رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نقطة زرقاء باهتة

توجد متعة عظيمة فى قراءة بعض الكتب العلمية، خصوصًا إذا كانت موجهة إلى القارئ غير المتخصص، لأنها تضىء للواحد منا مناطق لا تتوافر فى كتب السياسة والأدب والدين التى شكلت ثقافتنا. وقع تحت يدى كتاب جميل صدر عن سلسلة الثقافة العلمية بمكتبة الأسرة فترة تولى الكاتب الكبير الراحل إبراهيم أصلان رئاستها سنة ٢٠١٢، الكتاب يحمل عنوان «فصول من الكتابة العلمية الحديثة» بقلم أعظم علماء القرن العشرين، الكتاب، الذى حرره ريتشارد دوكنز وترجمه وقدم له شفيق السيد صالح، هو تحفة أدبية إلى جوار قيمته العلمية، لأنك أمام أعظم العقول التى تشعر بمسئولية تجاه الكون وتجاه البشر.. تعرفت من خلال الكتاب على عالم الفلك فى جامعة هارفارد كارل ساجان «١٩٣٤- ١٩٩٦» صاحب الإنجازات العلمية الكبيرة، والذى كان واحدًا من الذين عملوا على هبوط أول إنسان على سطح القمر مع فريق وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا»، وكان مسئولًا عن إحاطة طاقم رواد الفضاء علمًا بعالم الفضاء الذى ينتظرهم، هو يرى أن التفكير العلمى يستدعى الخيال والنظام فى الوقت نفسه، وتلك نقطة مركزية فى نجاحه، فالعلم يطلب منا استحضار الحقائق حتى لو كانت مناقضة لتصوراتنا المسبقة، وينصحنا بإيجاد فرضيات بديلة فى أذهاننا لكى نرى أيًا منها يتطابق مع الحقائق، هو يقول إن البشر يتطلعون إلى الحقيقة المطلقة، وقد يزعم المتدينون فى كل الديانات أنهم  قد وصلوا إليها، لكن تاريخ العلم، وهو أنجح وسيلة للمعرفة متاحة للإنسان، يعلمنا أن أقصى ما نصبو إليه هو التحسين المستمر لفهمنا، وتعلمنا من أخطائنا، والمقاربة المستقلة للكون، بشرط أن نعلم أن اليقين المطلق سيهرب منا دائمًا، واستقلالية العلم، وعدم استعداده لتقبل الحكمة السائدة، يجعلان من العلم خطرًا على المذاهب التى لا تمارس النقد الذاتى أو تنزع إلى اليقين، ولأن العلم يحملنا على فهم العالم كما هو، وليس كما نتمناه أن يكون، فإن اكتشافاته لا يتم فهمها أو تقبلها فى حينها، وقد يستغرق الأمر بعض الجهد لإعادة «ضبط» جهاز عقلنا. وهو يرى أن تعقد العلم سببه أن الكون معقد، أو لأننا بالغو التعقيد، ولو ابتعدنا عن العلوم لأنها صعبة أو لأن التعليم كان سيئًا، فإننا نتنازل عن قدرتنا على التحكم فى مستقبلنا وتتآكل ثقتنا فى أنفسنا ونفقد حريتنا. ويرى أيضًا أن العلم ليس متوائمًا فقط مع الروحانية، بل إنه مصدر عميق من مصادرها، وحين نعرف مكاننا فى هذا الكون الهائل، وعبر مرور العصور السحيقة، وعندما نحس بتعقيد وجمال ورهافة الحياة، فإن هذا الإحساس المتصاعد بالغبطة والتواضع هو مؤكد إحساس روحانى. تتجلى شاعرية «ساجان» العالم فى مقطع ملهم يحمل عنوان «نقطة زرقاء باهتة» يتحدث فيه عن كوكب الأرض: انظر إلى تلك النقطة، إنها هناك، إنها الوطن، إنها نحن، عليها يوجد كل من أحببت، كل من عرفت، كل من سمعت عنه، كل إنسان عاش ومات، إنها ملتقى أحزانك ومعاناتك، آلاف الديانات المطمئنة والأيديولوجيات والمذاهب الاقتصادية، كل صائد حيوانات وبهائم فى الغابات، كل بطل وكل جبان، كل ملك وكل مزارع، كل حالة حب، كل أب وأم وكل طفل ممتلئ بالأمل، كل مخترع ومستكشف، كل معلم للأخلاق، وكل سياسى فاسد وكل إنسان مشهور، وكل قائد ملهم، كل قديس وكل عاصٍ، كل واحد من هؤلاء من بنى جنسنا عاش هناك، فوق تلك الذرة من الغبار المعلقة بشعاع الشمس. الأرض مسرح صغير جدًا فى حلبة الكون الفسيحة، فكر فى أنهار الدماء التى سالت بسبب الأباطرة، حتى يصبحوا للحظة أسياد جزء صغير من تلك النقطة، فكر فى القسوة اللا نهائية التى يمارسها سكان جزء لا نكاد نراه من تلك النقطة نحو سكان آخرين فى جزء آخر، إن كوكبنا هو بقعة وحيدة ضئيلة فى الكون العظيم المظلم الذى يلفنا، الأرض هى المكان الوحيد المعلوم لنا حتى الآن الذى يحتضن الحياة، لا يوجد مكان آخر يمكن لجنسنا أن يهاجر إليه على الأقل فى المستقبل القريب.

الكتاب ملىء بالأفكار اللامعة لعلماء عظام يخاطبون القارئ العام بلغة سهلة، فى سبيل تطوير العلم والمجتمع، وهذ التطوير لكى يحدث، كما قال فرانسيس بيكون، أحد أهم فلاسفة القرن السادس عشر، لا بد من التخلص من أربعة أصنام، الأول هو صنم القبيلة، وهو مجمل المعتقدات الزائفة المزروعة فى الطبيعة الإنسانية، والثانى هو صنم الكهف، وهو العيوب الناتجة عن العيوب الشخصية لكل فرد على حدة، والثالث هو صنم السوق، وهو المعتقدات الزائفة الناتجة عن تواصل البشر مع بعضهم، وينتج عنه تبادل كلمات ومصطلحات عامة يتم تبنيها رغم زيفها وعموميتها، أما الصنم الرابع فهو صنم المسرح، وفيه يتم تشبيه الناس بالمتفرجين فى عرض مسرحى يتلقون من خلاله التعليم والتعليمات.