رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جولة مع الحكيم

ولأن حرارة الجو لا تُطاق والخروج هو إحدى محاولات الانتحار الإرادي.. قررت السيطرة على جماح نزوة الخروج والانطلاق وفرضت علي عقلي وجسدي حبسًا انفراديًا داخل زنزانة مكتبتي المتواضعة.
احترت كثيرًا بين الكتب السياسية والتاريخية والدينية والثقافية إلى أن استقر بي الأمر لكتاب خفيف ظريف للأديب الرائع توفيق الحكيم وقررت أن تشاركوني قراءته قرائي الأعزاء.
الكتاب بعنوان (أشعب.. ملك الطفيليين) .. قام بكتابته عام ١٩٣٨.. وفي مقدمة الكتاب يصف الطفيلي أشعب بأنه ذلك الراصد للموائد والطعوم كما يرصد الفلكي الكواكب والنجوم . أشعب الذي يعشق بطنه أكثر من حبيبته رشا قال في وصفها:
إذا كان في بطني طعام ذكرتها 
وإن جعت يومًا لم تكن لي على ذكر
ويزداد حبي إن شبعت تجددا 
وإن جعت غابت عن فؤادي وعن فكري .
وعندما سألته أتحبني؟ رد بسرعة وبدون تفكير ويده مسرعة إلى الطعام: ما ترك الطعام في قلبي حبًا لأحد!
ولأن الطفيلي طماع .. لمح في إصبعها خاتمًا فاستبقي يدها في يده وقال في صوت يسيل رقة ولطفًا .. سيدتي جعلت فداكِ ناوليني هذا الخاتم لأذكرك به .. فسحبت يدها في رفق وتضاحكت في خبث وقالت .. إنه ذهب وأخاف أن تذهب .. ثم أسرعت والتقطت من الأرض عودًا يابسًا وأعطته إياه قائلة.. ولكن خذ هذا العود لعلك تعود.
وفي الفصل الثاني من الكتاب مفارقات ضاحكة بين الطفيلي (أشعب) والبخيل (الكندي) ومحاولات الطفيلي للنيل من طعام البخيل .. وبعد محاولات خبيثة نجح الطفيلي بالخديعة في تناول الطعام .. نظر إليه الكندي وهو يتميز من الغيظ وصاح به .. حسبك حتى لا يقتلك الطعام .. فأجاب أشعب وفمه ممتلئ إذا كان الأجل موقوتًا فلئن أموت شبعًا أحب إلىّ من أن أموت جوعًا..
تابعت صفحات الكتاب الشيقة بأسلوب توفيق الحكيم الرشيق، وهو يجول في غياهب اللغة العربية القديمة بشياكة لا نظير لها.. فيحكي عن رحله أشعب إلى مكة، حيث رأى على جانب الطريق جماعة يتناولون طعام الغداء فقال لهم سلام عليكم معشر اللئام فرفعوا أبصارهم إليه قائلين: لا والله بل كرام، فثنى رجله في الحال وجلس بينهم وهو يقول اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني من الكاذبين.
ثم مد يده في القصعة وهو يقول ماذا تأكلون؟ فقالوا في فتور .. نأكل سُمًا .. فحشا فمه وازدرد وهو يقول الحياة بعدكم حرام.. وجعل يجول في القصعة كما يجول الفارس في الميدان.
التفتوا إليه قائلين أيها الرجل هل عرفت منا أحدًا حتى تهجم هكذا على طعامنا؟ فأشار أشعب بإصبعه إلى الطعام وقال (عرفت هذا).
الكتاب شيق وممتع وأنصح بقراءته لهواة الأدب العربي .. ولنبتعد قليلًا عن مكر الكتب السياسية وفتنة بعض الكتب الدينية وتعصب كل القنوات والمواقع الرياضية.