رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"مصر التى فى خاطرهم".. "الدستور" ترصد كتابات ٣ مستشرقين عن "المحروسة": استعلاء وكذب

مصر
مصر

- جيرميا لنش: يكرهون الإنجليز لأنهم يرفضون اتباع النظام ويؤمنون بالقسمة والنصيب

- آرثر بروم ويجول:  عرابى انتهازى وصولى يحفظ الآيات القرآنية ليستخدمها فى كل مناسبة

- ديزموند ستيوارت:  محمد على أدار ظهره للأزهر فتسبب فى نشأة «الإخوان المزعجين»

فى كتابه الرائد «الاستشراق» المنشور فى عام ١٩٧٨، كان المفكر الفلسطينى الأمريكى إدوارد سعيد أبرز من لفت الانتباه للهيمنة التى حكمت علاقة الغرب بالشرق ومن ثم حددت رؤيته وتمثيلاته لهذا الشرق، كشف «سعيد»، عبر كتابه، حالة الاستعلائية التى تتعامل من خلالها الثقافة الغربية مع الثقافات الأخرى وتحدد نظرتهم المتدنية لمن لا ينتمون إلى الثقافة ذاتها. 

أسهم هذا الكتاب وما تلاه من جهود ارتكزت على تحليل الخطاب فى عالم ما بعد الاستعمار فى الإفصاح عن الكثير من الأكاذيب والمغالطات التى روّج لها المستشرقون والرحالة الغربيون فى مشاهداتهم وتدويناتهم عن «الشرق»، وهو حقل خصب ما زالت اكتشافاته لم تنضب بعد. 

من هذا المنظور، يمكن قراءة ثلاثة كُتب، نُشرت ترجماتها حديثًا، وهى: «سيناتور أمريكى فى صعيد مصر» للكاتب جيرميا لنش، و«رؤية استشراقية: مذكرات عالم آثار إنجليزى فى مصر» لـ«آرثر بروم ويجول»، وأخيرًا «يوميات رحالة: مذكرات ديزموند ستيورات عن الشرق» للكاتب ديزموند ستيورات. 

الكتب الثلاثة تتفق فى تركيزها على التاريخ المصرى بالقرنين الماضيين ورصد الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بها، وفى كل الأحوال فأهمية هذه الكتب تكمن فيما تتيحه من اطلاع على التاريخ المصرى من منظور الآخر، بما قد يحمله هذا المنظور من أفكار ورؤى مهمة وزوايا مغايرة لم يُسلط عليها الضوء من قبل.

علاوة على ذلك، فهذه الأعمال وإن تفاوتت فى درجة المغالطات الاستشراقية تظل مهمة لإدراك تلك الرؤية الاستعلائية وما تروج له من أكاذيب أو مغالطات، ودفع القارئ للتفكُر فى قضاياه والوصول إلى حقيقة تتوسط منظورين؛ منظور تعززه السردية التاريخية الرسمية ومنظور آخر تروج له سردية استعلائية قائمة على المغالطات. 

فى كتاب «سيناتور أمريكى فى صعيد مصر»، الذى ترجمه سمير محفوظ بشير، يسرد الكاتب الأمريكى جيرميا لنش رحلته إلى مصر فى عام ١٨٨٩ التى قضى فيها عامًا كاملًا، وعلى الرغم مما أبداه الكاتب من تقدير جم للحضارة المصرية القديمة والمصريين القدماء، وحديثه عن أثر التاريخ المصرى القديم والأفكار والعادات الدينية المبثوثة فيه على عادات الشعوب الأخرى وأفكارها، فإنه نظر إلى الواقع المصرى آنذاك فى القرن التاسع عشر من منظوره الاستعلائى الذى تكشف بدءًا من المقدمة، ففيها يقول: «كتبت بشكل مبسط تجربتى وما لاحظته كرجل من (العالم الجديد)». 

من هذا العالم الجديد، ينظر لنش بدونية إلى المصريين، فيتحدث عن مآثر الاحتلال الإنجليزى لمصر والمنافع الجمّة التى جناها المصريون من هذا الاحتلال؛ فقد أنجز الاحتلال «أعمالًا رائعة»، وعلّم المصريين الأساليب العلمية فى مجال إنشاء الترع وإدارتها، ورغم كل هذه الخدمات الطيبة التى قدمها الإنجليز إلى مصر، فإنهم ليسوا محبوبين، لا بسبب جرائمهم وانتهاكاتهم، وإنما فقط حسبما يرى الكاتب، لأن «التزامهم البالغ باتباع نظم الضبط والربط تُعتبر أفعالًا مُتعبة ومكروهة فى نظر المصريين الذين لا يؤمنون سوى بالقسمة والنصيب».

