رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكاية السيدة التى سقطت فى الحفرة

إيناس حلمى
إيناس حلمى

الإسكندرية

نوفمبر ٢٠٠٢

العطارين- مكتب الصحة

إذا كانت «ميرفت» قد اختفت عن وجه الأرض كما يقولون، فمن المؤكد أن اختفاءها قد قُيد فى سجلات الدولة بعد كل تلك السنوات على أنه وفاة. 

هكذا فكرت! فكرتُ فى أن الأوراق الرسمية فى بلادنا- شهادة الميلاد، شهادة الوفاة، شهادة الزواج والشهادة الجامعية- هى فقط ما تُحدد وجودنا من عدمه، بل ربما تُحدد أيضًا مصائرنا فى الحياة. كما فكرت فى أن اختفاء شخص ما عن عين العالم لا يعنى بالنسبة إلى العالم احتمالات أخرى سوى وفاته، حتى ولو لم يعثروا على جثة ذلك الشخص كى يُغسّلوها ويودعوها للمرة الأخيرة قبل أن يدفنوها فى مقابر العائلة.

لا أعلم إن كان اختفاء جسد شخص ما يعنى بالضرورة ألا يكون له قبرٌ يستطيع أهل صاحبه أن يزوروه! أن يضعوا فوقه زهورًا أو يوزعوا من أجل روحه كعكًا على أطفال المدافن.. فالذين تتمزق أجسادهم فى الحرب يقومون بجمع أشلائها ودفنها فى حفرة، وحتى إن لم يجدوا أشلاء، فهم يدفنون حذاء الشخص أو قبعته أو خاتم زواج سقط منه أو أى شىء يخصه.. يضعون فوقه شاهد قبر يكتبون عليه أن «فلان» قد دُفن هنا.. وهذا يعنى أن فلانًا ذاك كان يومًا ما على قيد الحياة.

سألتُ نفسى إن كان أهل «ميرفت» قد وضعوا شيئًا من ملابسها أو حقيبتها أو أحد أحذيتها أو مكحلتها مثلًا.. داخل حفرة وثبتوا فوقها شاهد قبر عليه اسمها وتاريخ ميلادها، وربما تاريخ اختفائها بوصفه تاريخ وفاة لا يملكون سواه! 

فكرتُ أيضًا فى أنه إذا كانت بقعة اختفاء «ميرفت» هى تقاطع شارع فؤاد مع شارع النبى دانيال، فبالتالى سيكون المكان المحتمل لاستخراج شهادة وفاتها هو مكتب الصحة بمنطقة العطارين.. هكذا تسلسلت الاحتمالات فى ذهنى بحثًا عن وسيلة للحصول على تاريخ وفاتها الذى سيقودنى إلى تاريخ الحادثة، الذى سيقودنى بدوره إلى أى مقال أو حوار أو تحقيق كُتب عنها فى جريدة أو مجلة تم إصدارها فى ذلك التاريخ أو بعده بأيام. تخيلتُ اللحظة التى سوف أضع فيها شهادة الوفاة تلك فى عين السيدة صاحبة العلكة وأقول لها إن «عروس الإسكندرية» حكاية حقيقية؛ وإن عليها أن تنشغل بها أكثر من انشغالها بالأشياء التافهة داخل درج مكتبها.. أردتُ أن أقول لها إن موت «ميرفت»- للمفارقة- لا يعنى فقط اختفاءها عن وجه الأرض؛ بل يعنى أيضًا أنها عاشت فوقها ذات يوم، يعنى أنها كانت موجودة بالفعل حتى ولو أنكر معظم سكان الشارع ذلك الوجود، وتجاهلوا أن هنالك حفرة غامضة انفتحت فى الماضى على جانب آخر من المدينة، جانب آمن به البعض دون أن يراه، فيما أنكره البعض الآخر لأنه لم يستطع أن يُصدق إلا فيما يراه. فكرتُ فى أسباب أن الإنكار كان فى ذلك الوقت أسهل وأقوى من غواية كشف سر حكاية غامضة مثل تلك! كيف كان قويًا إلى درجة جعلته يورث وينتقل عبر ثلاثين عامًا، جيلًا بعد جيل إلى أهالى الإسكندرية حتى تاهت الحكاية الأصلية ولم يبقَ منها سوى بضع كلمات مُشاعة، لا تكفى لمنح صاحبتها صفة أنها كانت يومًا ما من لحم ودم، وأنها كانت تملك حكاية حقيقية! أردتُ أن أعثر على تلك الحقيقة، أن أُنصف سيرتها، ربما كمحاولة لإنصاف سيرة كل السيدات اللاتى اختفين فجأة عن وجه العالم، أو أولئك اللاتى سقطن عُنوة، أو حتى بكامل رغباتهن فى حفرة ما!

