رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مع تشيخوف مرة أخرى

العودة إلى قراءة أنطون تشيخوف «١٨٦٠- ١٩٠٤» بين الحين والآخر ملهمة، ليس فقط بسبب موهبته الاستثنائية فى الحكى والإصغاء إلى الأحزان التى تسوق شخصياته إلى مصائرها، ولكن فى الثمانينيات وبداية التسعينيات، كانت أعماله الكاملة «أربعة أجزاء» أكثر الكتب مبيعًا فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، ليس بسبب سعرها الرخيص بفضل الدعم السوفيتى للأدب، ولكن لأنه كان من العيب أن تجلس وسط مشتغلين فى الأدب ولا تكون على معرفة بالكاتب العظيم، الذى رفع من شأن القصة القصيرة، وأصبح رائدها فى العالم كله. عدت مؤخرًا إلى كتاب هنرى تروايا «أنطون تشيخوف» بترجمة حصة منيف، الصادر عن المشروع القومى للترجمة، لأجد نفسى أتعرف على كاتبى المحبب من جديد، الكتاب الذى يرصد مسيرة صاحب «بستان الكرز» مع الكتابة والمسرح والمرض، وضع مؤلفه مقال مكسيم جوركى الشهير عن تشيخوف والذى نشر فى مقدمة أعماله الكاملة، وهو المقال الذى أحاط بروح الكاتب العطوف، البسيط، الذى يشفق على البشرية، والذى كانت الفظاظة والسوقية هما عدوه اللدود، حاربهما طوال حياته، وأبدى إزاءهما كل صنوف الاحتقار. عند قراءة تشيخوف، كما يقول جوركى، يشعر المرء وكأنه فى يوم خريفى حزين، الهواء فيه واضح صريح، والأشجار عارية تقف مرسومة بوضوح إزاء السماء، والبيوت تتزاحم إلى جانب بعضها البعض، وهيئة الناس كامدة تقبض النفس، كل شىء غريب إلى أقصى حد، وحيد، ساكن، عديم الحركة لا حول ولا قوة، والمسافات البعيدة زرقاء خاوية، تندمج بالسماء الشاحبة، تتنفس بردًا يقبض النفس، إلا أن ذهن الكاتب، شأن شمس الخريف، يضىء الطرق التى عبّدتها الأقدام، والشوارع المعوجة والبيوت المزدحمة، التى يقضى فيها أبناء البشر «الصغار» أيام حياتهم التى تبعث على الشفقة، ضمن جو يسوده الملل والكسل، يحاولون ملء مساكنهم بالحركة الدائبة الناعسة، التى لا معنى لها، فى مثل هذا الجو تقع حوادث قصصه. لم يفهم أحد الطبيعة المأساوية لأمور الحياة الصغيرة بمثل الوضوح والفراسة اللذين أبداهما تشيخوف، ولم يتمكن كاتب من قبل أن يُبرز أمام أعين بنى البشر صورة صادقة إلى درجة لا ترحم لكل ما هو معيب ويبعث على الحزن والأسى فى معمعة فوضى الحياة الصعبة للطبقة الوسطى. تشيخوف كان متواضعًا رغم ما حققه من شهرة، وكتب فى إحدى رسائله: «تتراكم خلفى جبال من الأخطاء، وأطنان من الورق الملىء بالكتابة، وحياة نجاح مفاجئ، غير أننى بالرغم من ذلك أشعر بأننى لم أكتب سطرًا واحدًا له قيمة أدبية حقيقية، وأننى أتوق لأن أختبئ فى مكان ما لمدة خمس سنوات، أو نحو ذلك، لأنجز عملًا جادًا دءوبًا، على أن أدرس وأتعلم كل شىء من بدايته، إذ إننى ككاتب إنسان جهول تمامًا». رغم الحفاوة النقدية بأعماله، وخصوصًا المسرحية، فكان يرى أن النقاد يشبهون ذبابة الفرس، لا مهمة لها إلا أن تزعج الخيل وتعوق حركتها وهى تفلح التربة، فعضلات الحصان تكون متحفزة ومتوترة كأنها أوتار الكمان، وفجأة تحط الذبابة على قفا الحصان وهى تطن وتلسع، فيرتعش جلد الحصان، ويهز ذيله يمنة ويسرة ليتخلص منها، لماذا تطن وتزن تلك الذبابة؟ قد لا تعرف هى نفسها لِمَ تفعل ذلك، ربما، ببساطة، بسبب طبيعتها المتبرمة القلقة، فهى تريد أن تُشعر الآخرين بوجودها وتقول: أنا موجودة أيضًا، هل تدرون ذلك؟، تريد أن تقول فيما يتراءى لى: أترون!، إنى أعرف كيف أزن. ويقول إنه «طوال خمسة وعشرين عامًا على قراءة مقالات تتناول قصصى، لم أذكر منها شيئًا أفادنى، أو نصيحة جيدة واحدة، الوحيد الذى ترك لدىّ انطباعًا أذكره هو سكابيفيسكى، الذى تنبأ لى بأننى سأموت سكرانًا وسأسقط حينها فى حفرة عميقة!». تشيخوف على الرغم من كل النجاح الذى حققه ككاتب لم يقطع صلته بالطب نهائيًا، وذاع صيته فى الريف، ويحكى تروايا: «يتقاطر عليه الفلاحون والعمال فى المنطقة المحيطة، رجالًا ونساء وأطفالًا، كانوا يصطفون ببابه عند الفجر، وسرعان ما يستيقظ البيت كله ليصبح عيادة تضج بالمرضى، يفحص تشيخوف كل واحد بكل دقة وعناية، ويسجل ملاحظاته فى بطاقات مخصصة لكل مريض، ويوزع عليهم مجانًا الأدوية التى أحضرها معه من موسكو، أما المرضى الذين يدفعون له أتعابًا فكانوا قلة ضئيلة». ينغمس بعض أبطال قصص تشيخوف فى أحلام وردية حول المستقبل العظيم للحياة سيحل بعد مائتى عام، دون أن يسأل أحدهم نفسه: من الذى سيجعل هذا المستقبل عظيمًا إذا كنا لا نفعل شيئًا غير أن ننغمس فى الأحلام؟.