لا يقتصر الأمر فى مذكرات لنش على تعظيم منافع الاحتلال الإنجليزى لمصر واعتباره إضافة كبرى للمصريين، فتلك النظرة الاستعلائية التى تجعل من بلاده المُنقذ، تمعن فى ترسيخ صورة دونية عن المصريين الذين يقول عنهم بخطاب استعلائى فج: «الأمم مثل الأمة المصرية وهى الوحيدة المتبقية من العالم القديم، لا يمكن أن تظل هكذا مستقلة، هذه الدولة ليست بالغة الاتساع وشعبها عدده قليل، وبخلاف الدين أهلها لا ينتمون لأى جنس على الأرض، إنهم من الماضى وليسوا من أهل الحاضر».

إن كان للكتب الثلاثة أن تتفق فى نقطة محددة، رغم تمايزها، ستكون هى إيمان الكُتّاب الثلاثة بمآثر الاحتلال وفوائده وغلبة غض الطرف عما تسببت فيه عقود من تناوب المحتلين على مصر فى عرقلة مسيرة نهضتها أمام كبواتها المتتالية. 

فى «رؤية استشراقية: مذكرات عالم آثار إنجليزى فى مصر» من إصدار عام ١٩١٤ يُصدّق الكاتب الإنجليزى «آرثر بروم ويجول» على مزاعم الجنرالات الإنجليز، فيتفق مع مزاعم المندوب السامى البريطانى؛ سير إلدون جورست، بأن تدخل بريطانيا فى شئون مصر هدف فقط إلى تقديم صورة للإدارة الجيدة وتعليم المصريين وتعويدهم كى يتبنوا ذلك، وأن إعلان الحماية البريطانية على مصر كان هدفه تحقيق رفاهية وسعادة كل الأمة المصرية، كما أنه رأى فى المندوب السابق له اللورد كرومر مصدرًا رئيسيًا فى بعث جديد لمصر تحت وصاية إنجلترا. فى مقابل الاعتداد بمآثر الإنجليز وإدارتهم لمصر، فإن ويجول، الذى يسرد فى كتابه بعض الأحداث التاريخية التى تعرضت لها مصر منذ الحملة الفرنسية وحتى بداية الحرب العالمية الأولى، يُشوّه الزعماء الوطنيين وعلى رأسهم أحمد عرابى، الذى مثّل صداعًا فى رأس الاحتلال الإنجليزى، فيصوره فى كتابه بأنه كان انتهازيًا ووصوليًا وجبانًا وعنيفًا، ويتحدث عن خوفه وارتعاده فى مواجهة الخديوى، وسعيه وراء مصالحه الخاصة إلى درجة أنه كان «يحفظ الآيات القرآنية ليستخدمها فى كل مناسبة تلوح له».

أما ديزموند ستيوارت فى كتابه «يوميات رحالة»، الذى نأى بصورة كبيرة عن النهج الاستفزازى، لم يتخل هو الآخر عن الحديث عن مآثر الجنرالات الإنجليز والتصديق على رؤاهم، فيذكر عن اللورد كرومر أنه «فعل الكثير لكى يحسن من مبادئ العدالة فى مصر»، وأنه أجهد نفسه فى مهمته الأساسية كمشرف عام على مالية البلاد حتى ينجح فى هذا الشأن، وأنه وصل والمصريون فقراء وتركهم وهم بالكاد أغنياء. ومع أن ما يورده ستيوارت من سرد تاريخى عن تلك الحقبة التاريخية من عمر مصر، بدءًا من الحملة الفرنسية ووصولًا إلى ثورة يوليو ١٩٥٢، ينأى بدرجة كبيرة عن الأكاذيب ويسعى لاقتفاء الموضوعية، فإنه ركز على تعزيز فكرة أن من حكموا مصر؛ محمد على ونسله، كانوا أشد وطأة عليها من الاحتلال، الذى قدّم فضائل شتى يُحمد عليها من وجهة نظره.