تزورنى «ميرفت» منذ طفولتى من خلال حلم متكرر؛ عين واسعة مُكحّلة تنظر إلىّ من فرجة باب الغرفة ثم تختفى.. وصوت نسائى يهمس لى فى نشيج تطلب صاحبته منى أن أبحث عنها. 

فى البداية لم أعرف أن تلك العين وأن ذلك الهمس كانا لها! وقتها فسّرت لى «راوية» الحلم بأن تلك العين المختلسة هى عين أمى، وأن ذلك الهمس هو صوتى الداخلى يطلب منى أن أجد نفسى التى ضاعت إثر تحكماتها فى حياتى. لكن ذلك الحلم وأحلامًا أخرى قد اختفت فى فترة ما، ولم تعد إلىّ إلا بعدما سعيتُ وراءها بعد سنوات وأصررتُ، ليس فقط على تذكرها، بل على محاولة خلق مساحة فسيحة لها فى رأسى، لتتخطى عتبة ذلك الباب فأتجه عبره إلى مكان آخر. 

بعد سنوات، فسّرت الحلم لنفسى فاستمعتُ إلى همسها بأذن أخرى؛ سمعتها تقول بأنها تحتاج إلى ذلك الإنصاف وتُريده. شىء ما بداخلى أخبرنى بأننى إذا ما حققته لها فسوف أحقق لنفسى إنصافًا من نوع آخر. جعلنى ذلك أُصر على بدء رحلة البحث عن نقطة أبدأ منها المسير على خط ما، ولم أتوقع أننى سأكتشف فى نهاية الأمر أن ذلك الخط لم يكن سوى لمحيط دائرة!

فى الشارع الجانبى المتفرع من شارع فؤاد، بناية تستطيع أن تصل إليها عن طريق ممر طويل ينتهى بسلم يرتفع عشر درجات عن الأرض. أمام الشقة التى يقع بها مكتب الصحة ممر آخر ضخم يُفضى إلى غرف على اليمين وأخرى على اليسار كلها مفتوحة الأبواب؛ غرف لتسجيل المواليد الجدد، غرف للتطعيم وغرف أخرى لتسجيل حالات الوفاة. على جانبى الممر دكتان خشبيتان وُضعتا لانتظار المُراجعين الذين وجّه موظف الاستقبال كلًا منهم إلى المكتب الذى يسأل عنه. كانت الإضاءة خافتة جدًا لتُظهر الرخام الرمادى للأرضية أكثر رمادية وأكثر قتامة. 

سألتُ موظف الاستقبال عن مكتب استخراج شهادات الوفاة فأخرج من الدرج الخشبى ذى المقبض المكسور استمارة صفراء، أعطاها لى وطلب منى أن أملأ خاناتها كاملة، ثم أشار إلى غرفة فى آخر الممر كى أنتظر أمامها. 

جلستُ على الدكة الخشبية، أخرجتُ من حقيبتى الجينز التى ثبتت بها قطعة معدنية محفورة عليها ماركة «ديزل» القلم نفسه الذى كنت أكتب به الفصل السابق من روايتى؛ القلم الرابع من أقلام أمى. استندتُ بظهرى إلى الحائط أنظر إلى ورقة الاستمارة، مددتُ قلمى ليلامس سنه خانة الاسم فلم يكتب! ضغطتُ بقوة فتمزقت الورقة التى كان أثر الخربشات واضحًا على سطحها بالرغم من أنه بلا لون! 

