رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رائحة الموت.. وبؤس النخبة الثقافية

لا أعرف منذ متى بدأت تطاردنى رائحة الموت، لكنها فى الأشهر الأخيرة أصبحت أكثر، وأقرب، وأشد وطأة، وإثارة للأسى والغضب والحزن واليأس، والشعور بمدى البؤس الذى تعيشه الثقافة المصرية والعربية على حدٍ سواء.. لم يعد يمر وقت حتى يصحو الواحد منا على أنباء رحيل صديق أو رفيق أو واحد من أبناء ذلك الجيل التعس، الذى ظلمته الحياة الثقافية فى مصر والعالم العربى حيًا وميتًا، والحقيقة أننى لا أعرف ما الأسباب التى جعلت من جيل الثمانينيات، على وجه التحديد، موضع تجاهل دائم ومقيم من الصحافة الأدبية، ومن النقاد، ومحترفى التنقل بين لجان الجوائز والمهرجانات الصغيرة، عربية ومحلية، لكنها الحقيقة التى تتأكد لى يومًا بعد يوم، وهى الفرضية التى تثبت صحتها مع كل راحل جديد من أبناء ذلك الجيل الذين أخلصوا للكتابة، وحدها لا شىء غيرها، فلم تشغلهم جوائز ولا مسابقات ولا صفحات يتم تسويدها أسبوعيًا لحساب الأقل موهبة، والأقل إخلاصًا، والأكثر انشغالًا بالتزلف لكل صغير وكبير وعابر.

بالأمس رحل الشاعر الكبير محمود قرنى، وهو واحد من أهم شعراء ذلك الجيل التعس، فكان أول من يبكونه هم محترفى الكتابة والتحكيم فى المسابقات، هم هؤلاء الذين لم يلتفتوا إلى منجزه الشعرى والنقدى الكبير طوال حياته، بل إنهم ربما لم يقرأوا أيًا من كتبه التى أدعو الصديق الشاعر فارس خضر، ناشر معظمها، إلى الكشف عن أرقام توزيعها «غير الهدايا»، والكشف عن الجوائز التى تم تقديم هذه الكتب إليها، ربما تسهم تلك الأرقام فى وضع الفأس فى رأس القاتل الحقيقى من نجوم المشهد الذين اعتادوا الاستيقاظ متأخرًا، وقضاء ما تبقى من اليوم فى اغتياب هذا، والحط من ذلك، وتدبير أمور الحياة التافهة والمؤامرات الصغيرة، والمصالح الضيقة والمنحطة. 

ربما لم تتفق ذائقة البعض مع ما كان يكتبه محمود، لكنه كان يملك مشروعًا مهمًا فى الكتابة، والتنظير لما يراه ويحلم به، وكان الأجدر بنا أن نقرأه، ونحلله، ونتحاور معه، لا أن نهجره، ونتركه وكأنه لم يكن هنا، وهو بالضبط ما حدث مع الروائى والكاتب الكبير حمدى أبوجليل، الذى سبقه فى الرحيل بأسابيع تعد على أصابع اليد الواحدة، وبكته الحركة الثقافية كافة.. رحل حمدى دون مقدمات، ودون استئذان، فانهالت الكتابة عن إبداعه، ومشواره مع الأدب.. كتابات لم يكن ليصدق أن يقرأها فى حياته، وبأيدى أشخاص لم يكن ليصدق أن يكتبوا، من الأصل، عنه.. ولعله من المضحك المبكى فى آنٍ واحد أن أول من بكوه كانوا هم من شاركوا بطريقة أو بأخرى فى استبعاد روايته الأخيرة من إحدى الجوائز التافهة، والتى أعرف جيدًا أنه لم يتقدم إليها بحثًا عن مجد أو اعتراف أدبى، فلم يكن حمدى أبوجليل من المجهولين، أو غير المتحققين، محليًا ودوليًا، بل إن رواياته المترجمة كانت، على غير المعتاد، ضمن قوائم الكتب الأكثر مبيعًا فى اللغات التى تترجم إليها، فلا تتحول إلى عبء يئن تحت وطأته ناشر الترجمة، وتضج بها مخازن الكتب، وتسوء معها سمعة الأدب العربى كله، وذلك لسبب واحد بسيط، ملخصه أنها كانت كتابة أدبية حقيقية، يختارها المترجم ويسعى إليها، لا تفرضها عليه جهات مجهولة، ولا يرشحها للترجمة «خرتى» أو مدّعى، أو شلة.

قبلهما رحل بهاء عبدالمجيد، الروائى المتميز صاحب الصوت شديد التفرد والخصوصية، فطالب من أغلقوا أبواب الجوائز دونه بجائزة خاصة باسمه، وبكوه بحرقة، بينما كنت أسمعهم بأذنى يسخرون من كتاباته، ويتحججون فى حرمانه من الجوائز بعدم حاجته لمبلغ الجائزة، يسخرون من تهذيبه، ولطفه، ومحبته لسائر خلق الله، ويخلطون بين شخصه وأدبه الذى لم يقرأوا منه أو عنه شيئًا.

القائمة تطول وتطول، ولا تبدأ من شريف رزق أو فتحى عبدالله، أو أسامة عفيفى، أو محمد عيد إبراهيم، ولن تنتهى بمحمود قرنى أو حمدى أبوجليل، أو بهاء عبدالمجيد، أو غيرهم من كتّاب ومثقفين كثيرين رحلوا وتركوا بصمتهم الواضحة والمتميزة لأجيال مقبلة ربما لا تشغلهم الحسابات التافهة، ولا المصالح الضيقة عن رد الاعتبار لهم، ولما أنفقوا حياتهم فى سبيله.. بعيدًا عن تلك الحالة البائسة التى أصبحت هى السمة الأوضح والأكثر تعبيرًا عن الثقافة المصرية والعربية فى هذا الزمن البائس.