد]، ثُمَّ ماتَ الأُستاذ كافور المَذكور بَعدَهُما، فأخَذَهُ مُقَدَّمو الدَّولةِ بمصر وصَبَّروهُ وأجلَسوهُ عَلى كُرسيٍّ عالٍ داخِل القَصرِ وعَلَيهِ ثَوبٌ بأكمامٍ طوال جِدًّا حَتَّى يَصِل إلى بابِ المَوضِعِ، وأقاموا خُدَّامًا بَينَ يَدَيهِ، وكُلُّ مَن جاءَ يُسَلِّم عَلَيهِ يَمنَعونَهُ مِن الدُّخولِ ويَقولوا لَهُ: سَيِّدنا يأمُر أنْ تُقَبِّل كُمَّهُ وتُسَلِّم عَلَيهِ مِن بَرَّا لضَعفهِ، ولا يَحتَمِل أحَدًا يَدخُل إلَيهِ. وكانوا قَد أقاموا خَلفَ الكُرسيِّ الجالِس عَلَيهِ خادِمًا إذا سَلَّم أحَدٌ حَرَّكَ رأسَهُ وكُمَّهُ كأنَّهُ قَد قَبِلَ سَلامَهُم، ولَم يَكُن أحَدٌ مِن القَصرِ يَعلَم سِوى الأُستاذِين والسَّراريّ ووَزيرهُ وهو أبو اليُمن قُزمان بن مينا، فأقام هَكَذا ثَلاث سِنين ووَزيرهُ يَجبي الخَراجَ هَذه المُدَّة... ثُمَّ عَرَفَ قَومٌ الخَبَرَ فكَتَبوا إلى مَلِكِ الغَربِ، واسمهُ المُعِزّ لدينِ اللهِ مَعَدّ أبو تَميم، فلمَّا عَلِمَ الخَبَر أرسَلَ قائِدًا اسمهُ جَوهَر... فأمَّا الوَزير أبو اليُمن قُزمان بن مينا فوَجَد نِعمةً أمامَ جَوهَر، فأبقاهُ ناظرًا للخَراجِ في كورةِ مصر لثِقَتهِ وأمانَتهِ الَّتي عَرَفها مِنهُ وشَهِد لَهُ بِها ثِقاتُ أهل مصر…».
 

اقرأ ايضًا

باحث قبطي: «ملامح من الحضارة القبطية» موسوعة في التاريخ والآثار والفن القبطي

 

وأيضًا البابا ابرام بن زرعة

كان لأبي اليُمن، علاقة وثيقة ايضًا بالبابا إبرآم بن زُرعة السُّريانيّ البطريرك ٦٢، وارتبط معه بعلاقة مُميَّزة، حيث اجتمعا معًا على فِعل الخير وبذل المال إلى آخِر درهمٍ. والصُّورة الَّتي حاول أسقُف تنِّيس رَسم ملامحها لذلك الأرخُن الفاضل تضعه بجدارة في مصاف القدِّيسين- بحسب تعبير «رمزي».

وعن ما ورد عن هذه العلاقة في كتاب «سِيَر البِيْعة المُقَدَّسة»، فقد قيل: وكانَ في بِدايةِ قِسمَةِ أنبا إبرآم بَطرَكًا الوَزيرُ أبو اليُمن قُزمان بن مينا المُقَدَّم ذِكرَهُ، وكانَ رَجُلاً فيهِ دينٌ، وبِكرًا لَم يَتَزَوَّج امرأةً قَطّ، ولَم يُسمَع لَهُ جَرِمة ، ويَفعَل الخَيرَ مَع كُلِّ النَّاسِ وهو مَشكورٌ مِن كُلِّ أحَدٍ، ورُزِقَ نِعمةً مِن المُعِزِّ بحُسنِ نيَّتهِ وجَودةِ أمانَتهِ، وكانَ يَقبَل قَولَهُ ومَشورَتَهُ، ووَلاَّهُ استِخراجَ مالِ مصر. ولَم يَزَل هَكَذا إلى حينِ قِسمة أنبا إبرآم، فلمَّا رأى يَعقوبَ بن كِلِّس الوَزير تَقدِمَتَهُ عِندَ المَلِكِ حَسَدَهُ وخافَ أنْ يَصيرَ وَزيرًا عِوضَهُ، فأشارَ عَلى المَلِكِ وقالَ لَهُ: قُزمان بن مينا يَصلُح أنْ نُنفِذهُ إلى فلسطين ليُدَبِّرَها لأنَّهُ رَجُلٌ مأمون. وأرادَ بذلِكَ بُعدَهُ عَن المَلِك. فأنفَذهُ إلى عمَلِ فلسطين“.