رفعتُ عينى إلى الطابور الطويل الذى ينتظرنى أمام الغرفة، ثم نقلتها إلى المُلصقات المعلقة على الحائط أمامى؛ لوحات تعليمية طبية ملونة، بعضها يشرح تفاصيل تطعيمات المواليد الجدد، وبعضها الآخر يشرح وسائل مختلفة لتحديد النسل. سرتُ إلى موظف الاستقبال لأطلب منه استمارة أخرى وقلمًا. كتبتُ فى الخانة الأولى الاسم الذى حصلت عليه بفضل زيارتى لراوية.. «ميرفت أحمد شحاتة»، اسمٌ ثلاثى لا أعرف حتى إن كان كاملًا أم لا! لم أجد شيئًا آخر لأكتبه، ولا أى معلومة أخرى تستحق أن تملأ المساحات الخالية داخل ورقة سوف يتم ثقبها من الجانب لتوضع فى النهاية داخل ملف أسود كبير مع استمارات أخرى لأمواتٍ آخرين.. 

بالرغم من ذلك كان علىّ أن أحاول؛ أن أقف فى الطابور وراء أو أمام أشخاص، بعضهم جاء لاستخراج شهادات ميلاد أطفال أتوا للتو للحياة، وآخرون جاءوا من أجل استخراج شهادات وفاة لأقرباء أو أصدقاء غادروها.. يقفون ملتصقين خلف بعضهم البعض ليرسموا فى ذهنى لوحة جديدة تجمع الميلاد والموت معًا! قبل أن يوزعوا أنفسهم على الغرف، ليعودوا ويلتقوا ثانية فى مكان انتظار تسلم الشهادات. 

وقفتُ بينهم حتى وصلتُ إلى الغرفة المخصصة لاستخراج شهادات الوفاة. على أطراف مساحة الغرفة الكبيرة ذات السقف العالى توزعت مكاتب خشبية قديمة مغطاة بمفارش من المشمع الملون، تتكوم فوقها مجموعات من الأوراق والملفات السوداء. هنالك شباك خشبى مرتفع يطل على أشجار حديقة داخلية، تتقاطع الإضاءة النافذة منه مع إضاءة لمبات الفلورسنت القوية لتُظهر دهان حائط الغرفة أكثر اصفرارًا مما هو عليه فى الأصل.

عندما سألنى الموظف ذو الشارب الكثيف والرأس الأصلع عن علاقتى بالمتوفاة لم أستطع الإجابة! لم أستطع أن أُفسر له سبب وجودى فى هذا المكان كى أبحث عما يثبت وفاة سيدة ماتت منذ تسعة وعشرين عامًا، سيدة لا تمت إلىّ بأى صلة! فكرتُ فى أن أقول له إننى أكتب رواية عنها، لكننى فى تلك اللحظة تمعنتُ النظر إلى وجهه، ولوهلة تخيلتُ شاربه الكثيف يهتز من فرط الضحك وهو يسمع كلمة أكتب، أو كلمة رواية.. ثم تخيلته يُحدق بى بعينين غاضبتين وجبهة مُكرمشة لا يفصلها عن لمعة صلعته سوى زبيبة صلاة داكنة وهو يطردنى خارج المكتب، مُحركًا يديه بجوار أذنه بإشارة تعنى لمن حوله بأننى مجنونة. 

فكرتُ فى أن أشرح له أننى أحاول إحياء ذكرى سيدة نسيها الجميع، أن أُخبره بأننى أريد أن أتأكد عن طريق شهادة موتها أنها كانت موجودة أصلًا على قيد الحياة. وخلال تلك الثوانى بين سؤاله وإجابتى كان صدى حروف اسمها يطغى داخل رأسى على أى صوت آخر، «ميرفت أحمد شحاتة».. يتردد كأن أحدًا يصرخ به عاليًا فى وادٍ بعيد بين جبلين.. 

قلتُ للموظف: «دى شهادة وفاة جدتى».

تطلعتُ بأسى إلى أصابعه وهى تمزق استمارة الطلب، بعد أن فشلت أوراقى الرسمية فى إثبات علاقتى بالمتوفاة، وبعد أن أدرك جميع الواقفين حولى فى الغرفة أننى أكذب، وبعد أن شعرتُ بالخجل من أحزانهم، ومن أننى كنت سببًا فى تأخير وصولهم إلى نهاية صف الطابور الطويل.