رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«حكاية هوى»

ذهبت لمحطة القطار، وعرفت أن القطار متأخر، انتظرت ساعتين واقفًا على المحطة وفى يدى حقيبتى الجلدية، فيها كتب سأهديها لصديقى ليقرأها ويكتب عنها. 

شعرت بالإرهاق من طول الوقوف، فلم أعرف متى سيأتى القطار، بحثت عن مكان أجلس فيه فلم أجد.

فجأة أُعلن عن قرب وصول القطار، وكان متأخرًا ساعتين كاملتين، وشعرت بأن ساقىَّ قد تخشبتا، وأننى أجرهما جرًا عندما أتحرك. 

دخلت فى القطار بمجرد وقوفه، ألقيت نفسى على الكرسى الذى حجزته. 

القطار الذى حجزت فيه كان قادمًا من أسوان، آخر محافظة فى مصر. العربة التى فيها مقعدى مزدحمة وممتلئة عن آخرها بالركاب الذين أرهقتهم الرحلة الطويلة من جنوب الصعيد، بعضهم كان نائمًا نومًا عميقًا لطول المسافة التى قضاها فى القطار.

مضت فترة وأنا فى القطار، والقطار ينهب المسافة بسرعة كبيرة فى طريقه للقاهرة، وأسمع أصوات ارتطام عجلاته الفولاذية بالقضبان الحديدية يدق فى رأسى. 

حاولت أن أنام، غير أن صوتًا نسائيًا ناعمًا كان يخترق أذناى من الكرسى الذى خلفى، كان الصوت واضحًا، ويفرض نفسه علىَّ بقوة وأسمعه رغمًا عنى، ويتحدث فى التليفون لشخص آخر. 

وسمعت الحديث التالى بكل وضوح:

• نعم قابلته فى منطقة مدافن «ضحكة ماجنة وساخرة»؛ لأنه كان هناك يعزى فى صديق له، وركب معنا. 

• ..................... 

• باين أنه يعشق الستات والجنس اللطيف. 

• ............................

• المهم أنه يقتنع بالكتابة ويكتب. 

• ...................... 

• مش لازم يكتب من الكتاب، لأن الجبرتى ظلمنى. هو لازم يكتب وينصفنى. هو كاتب منصف ويختلف عن غيره من الكتاب، كما أنه من المؤكد سيطالبنا بمقابل مادى لو كتب.

فى تلك اللحظة كان يجب أن ألتفت للخلف، وبالفعل التفت، فوجدت هوى بنفس تقاسيمها الجميلة التى حفظتها، تجلس فى الكرسى الذى خلفى بنفس الملابس السوداء، وبنفس الفتحة الواسعة عند صدرها بكل جمالها ورونقها. وكانت تتكلم فى تليفون محمول من النوع الحديث!

هممت أن أنهض من مكانى خوفًا، وشعرت بقشعريرة ورعشة غريبة تجتاحنى، ولكننى عندما نظرت حولى رأيت الركاب نائمين فى مقاعدهم، والصمت والسكون يخيمان على القطار إلا من ضوضاء ارتطام عجلاته بالقضبان الحديدية، وصوت متسولة تعودت على التسول بصوتها الصارخ فى عربات القطار المكيفة وهى تذكر أمراض زوجها وبناتها وأخويها العاجزين وقيامها بإعالتهم جميعًا، كانت المرأة فى صحة جيدة وصوتها من طبقة السوبرانو، كان قويًا ونفاذًا وله تأثير فى المستمعين النائمين. 

نظرت خلفى.

فى تلك اللحظة التى نظرت فيها توقف الكلام، ولكن صداه كان لا يزال يرن فى داخلى بكل وضوح.

ولما نظرت وجدت خلفى سيدة عجوز مستغرقة فى النوم، ولا تمت بصلة أبدًا لهوى وصوتها الناعم ولا لأنوثتها وجمالها!

فى تلك اللحظة أيقنت أننى ملبوس بالجن.

وأننى بالفعل أتحرك لا بمشيئتى، ولكن بمشيئة الجن الذى أيقنت أنه يتقمصنى ويفرض علىَّ نفسه، ويقودنى إلى حيث يريد.

كان الكمسارى قادمًا ناحيتى بملابسه الرسمية الزرقاء يقترب منى وبين أصابعه قلم يجريه على تذاكر الركاب، ولم أنتبه للكمسارى وهو يطلب منى التذكرة، تجاهلته مستغرقًا فى التفكير، مما دعاه إلى أن يلكزنى فى كتفى ليوقظنى من تفكيرى الذى هيمن علىَّ ويتصارع داخلى، ويشعرنى بأننى ما زلت فى عالم الأنس، ولم يتلبسنى أى جنى.