وأشار «رمزي»، في دراسته إنه قبل مسيره إلى فلسطين أودع أبو اليُمن ثروته -وتُقَدَّر بسبعين ألف دينار- لدى الأنبا إبرآم، وأوصاه في حال لم يعُد من فلسطين أنْ يُنفقها في عمارة الكنائس وعلى معونة الفُقراء وتخليص الأسرى، ولمَّا تواترت الأخبار عن هجوم القرامطة على بلاد الشَّام اعتقد الأبّ البطريرك أنَّه لا سبيل لخلاص أبو اليُمن وعودته،  فأنفق المال كما أوصاه، ولمَّا عاد الأخير إلى مصر وعلم بذلك شكر البطريرك، مُعتبرًا أن ما فعله جَميلاً طوَّق به عُنُقَهُ.

 

والبابا فيلوثاوس كذلك

على الأرجح أن «قزمان بن مينا» رحل في عهد البابا فيلوثاوس ٦٣، تزامنًا مع خلافة العزيز بالله، ومع ذلك لم ينقطع ذِكرُ مآثِرهِ عن ألسنة النَّاس بعد نياحته (موته)، بدليل ما دَوَّنهُ الشَّمَّاس موهوب بن منصور بن مُفَرِّج الاسكندرانيّ (مُحَرِّر كتاب سِيَر البِيْعة)، بعد نحو قرنٍ من الزَّمان.

في سياقِ تأريخه لسيرة البابا كيرلُّس الثَّاني البطريرك 67، يروي موهوب أنَّ كتابًا وصَل من الخليفة ببغداد إلى والي مصر كافور الإخشيدي، يطلب منه عمل تقدير بعوائد مصر من الجزية والخَراج وخِلافه، مُقابِل النَّفقات، فكانت النَّفقات أزيَد من العوائد بمئتي ألف دينار. فسأل كافور وزيره عليّ بن محمَّد بن كلا عمَّا يجب أنْ يفعله حيال هذا العجز، فأشار عليه بتخفيض الرَّواتب بمقدار مئة ألف دينار وبزيادة الضَّرائب بمقدار مئة ألف دينار، فأرسل كافور في طلب الشَّيخ أبو اليُمن قزمان بن مينا وعرَض عليه الأمر وشدَّد عليه في طلب المشورة، فقالَ لَهُ: ”إنَّ الَّذي أشارَ عَلَيكَ بأنْ تَختَصِرَ أرزاقَ أربابِ الرَّواتِبِ الَّذينَ هُم في عَولِ اللهِ سُبحانَهُ فقَد أغرى بِكَ وأرادَ قُبحَ السُّمعةِ عَنكَ، لأنَّ الله أجرى أرزاقَهُم عَلى يَدَيكَ، فمَتي فَعَلتَ بِهِم هَذا قَطَعَ بِكَ، وأمَّا ما أشارَ بِه عَلَيكَ مِن الزِّيادةِ في المُكُوسِ عَن الضَّرائِبِ المُستَقَرَّة فالَّذي أسَّسَ أصلَ هَذا وفَرعَهُ قَد عَرَفَ مَقعَدَهُ مِن جُهَنَّم، لأنَّ إحداث الرُّسوم يُبعِدُ مِن اللهِ“. فأعُجِبَ كافور بإخلاصهِ وامتثَل لنصيحتهِ، وأمر فورًا بالقبض على الوزير وإلزامه بدفع قيمة العجز من ماله الخاصّ، وبُمساعدة أبو اليُمن زادت العوائد في تلك السَّنة أربع مئة ألف دينار، ”ودُعي على الوزير ابن كلا في مَكَّة ودُعي فيها للشَّيخ أبو اليُمن قُزمان بن مينا، وكُتِبَت لَعنةُ الوَزيرِ المَذكور عَلى الحيطانِ“.