رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"موت وقوائم انتظار".. مصير أطفال السودان المصابين بالسرطان بعد الحرب

أطفال السودان
أطفال السودان

من نافذة منزله في أمدرمان، يطلّ الطفل آدم، 10 سنوات، برأسه الأصلع بعدما أسقط السرطان شعره بالكامل. ينظر إلى الأطفال الذين يلهون في الأسفل يود لو يشاركهم لكنه لا يستطيع، إذ إنه لزم الفراش منذ مايو/ أيار الماضي بسبب عدم حصوله على جرعة الكيماوي.

منذ عامين صُدم والد آدم حين علم أن ابنه مصاب بسرطان في الغدد الليمفاوية، وكان يخضع لجرعات من العلاج الإشعاعي والكيماوي في المستشفى الرئيسي لعلاج الأورام في الخرطوم والتي ظل يحصل فيها على جرعات العلاج المقررة منذ علمه بالإصابة.

حالت الحرب دون حصول آدم على جرعته بانتظام، إذ وقع نزاع مسلح منتصف أبريل/ نيسان الماضي بين القوات المسلحة السودانية التي يقودها عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أدت إلى مقتل 5 آلاف وإصابة 6 آلاف آخرين وما زال التعداد في تصاعد وفق وزير الصحة السوداني هيثم إبراهيم.
 

حميدتي والبرهان 

 

قصف المستشفيات وتوقف الصيدليات

توفي آدم بعدما حُرم من جرعات الكيماوي لفترة طويلة، لم يتحمل فيها جسده الذي أصيب بالوهن الشديد بسبب انقطاع الأدوية. يحكي والده لـ"الدستور": "كانت جرعة آدم نحو 6 حبات من دواء تافاسيتاماب، ولكن مع الحرب كان يحصل على حبتين فقط، مما أدى إلى تضخم الغدد".

في 20 أبريل/ نيسان، قُصفت 9 مستشفيات بالمدفعية، من بينها مستشفى علاج الأورام في الخرطوم، وأغلقت منذ ذلك الحين، مما أثر في حصول آدم على جرعاته وأدى إلى وفاته، ويقول والده: "أتذكر صريخ نجلي من الألم مع كل اشتباك جديد وقصف يصيب المستشفيات".

الصيدليات والمستشفيات الصغيرة لعلاج السرطان في المدن الأخرى تعاني من نقص في أدوية كثيرة، على رأسها تلك التي تخص مرضى السرطان، بحسب الدكتور محمد سليمان، عضو نقابة الصيادلة بالسودان، ويؤكد لـ"الدستور" أن هناك 244 صيدلية خرجت عن الخدمة نتيجة الحرب.

ويوضح أن مراكز علاج السرطان الأخرى لا يمكن الوصول إليها مع تجدد الاشتباكات بشكل يومي، مبينًا أن أوضاع مرضى السرطان خطيرة الآن نتيجة الحرب وعدم حصولهم على الجرعات المناسبة من العلاج.

محمد سليمان - عضو نقابة الصيادلة

ليس آدم وحده من يعاني، فهناك 20 ألف طفل مريض سرطان في السودان، وفق وزارة الصحة السودانية دهورت الحرب أوضاعهم؛ نتيجة خروج مراكز علاج الأورام عن الخدمة بعد تعرضها للقصف، إلى جانب الشح الكبير في الأدوية وقلة الإمكانيات والغذاء.

في مدينة مدني كان يتردد يوميًا نحو 300 حالة على مركز العلاج الرئيسي في وسط المدينة، وبجانب عمل المستشفى كان هناك مبادرات تحتضن المرضى أثرت الحرب على عملها، منها مبادرة «زبادي أطفال السرطان».

مستشفى مدني

تقول لمى التنجاري، سودانية من مدني وصاحبة المبادرة، وتعمل في المجال التطوعي لخدمة أطفال السرطان منذ 10 أعوام، وكانت تقوم بتوفير الطعام «الزبادي» كوجبة أساسية لهم إلى جانب العلاج، أن الحرب تعيق عملها التطوعي.

أطلقت لمى المبادرة منذ 5 سنوات من خلال التبرعات العينية، وأصبحت المبادرة تخدم 100 طفل مريض سرطان، ومع بداية الحرب ظلت توفر لهم العلاج والفحوصات والأشعة لكن مع اشتدادها تأثرت المبادرة.

توضح لـ«الدستور»: «بسبب الحرب جزء كبير من العلاجات غير متوفر لأن أدوية السرطان مستوردة ولا يوجد عملة صعبة في البلاد من أجل استيرادها حيث يبلغ متوسط سعر علبة الدواء 290 دولارًا أمريكيًا ونتيجة الفقر لا نستطيع توفيرها».

طعام المبادرة

تصل نسبة الفقر في السودان إلى 80% بعدما كانت قبل الحرب 65% وفق بيانات البنك الدولي، الذي حذر من أن ثلث سكان السودان يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، في وقت وصلت فيه معدلات التضخم إلى 76.9%.

