رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"السقا مات" .. وعاش "الملك"

إوعى تفتكر اللي بيبكوا في المياتم 
بيبكوا على المرحوم 
أبدًا 
معظمهم بيبكوا على نفسهم 
خايفين من الموت فبيبكوا مقدمًا 
وفي ناس تقعد تبكي لحد ما تموت فعلًا
وياما ناس عايشة على وش الأرض ميتين
مع إن ربنا خالقهم علشان يعيشوا 
عاملين زي موظفين الحكومة
بيعيشوا عمرهم خايفين يترفدوا 
كل العبارة أنا عايش في الدنيا أعمال حرة 
تخبط أخبط  معاها
أعدل تعدل معاها
مش خايف منها، ولا باقي عليها
تغور زي ماهي عايزة تغور
أصل يا خويا الموت جاي جاي ما فيش كلام
يبقى الواحد حمار لو استنيناه 
ييجي وقت ما ييجي ملعون أبوه
إنها رؤية متكاملة يطرحها "شحاتة" بطل فيلم "السقا مات" الذي لعب دوره الملك فريد شوقي بروعة وتميز تاريخي مناقشًا جدلية الحياة والموت، والذي يعمل كمتعهد جنائز، ورغم عمله المجاور للموت، إلا أنه لا يهابه، الموت في نظره لا يستدعي القلق، فهو يأتي على غفلة دون مقدمات.
وفيلم ورواية "السقا مات" للكاتب يوسف السباعي واعتماده على فكرة مناقشة يقينية الموت في مواجهة أو هي نهاية لأفراح الحياة وأحيانًا لعبثية ما تشغلنا به نحن الأحياء.. هو طرح تكرر في إبداعات المؤلف وإنتاجه الأدبي وانعكس في الكثير من أفلام "السباعي".
وعليه، فقد ركز مخرج "السقا مات" العظيم "صلاح أبوسيف" على فكرة الموت، والمقاربة مع ما تعود أن يطرحه من التراث الشعبي "أبوك السقا مات/ بيمشي في الجنازات/ هيحصل الأموات"، فمهنة البطل سقاية الناس في مقابلة درامية بين ماء الحياة ومطبلاتي الجنازات بعد الموت.
فكانت تلك الرؤى التي طرحها "مطبلاتي الجنازات" والتي رأيت استهلال مقالي بها ليطيب خاطر صاحبه        "شوشة السقا" بتدخلات سحرية حرفية مبهرة من جانب السيناريست محسن زايد وتوقيع المخرج الواقعي العظيم صلاح أبوسيف.
وفي كل حوار بين السقا والمطبلاتي يعلن السقا عن عظيم اقتناعه بحكمة صاحبه ويكرر "الله على الكلام الموزون"، وبذا نكون أمام مفارقة درامية بين "حامل المياه" سر الحياة وهو المُرتعد دومًا من فكرة الموت  بعد وفاة زوجته التي كان يعشقها، يحاول بكل الطرق الابتعاد عن وجه الموت، عن الجنائز، عن الحداد، عن العزاء ومناسباته.
ويصدق  "السقا" أن الانتصار على الموت يأتي بالذوبان فيه، فيحلّ محلّ شحاتة بعد موته ليعمل في وظيفته، لكنه سرعان ما يدرك أن الحياة تستحق أكثر، وليصبح بعدها مسئولًا عن توزيع المياه- رمز الحياة- على الحي بأكمله.
لاشك أن الكثير من التحديات والانفعالات التي تجري بباطن نفوسنا قد لا نلتفت إليها لولا أن فجرتها فينا الأعمال الفنية، بل يمكن أن نقول إنه لو لم يتغن شعراؤنا بالحب أو بالوطنية ما انتبهنا لحقيقة مشاعرنا بهذه المشاعر والأحاسيس، ولربما تجري في باطن شعورنا انفعالات أخرى لا نعي طبيعتها، ولا نعرف حقيقتها، ولكن حين يجسدها الفن عندئذ فقط نتعرف على طبيعة أنفسنا، فالفن يخلق موجودات أشد جمالًا وتأثيرًا في النفوس من العالم الواقعي، ويرينا الفن الأشياء والحياة والإنسان أوضح وأشد تأثيرًا، مما نراها في الواقع المحيط بنا وتفاصيل الحياة التي نحياها..