على الرغم من كل مغالطات وصور مشوشة قد تحملها المذكرات الاستشراقية، فإن بعضها قد يقدّم ملاحظات جديرة بالتأمل والنظر، وقد تصير مرجعًا رئيسيًا عن حقبة تاريخية لما تطرحه من صور حيّة لمجتمع هذا العصر أو ذاك، مثل هذه المشاهدات يمكن ملاحظتها بوضوح فى مذكرات ديزموند ستيورات عن الشرق. 

يقدم ستيوارت فى كتابه بحثًا متأنيًا عن حقبة تاريخية طويلة تمتد حتى تصل إلى ثورة يوليو ١٩٥٢، وفى خضم هذه الرحلة كان من اللافت متابعته لبداية ظهور جماعة الإخوان الذين عبّر عن رأيه بهم قائلًا: «إنهم مزعجون، فى الواقع لا يرغبون أبدًا فى تطوير الإسلام، يعملون على جمود هذا الدين فى مكانه، أو أسوأ من ذلك، يريدون أن يعودوا إلى الوراء».

بيد أن واحدة من أبرز النقاط التى التقطها الكاتب الإنجليزى تتعلق بإشكالية الأصالة والمعاصرة التى رافقت رحلة الحداثة فى مصر على امتداد القرن العشرين، إذ يُرجع ستيوارت أصل المشكلة إلى عهد محمد على الذى انصرف خلاله عن تطوير التعليم الإسلامى وتعزيز دوره فى تطوير المجتمع، ففى مقابل ذلك، بذل كل جهده ليفصل كل ما هو تقليدى عن كل ما هو حديث، وسعى لتثبيط الهمم فى الأزهر بقطع الهبات والمخصصات عنه، ثم أرسل الطلاب إلى فرنسا لكى يدرسوا العلوم الحديثة، وبذلك أسس انقسامًا استمر طويلًا فى مصر ما بين الذين تعلموا بالطريقة التقليدية ومن نهلوا من المعارف الأجنبية. 

كما أن ستيوارت ينظر بإنصاف إلى أثر تدخل القوى الأجنبية على مسار الحداثة فى مصر، فيشير إلى أن خضوع مصر للخلافة العثمانية كان ثغرة دخلت منها كل القوى الأجنبية الخارجية، وأنه فيما كانت مصر فى عهد «محمد على» على وشك مواصلة مشروع تقدمى حقيقى فإن عرقلتها جاءت بسبب الهيمنة وفشل مشروع التصنيع بعد العداء الشديد من الرأسمالية الأوروبية، وهى رؤية تغلب عليها الموضوعية وتنأى بدرجة كبيرة عن صور مشوهة سعت كتابات أخرى لتكريسها. 

من جهة أخرى، ترسم بعض المذكرات صورة حية عن المجتمع وأفراده فى فترة زمنية محددة، وهذا ما ظهر فى مذكرات جيرميا لنش الذى كتب معايشاته لأفراد ومواقف من المجتمع المصرى بنهاية القرن التاسع عشر، فمعه نشاهد رواة القصص التراثية الذين ينشدون أشعارهم وقصصهم من الذاكرة، والأفراح الشعبية بطابعها القديم، كما نطلع على الوجود اليهودى فى مصر وأثره وما تمتع به اليهود من حرية فى ممارسة شعائرهم بمصر.

ومن أبرز ما ركز عليه الكاتب الأمريكى وسعى لتقديم صورة تعميمية عنه؛ أوضاع المرأة المصرية بتلك الفترة، إذ أبدى اندهاشه واستنكاره الشديدين من الحجاب الذى يغطى المرأة من وجهها إلى قدميها و«يطبق على أنفاسها»، وأشفق على المرأة التى رأى أنها تُعامل كسجينة قبل الزواج وكعبدة بعد الزواج، مستهجنًا فكرة الزواج من أكثر من زوجة التى يستند فيها المسلمون إلى الشريعة الإسلامية.

فى كل الأحوال، فإن قراءة ما خطته أقلام المستشرقين من مذكرات ويوميات تظل مهمة إن تعامل معها القارئ بصفتها سردية؛ حسبما أفاد الفيلسوف الأمريكى هايدن وايت، وبناء عليه، لا تكون ممثلة للواقع أو الحقيقة بصورة مرآوية وإنما هى بناء لهذا الواقع محكوم برؤى الكاتب الأيديولوجية والسياسية.