رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصينيون المُحدثون: أفكار وتأملات «5 - 6»

«الصين، التى يسكنها ألف مليون من أقدر شعوب العالم، وتتمتع بثروات طبيعية كبيرة، لن تكون أكثر دول العالم سكانًا فحسب، بل ستكون أقوى دول العالم على الإطلاق».. «ريتشارد نيكسون»، الرئيس الأمريكى الأسبق.

يقظة الميت.. بعد أن فرغت الصين، بدرجة مقبولة، من ترتيب «البيت الداخلى»، وانتهت من تنظيم أوضاعه بشكل مُرضٍ، كان لها وعليها أن تلتفت إلى البيئة الدولية بعين النظر والاعتبار، فقد غدت ولها مصالح اقتصادية كبرى تنتشر فى أربعة أركان المعمورة تنبغى صيانتها، ولها علاقات سياسية واقتصادية متداخلة مع شتى بلاد العالم توجب الحماية، وأصبحت الحاجة لامتلاك استراتيجية كونية شاملة حاجة ملحة، تحدد أطر المصالح العليا للبلاد وترسم خريطة «المجال الحيوى» للدولة «الصاعدة»، وتبرز معالم الدبلوماسية الكونية الجديدة، لدولة عبرت بالفعل تخوم «الدولة النامية» التى تكابد من أجل تلبية الحاجات الضرورية للمليار وأربعمائة مليون مواطن، إلى الواقع الجديد- القديم، الذى حذر فيه «نابليون بونابارت» من يقظة «العملاق الأصفر» حين يغادر وضع النعاس.. ويصحو من منامته الطويلة، وفى اتجاه معاكس تمامًا للنبوءة الخائبة التى أطلقها «أندريه مالرو»، وزير الثقافة الفرنسى الديجولى العتيد، حينما حذر الرئيس الأمريكى الأسبق «ريتشارد نيكسون»، لدى العلم بعزمه السفر إلى بكين، «فبراير ١٩٧٢»، قائلًا: «إنك ستتعامل مع عملاق ضخم، إلا أنه عملاق يواجه الموت».

لكن «الميت» أفاق من غفوته، وبدأ فى الزحف المنظم لاحتلال المقام اللائق بتاريخه وحضارته ونهضته، وقدراته الكامنة والمعلنة الفائقة، فبعد أن ضمن موقعه الاقتصادى فى الصدارة، اتجه إلى «تأمين» إنجازاته ومصالحه العليا بالعديد من المشاريع و«المبادرات»، التى تربطه وتربط مستقبله ومصيره بدول العالم، شرقًا وغربًا، وأهمها:

مشروعات بديلة:

١- «البريكس»: المشروع العالمى البديل لـ«مشروع القرن الأمريكى»:

عبر مراحل امتدت من عام ٢٠٠٦، و٢٠٠٩، و٢٠١١ إلى الوقت الراهن، تبلورت مجموعة «البريكس»، التى لعبت الصين دورًا مهمًا فى إطلاقها، من أجل البناء المشترك لمشروع اقتصادى سياسى، اتحدت على إنشائه إرادة خمسة شعوب ودول مهمة للغاية: «البرازيل، وروسيا، والهند والصين وجنوب إفريقيا»، وظهر إلى العلن كتجمع جيو- استراتيجى عالمى مؤثر، يضم دولًا تقع فى أربع قارات، وإمكانات اقتصادية وعلمية وتكنولوجية وعسكرية هائلة، ويطرح نسقًا تنمويًا مُستقلًا رشيدًا، ويهدف إلى كسر الهيمنة الأمريكية «النيوليبرالية»، وإزاحة «الدولار» من عرش السيطرة المالية على اقتصادات العالم، وتكريس مبدأ السيادة واستقلال القرار الوطنى، واحترام تراث وتقاليد وثقافة كل الشعوب.

وقد تضمّنت وثيقة «الشراكة الاقتصادية لمجموعة (بريكس) - ٢٠٢٥»، الصادرة فى نوفمبر ٢٠٢٠، ثلاثة محاور رئيسية للتعاون المشترك بين مكوناتها، غطّت مجالات: التجارة، والاستثمار، والتمويل، والاقتصاد الرقمى، والتنمية المستدامة، بهدف رسم «خارطة طريق» من أجل تمتين الروابط السياسية، وتدعيم أشكال الشراكة الاقتصادية، بين الدول الخمس المكونة لتجمع «البريكس» على كل المستويات.

وتبدو أهمية هذا النهج التنموى فى ضوء النظر بعين الاهتمام إلى اقتصاد مجموعة دول «البريكس» الذى يشكل ٢٣٪ من حجم الاقتصاد العالمى، و١٨٪ من إجمالى تجارة السلع، و٢٥٪ من حجم الاستثمار الأجنبى، ما يعنى أنه يمثل «قوة مهمة فى الاقتصاد العالمى لا يمكن تجاهل قدرها»، «الأهرام- ١٩ يونيو ٢٠٢٢».