ونعود لسيرة "الملك فريد شوقي" الذي نعيش ذكرى رحيله هذا الأسبوع، وعبر متابعات سينما الواقع، كان فريد شوقي قد علم أن المعلم زيدان، أكبر تجار سوق "روض الفرج" للفاكهة والخضار، أقام دعوى قضائية مستعجلة لإيقاف عرض فيلم "الفتوة"، لأنه يشوّه صورته في السوق وأمام أسرته، لم يجد محامي فريد شوقي ما يقوله أمام القاضي، فاستأذن فريد هيئة المحكمة ليقول كلمتين فحسب: 
- يا حضرات القضاة ... أنا على استعداد تام لتقبّل إيقاف عرض الفيلم ... ومصادرته، وعلى استعداد لدخول السجن ... إذا اعترف المعلم زيدان أمام عدالتكم الآن أنه هو نفسه شخصية "أبوزيد" اللي في الفيلم ... لو اعترف فأنا أطلب من عدالتكم محاكمة هذا الرجل لأنه تلاعب بقوت الشعب، استغله أسوأ استغلال... وجمع ثروته من الرشوة والفساد من العهد البائد، حاكموني يا حضرات القضاة ... ولكن حاكموه أيضًا إنت شايف يا زيدان إن الشخصية اللي في الفيلم بتتكلم عنك؟- هو بيلمح وبيحاول يقول إن ... إنت ولاّ مش إنت؟- مش أنا يا سيادة القاضي ..
وقد حكمت المحكمة برفض الدعوى وإلزام المدعي بالمصاريف وأتعاب المحاماة ... رفعت الجلسة، لم يكن الشكر الذي تلقاه فريد شوقي من الزعيم جمال عبدالناصر كافيًا، بل فوجئ بأن اسمه على رأس قائمة المكرّمين في عيد العلم عام 1961، في القاعة الكبرى في جامعة القاهرة، ووسط ما يزيد على ستة آلاف من الطلاب وأساتذة الجامعات والوزراء والفنانين والمثقفين.
لقد وقف الرئيس جمال عبدالناصر على منصة التكريم، إلى جواره وزير الإرشاد الدكتور عبدالقادر حاتم ونادى مقدّم الحفلة: وسام الفنون للفنان القدير فريد شوقي، ما إن صعد فريد ليصافح جمال عبدالناصر، حتى ضجّت القاعة بالتصفيق وانطلق الهتاف: يعيش فريد شوقي ... يعيش فريد شوقي، ابتسم جمال عبدالناصر وقال لفريد: بص لجمهورك يا فريد وحييه- ما يصحش يا فندم... ميصحش أدي ضهري لحضرتك.. لأ... يصح ... إنت فنان كبير ومحبوب وجمهورك بيحبك... حيي جمهورك يا فريد، كانت هدى سلطان تجلس بين صفوف الحضور، تهتف وتصفّق للفنان الكبير الذي نال تقدير رأس الدولة، غير أن ثمة شخصًا واحدًا كان فريد يتمنى أن يكون إلى جواره على منصة التكريم في هذه اللحظة، هو الوالد محمد عبده شوقي، ليقول له إن جهوده وتربيته له لم يضيعا هباءً وحقق ما كان يتمناه له وأكثر ولم يخيب ظنه ولا رجاؤه ، تمنى لو كان إلى جواره ..
وحصل الفنان فريد شوقي على أكثر من 90 جائزة وتكريمًا خلال مشواره الفني منها جائزة الدولة عام 1955 عن فيلم "جعلوني مجرمًا"، وجائزة الدولة التقديرية عامي 1964 و1979، وسام العلم عام 1964، وجائزة وزارة الثقافة عن فيلم "كلمة شرف"، ووسام الفنون من الدرجة الأولى عن فيلم "بورسعيد" وتسلمه من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، كما حصل على السيف الذهبى من سوريا، وجائزة من ملك السعودية عن رصيف نمرة خمسة، وجائزة البرتقالة الذهبية عام 1969 من تركيا عن فيلم "عثمان الجبار" وهو من أحد الأفلام التى قدمها خلال فترة تواجده في تركيا، حيث قدم للسينما التركية أكثر من 10 أفلام، ومُنح شوقي العديد من الجوائز والتكريمات كأحسن ممثل وعن مجمل أعماله.
وكان فيلم "الرجل الشرس" آخر أعمال فريد شوقي وتم عرضه عام 1996 في أوائل شهر يوليو.