لمى تؤكد أن مبادرتها تحتضن أطفال السرطان القادمين من مدن أخرى للعلاج في المركز، وأحيانًا بسبب انقطاع جرعات الكيماوي ومشقة الطريق وقلة الغذاء يتوفى بعضهم: «أنشأنا مطبخ لإعداد وجبات للأطفال ولكن قصف المصانع أدى إلى توقف تصنيع الوجبات والزبادي».

لمى التنجاري

 

خلال الحرب قصف 90% مصانع المواد الغذائية في الخرطوم، بحسب يس الشاذلي، عضو شعبة الغذاء بالغرف التجارية السودانية، والذي يقول لـ«الدستور» أن الأمر أدى إلى شح السلع الغذائية الأساسية التي تُصنع محليًا.

إلى جانب ذلك أثرت الحرب على وصول العلاج للمبادرة، والحصول على مواد تموينية وقلة الدعم المادي، فبعدما كانت المبادرة تقدم 3 وجبات يوميًا للأطفال المرضى أصبحت تقدم وجبة واحدة في اليوم، وبعض الأيام تمر دون وجبات.

انفوجراف الدستور

يضم السودان سبعة مراكز للعلاج الكيميائي، ومركزين للعلاج بالأشعة في العاصمة الخرطوم ومدينة ود مدني بولاية الجزيرة.

بدأت الحالة الصحية للطفل السوداني هيثم، 9 أعوام، تتراجع نتيجة إجباره على عدم الخضوع لجلسات العلاج الإشعاعي والكيماوي، إذ إنه مصاب بسرطان في الدم، ويحتاج إلى دواء Arranon والذي يبلغ سعره 783.84 دولارًا لكل 50 مليمترًا.

كان هيثم الذي شخص بسرطان الدم قبل عام من الآن يتناول الدواء على نفقة الدولة، إلا أن الحرب منعت استيراده بسبب تكلفته المرتفعة مع الظروف الاقتصادية الحالية، تقول والدته لـ«الدستور»: «أُجبر ابني نتيجة الحرب على وقف جلسات العلاج كما أن له طعامًا خاصًا يأكله لم يعد متوفرًا».

تعاني مبادرات توفير الغذاء الصحي لمرضى السرطان من عدم توافر المواد التموينية اللازمة لصناعة وجبات صحية مجانية لهم، يقول الطيب سمير، أحد أفراد مبادرة « الرأفة الخيرية لمساعدة أطفال السرطان بالسودان» التي اختصت منذ ثلاث سنوات في صناعة وجبات صحية للأطفال المرضى أن الحرب قضت عليهم.

يضيف لـ:«الدستور»: «أي طفل مريض سرطان في مدني بحس أنه مسؤول مني أوفر لهم متبرعين بالدم وأصنع لهم وجبات صحية لكن الدعم والمساعدة الآن ضعيفة، قبل الحرب كنا نوفر ثلاث وجبات طعام ولكن الحرب أدت إلى تراجع أعداد الوجبات».

وجبات الأطفال

زاد أعداد أطفال مرضى السرطان بعدما نزحوا من الخرطوم إلى مدني ولم تعد المبادرة قادرة على سد احتياجاتهم من الوجبات الصحية وفق الطيب: «الأطفال يظلون أكثر من يومين على وجبة واحدة، لاسيما مرضى سرطان المعدة الذين يأكلون طعامًا معينًا وعدم توافره يدهور صحتهم».

بحسب وزارة الصحة بالسودان فإن مراكز الأورام التسعة بها كانت تستقبل نحو 1100 حالة مرضية جديدة يوميًا، وتعالج 22 ألف مريض سابق بينهم 7 آلاف طفل.

وهناك حوالي 9 آلاف مريض كانوا يخضعون لجلسات علاج بالأشعة في مركز الجزيرة للأورام بمدينة ود مدني، بينما مركز الذرة بالخرطوم كان يعالج ألف مريض شهريًا، ومستشفى الأمل كان يستقبل 1500 طفل مريض شهريًا.

انفوجراف الدستور

 

 كل هؤلاء فقدوا فرصة تلقي العلاج بسبب توقف الخدمات الطبية تحت ضغط الزيادة العددية للمرضى الفارين من الحرب في الخرطوم، كان من بينهم سهير التي اضطرت إلى النزوح بابنها سراج 11 عامًا، من الخرطوم إلى مدني بحثًا عن جرعات كيماوي متوفرة.

وُضع ابن سهير على قائمة الانتظار في مستشفى مدني، تقول والدته لـ«الدستور»: «جميع مرضى السرطان في الخرطوم نزحوا إلى مدني بعدما أغلقت مراكز العلاج، لكن مستشفى مدني بها تكدس كبير».

لم يتلق إلى الآن نجل سهير جرعات الكيماوي المخصصة له، وتدهورت حالته وعانى الألم الشديد بسبب عدم وجود مسكنات في المستشفيات: «حتى تخفيف الآلام أصبح حلم صعب المنال للأطفال المرضى في السودان وسط الحرب».

لا يزال والد آدم يتذكر صريخ نجله مع كل قصف جديد قريب من منزله، بينما يعيش هيثم على وجبة صحية كل يومين لا تثمنه من الجوع، فيما تنتظر سهير دور نجلها في قوائم الانتظار أو الموت حسبما تصف.