وفى إطار العمل الجاد من مؤسسى تجمع «البريكس» لبدء توسيع عضويته، وضم دول جديدة أخرى لصفوفه، تشكل المحفل الذى أُطلق عليه «بريكس بلس»، أو «بريكس +»، إضافة للدول الخمس الرئيسية، وقد حدد الرئيس الصينى، فى مؤتمر: «إقامة علاقات الشراكة العالية الجودة، وإطلاق مسيرة جديدة لتعاون بريكس»، ٢٤ يونيو ٢٠٢٠» المهمات الأساسية الواجب على الدول المنضوية تحت لواء «البريكس»، «بريكس +» الالتزام بها:

«١» التمسك بالتآزر والتساند للحفاظ على السلام والأمن فى العالم، «٢» التمسك بالتنمية عبر التعاون، والعمل سويًا على مواجهة المخاطر والتحديات، «٣» التمسك بالريادة والابتكار لتفعيل إمكانات التعاون وتفعيل حيويته، «٤» التمسك بالانفتاح والشمول، وحشد الحكمة والقوة الجماعية، فى مواجهة ما حدده الرئيس الصينى بـ: «عقلية الحرب الباردة، وسياسة القوة التى تخيم فى الأنحاء، والتحديات الأمنية التقليدية وغير التقليدية التى تظهر بلا نهاية، ومحاولة بعض الدول توسيع التحالفات العسكرية للسعى إلى الأمن المطلق، وإجبار الدول الأخرى على الوقوف إلى جانبها، وتثير مواجهة بين التكتلات، وتتجاهل الحقوق والمصالح للدول الأخرى، وتمارس استعلاء الذات بشكل سافر. وإذا سمحنا باستمرار هذا التوجه الخطر، فسيصبح العالم أكثر اضطرابًا». 

٢- مبادرة «الحزام والطريق» مشروع القرن الاقتصادى الكوكبى:

مبادرة «الحزام والطريق»، استيحاء من فكرة «طريق الحرير» فى القرن التاسع عشر، وبهدف ربط الصين بالعالم، لتكون «أكبر مشروع بنية تحتية فى تاريخ البشرية». اقترحته الصين فى عام ٢٠١٣ «بقصد تحسين الترابط والتعاون على نطاق واسع يمتد عبر القارات»، وتاريخ الانتهاء المستهدف للمشروع هو عام ٢٠٤٩، الذى سيتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية «ويكيبيديا».

يقول البروفيسور «وانج إى وى»، فى كتابه: «الحزام والطريق: ماذا ستقدم الصين للعالم؟ـ ٢٠١٦»، إن طريق الحرير «ليس ممرًا تجاريًا بين آسيا وأوروبا فحسب، بل رابط للتبادل الثقافى بين حضارتى آسيا وأوروبا»، وهو «يرسخ روح تكامل البناء الاقتصادى والبناء السياسى والبناء الثقافى والبناء الاجتماعى وبناء الحضارة الإيكولوجية»، ويضم الممر الاقتصادى لهذا الحزام: «الممر الاقتصادى الصينى الروسى المنغولى، والجسر القارى بين آسيا وأوروبا، والممر الاقتصادى بين الصين وآسيا الوسطى، والممر الاقتصادى البنجلاديشى الصينى الهندى البورمى، والممر الاقتصادى بين الصين وشبه الجزيرة الهندية الصينية، والممر البحرى.. إلخ». أى باختصار يخترق مناطق الهيمنة الاقتصادية والجيو- سياسية للغرب النيوليبراى الإمبريالى بزعامة الولايات المتحدة، ويتحداها فى صميم مصالحها الاستراتيجية المستقرة عبر قرون ممتدة.

٣- «مبادرة التنمية العالمية»:

وإزاء بطء عملية انتعاش الاقتصاد العالمى، واتساع فجوات التنمية بين دول الشمال والجنوب، وتراجع مؤشر التنمية البشرية لأول مرة منذ ثلاثين عامًا، وازدياد التحديات البيئية والمناخية، وتفاقم حالة الجوع التى يعانى منها قرابة ٨٠٠ مليون إنسان، تحركت الصين لكى تطرح فى سبتمبر ٢٠٢١، مشروعها المهم: «مبادرة التنمية العالمية»، التى تستهدف المساهمة الفعالة فى التقليل من معاناة البشر والشعوب، وتدعم خطة الأمم المتحدة لـ«التنمية المستدامة»- ٢٠٣٠.

وسرعان ما نال هذا المشروع الدعم الحماسى من هيئة الأمم المتحدة، وأكثر من ١٠٠ دولة ومنظمة دولية، كما تشكلت «مجموعة أصدقاء مبادرة التنمية العالمية» التى أطلقتها الصين فى الأمم المتحدة، فى يناير ٢٠٢٢، التى ضمت ٥٣ دولة.

واستندت الصين، فى طرح هذه المبادرة، ذات الطابع الاقتصادى السياسى الأمنى، إلى واقع كونها كبرى الدول النامية فى العالم قاطبة، وأكثرها نجاحًا وإلهامًا، وهى حملت أكبر الأعباء فى معركة تخليص البشرية من ٧٠٪ من أوضاع الفقر فى العالم.. إلخ.