رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ضربة لـ«صنّاع الدماغ»

لم يكن «بيبرس البندقدارى» سلطانًا عاديًا فى تاريخ مصر، فهو واحد من السلاطين الذين أخذوا الحكم بيدهم واستلبه من السلطان المظفر «قطز» قاهر التتار، بعد أن نجح بالترتيب مع مجموعة من الأمراء فى اغتياله، قبل أن يدخل إلى مصر، عقب الانتصار الذى حققه على التتار، ورغم عداء «بيبرس» للتتار ودوره المشهود له تاريخيًا فى هزيمتهم فى «عين جالوت»، إلا أنه تأثر بأسلوبهم فى الإدارة بصورة واضحة، سجلها «ابن إياس» فى كتابه «بدائع الزهور»، وذكر فى هذا السياق أن «الظاهر بيبرس أراد أن يسلك فى مملكته طريقة ملوك التتار فى شعائر المملكة، خصوصًا فيما يتعلق بالاعتماد على أرباب الوظائف، ففعل ما أمكنه من ذلك، ورتب أشياء كثيرة لم تكن قبل ذلك بمصر».

ذكر «ابن إياس» العديد من الأمور التى رتبها الظاهر بيبرس بمصر، من ضمنها وظيفة أمير السلاح، ووظيفة أمير المجلس السلطانى الذى يرتب احتياجاته، ووظيفة صاحب الشرطة، واستحدث استخدام البوقات والطبول فى الحروب، لكن أكثر ما اهتم «ابن إياس» بذكر تفاصيله هو أسلوب معالجة السلطان «بيبرس» لموضوع انتشار ظاهرة تعاطى الحشيش وشرب الخمور بين المصريين، والتى كانت ترعاها حانات، لها زبائنها الذين يقوم على خدمتهم عمال مدربون، لم تكن مهمتهم تقتصر على توفير المخدرات «الحشيش والخمور» وفقط، بل كانت تتمدد إلى تسهيل الفواحش بأنواعها وأشكالها.

فى سنة ٦٦٥ هجرية، وتحديدًا فى ١٥ شعبان، اتخذ السلطان الظاهر بيبرس قرارًا بمناسبة قرب شهر رمضان الذى لم يتبق على ميلاد هلاله سوى ١٥ يومًا. فلم يكن من اللائق أن تواصل حانات الخمر ومكامن تعاطى الحشيش وبيوت ممارسة المنكر والفواحش عملها خلال الشهر الكريم، بل رأى السلطان أن تتوقف هذه البؤر عن العمل بشكل كامل، وليس فى شهر رمضان وفقط، لما لها من تأثير تخريبى على العقل العام للمصريين، بالإضافة إلى منافاتها بالطبع لتعاليم الإسلام. يقول «ابن إياس»: «فى هذه السنة أمر السلطان بإبطال دور الحشيش وإحراقها، وأخرب بيت المسكرات، وكسر ما فيها من الخمور، وأراقها، ومنع الحانات من الخواطئ، واستتوب الرجال الذين يأتون الفاحشة، وعم هذا سائر الديار المصرية، وبرزت المراسيم الشريفة بمنع ذلك من سائر الجهات بالبلاد الشامية».

السُكر وتعاطى الحشيش كانا يمثلان ملمحًا من ملامح الحياة الشعبية للمصريين، وكان التعاطى لا يتوقف، سواء على مستوى الطبقات الشعبية، أو الطبقات الأكثر ثراءً، وكان الأفيون «كِيف الأغنياء»، فى حين كان الحشيش «كيف الفقراء»، تمامًا مثلما كانت الخمور شراب الأغنياء، والبوظة شراب الفقراء. التعامل مع المكيفات والعربدة ما سنحت الفرصة لها كان يمثل جانبًا من جوانب الحياة فى مصر، اختلف موقف السلاطين والأمراء المماليك منها، فمنهم من لم يجد فى تركها مشكلة، ومنهم من كان عكس ذلك يحاربها ويجتهد فى محاصرتها، ويفرض أشد العقوبات قسوة على من يخالف تعليماته على هذا المستوى. الظاهر بيبرس كان من النوع الأخير الذى لا يسمح بمخالفة تعليماته فيما يتعلق بمنع المكيفات والفواحش. وكان يتبع من أجل فرض ما يريد على الرعية مبدأ «اضرب المربوط حتى يخاف السائب». حدث ذلك فى واقعة «ابن الكازرونى» الذى ظفر به والى الشرطة فى القاهرة وهو سكران، فعلّق جرة الخمر والقدح الذى يشرب فيه فى رقبته، وأشهره أمام الناس، وفضحه فى كل اتجاه، وفى النهاية تم صلبه على باب النصر. وأمام هذا التعامل الحاسم لم تعد هناك أية فرصة لمخالفة التعليمات أو التمرد. فالكل شاهد ما حدث لابن الكازرونى وعاين أصحاب الخلاعة- كما يصف «ابن إياس»- ما حاق به، فامتثل الجميع لتعليمات السلطان.

القرارات التى اتخذها السلطان كانت محل إعجاب من جانب بعض أفراد النخب «النخبة الأدبية فى ذلك الوقت»، فى الوقت الذى استهجنها فيه آخرون. كتب شمس الدين بن دانيال يمتدح السلطان قائلًا: «هزم السلطان جيش الشيطان، وتولى والى القاهرة إهراق الخمور، وحرق الحشيش. وتأذى الخلاع غاية الأذية وصلب ابن الكازرونى وفى عنقه نباذية، ثم شاعت الأخبار، ووقع الإنكار، وانعكف المسطول فى الدار». فى المقابل كان هناك من أفراد النخبة والشعب من ينكر على الظاهر بيبرس هذه التعليمات التى حاصر بها «مزاج الناس»، خصوصًا أنه خلال الفترة التى اتخذ فيها قراره بمحاربة الحشيش والخمور كانت عادة مضغ القنب شائعة للغاية بين المصريين. يقول ويليام لين صاحب كتاب «المصريون المحدثون: شمائلهم وعاداتهم»: دخلت عادة مضغ أوراق القنب إلى مصر منتصف القرن الثالث عشر الميلادى. فأولع بها على الأقل أفراد الطبقة الدنيا. على أن كثيرًا من أفاضل رجال الأدب والدين استسلموا لإغرائها وأيدوا جوازها للمسلمين. وقد انتشرت هذه العادة بين الطبقات السفلى فى العاصمة وفى غيرها من مدن مصر. ويثير الحشيش المعد للتدخين طربًا شديدًا وهو يدخن فى الجوزة. ويسمى آكل الأفيون أفيوينًا، ويعتبر هذا الوصف أقل مهانة من كلمة حشاش، إذ إن كثيرًا من أفراد الطبقتين الوسطى والعليا تصدق عليهم هذه التسمية.

النسيان والرغبة فى التوهان من السمات الأساسية التى دمغت شخصية المصريين خلال العصر المملوكى، وكذلك حالهم حين تكثر عليهم الضغوط وتحاصرهم الأزمات، إذ يميل أغلبهم إلى البحث عن وسيلة تستطيع أن تغير المزاج المرهق، وتُسكت العقل النشط فى استدعاء الأخطاء والتذكير بالمأساة، وتريح جسده المنهك، ويشعله بالرغبة فى الحياة التى يعيشها رغم ما يكسوها من بؤس وعنت. 

صناعة الدماغ فى مصر مسألة لا تفنى ولا تستحدث من عدم.