ناولته التذكرة، أجرى قلمه عليها بخط طويل، ثم ناولنى إياها.

كنت من آنٍ لآخر ألتفت لأنظر فى الكرسى الذى خلفى، فأجد نفس المرأة العجوز النائمة بسحنتها الكئيبة.

انشغلت بمكاملة تليفونية طويلة من صديق كاتب، ينظر إلى الدنيا بمنظار أسود، ويحذرنى من الأيام المقبلة، ويبشرنى بموجة غلاء، ويخبرنى بأن مصر مقدمة على مجاعة أشد وطأة من مجاعة مصر أيام سيدنا يوسف المذكورة فى القرآن الكريم، وقال إنه ستأتى سنوات عجاف تأكل السنين السمان، وإن كل أموال الطبقات الرأسمالية فى الساحل الشمالى والقاهرة ستأكلها ثورة الجياع التى ستندلع. 

الحقيقة تركتنى مكالمة صديقى الكاتب مشتتًا، ليس لخوفى على مصر من المجاعة التى تدور فى خيال كاتبنا المنغلق، ولكن من خطورة هذا التفكير المنتشر بين كثير من الكتاب، والذين يروقهم أن يشاهدوا مصر متخلفة وأسعارها رخيصة، ولا يعرفون أن العالم كله ودّع الأسعار الرخيصة إلى غير رجعة.

ولكن ما شغل تفكيرى أكثر هو لماذا اختارنى هذا الكاتب بالذات لينقل لى تلك النبوءة الغريبة؟، واستغرقت فى التفكير.

أفقت عندما وقع التليفون من يدى، وأيقنت أننى نمت كثيرًا، وقد نسيت تمامًا مكالمة صديقى، تناولت التليفون من على أرضية القطار، وكان عامل عربة الدرجة الأولى بالقطار يعلن عن قرب الوصول لمحطة الجيزة، فأسرعت بالدخول لدورة المياه لتفريغ مثانتى، حتى لا أضطر للبحث عن دورات مياه فى شوارع القاهرة والأماكن التى أتواجد فيها.

شعرت بما يشبه النمل يجتاح ساقىَّ ومؤخرتى، ربما من أثر الجلوس الطويل فى القطار.

وشعرت بصوت يكلمنى من الخلف.

كانت العجوز التى فى الكرسى الخلفى تطلب منى أن أنزل لها حقيبة ضخمة من على رف القطار الذى فوقها.

بالفعل نهضت واقفًا، واقتربت من الحقيبة، وحاولت رفعها، كانت ثقيلة كأنها محشوة بالحديد، ومع ذلك فقد أنزلتها لها، ولم تسقط من يدى.

بدأ الركاب يستعدون للنزول من القطار. 

نزلت. 

كان علىَّ أن أعبر إلى الرصيف على الناحية الأخرى للركاب المتجه للصعيد، وذلك للخروج من الباب إلى الميدان الواسع أمام المحطة. 

نزلت الدرج لأسفل تم عبرت نفقًا تحت شريط القطار، ووجدت نفسى على الرصيف الآخر المزدحم. 

كان هناك بعض الركاب واقفين وفى أيديهم وبجوارهم حقائبهم فى انتظار القطار المكيف المتجه للصعيد، وهناك آخرون يجلسون على أرضية الرصيف ينتظرون قطار الضواحى الذاهب إلى الفيوم، والذى يتلكأ فى المحطات الصغيرة ويستقله باعة الخضروات والفاكهة ومنتجات الألبان.

بينما أسير بين الركاب لأتجه ناحية باب الخروج من المحطة، شاهدت عددًا من الفلاحات يفترشن الأرض، وأمام كل منهن إناء كبير فارع، كنت أعرف أنهن فى انتظار قطار الضواحى الذى سينقلهن إلى القرى التابعة للجيزة، وفجأة لمحت بينهن هوى فى ثوب أسود قديم ومهلهل، وصدرها الرهيب يطل منه، وكانت تنظر ناحيتى وتبتسم.

ابتسمت لها، فوجدتها ترفع لى يدها لتحيتى.

ولما عاودت النظر، كانت الفلاحات يتحدثن ولم أجد أثرًا لهوى، ولا لأى سيدة تشبهها.

ووجدت نفسى أشعر بنوع غامض من الرضى، لا أعرف سببه. 

وخرجت من المحطة.

مقطع من رواية اسمها «هوى» تحت النشر