رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر.. رأس حربة الخير

إذا سالت نفسك: مَنْ الدولة الوحيدة التي أفشلت مخطط (الفوضى الخلَّاقة) في الشرق الأوسط؟.. والوحيدة التي نجت من هذا المُخطط.. مَنْ الدولة الوحيدة التي تعني نجاتها نجاة كل الدول التي حولها؟.. والتي لديها أكبر جيش في المنطقة، بعد تدمير حيوش العراق وسوريا وليبيا.. مَنْ لديها جيش يُمكنَه أن يصُد المؤامرة، ليس على حدود بلاده فقط، بل وخارج حدودها أيضًا؟.. لا تجد الإجابة إلا، إنها مصر.. فثورة الثلاثين من يونيو لم تكن ثورة لخلع الإخوان من حكم مصر فحسب، لكنها كانت ثورة لتحطيم مؤامرة الاستعمار الحديث على المنطقة بأكملها.. ووصل المدُّ، بفعل قوة تأثير المصريين، إلى محاصرة عناصر المؤامرة في سوريا وليبيا وتونس، وحتى في العراق والسودان.
من هنا، كانت مصر حائط الصد للمؤامرة.. ومن هنا كان ينبغي أن تسقط مصر، فهي الجائزة الكبرى، لأن في سقوطها سقوط لكل دول المنطقة.. هذه هي الحقيقة التي يدركها الغرب، وهي ليست وليدة اليوم، ولكن لها جذور تاريخية منذ الحملات التتارية والصليبية والفرنسية والإنجليزية.. فمؤامرة إسقاط ومحاصرة الدولة المصرية تعود إلى أكثر من مائتي عام، منذ أن بدأ شكل العالم الحديث في التكوّْن.. فيعتقد البعض أن العالم الغربي يُحاصر مصر من أجل إفساح المجال لتمدد الدولة الإسرائيلية، مع أن العكس هو الصحيح، فهذه الدولة الصهيونية موجودة من الأساس، من أجل منع تمدد مصر، وصناعة حاجز بينها وبين الشام، وقطع الطريق من أمامها إلى أوروبا.
الحكاية، وإن كان لها جذور تاريخية ممتدة منذ ملوك مصر المحاربين القدماء، تحتمس الثالث ورمسيس الثاني، إلا أن بداية المؤامرة الحديثة تقترن بغزو نابليون بونابرت الشرق، نهاية القرن الثامن عشر، وتحديدًا في الفترة ما بين 1775 إلى 1785 ميلادية.. وبعدما قضى فيها من رحلات مُطوَّلة، ومرَّ بمصر، خلُصَ إلى نتيجة مؤداها، أنَّ هذه الدولة المصرية، بموقعها الجغرافي في قلب العالم وناصيته، وبإمكانياتها الجيوسياسية والبشرية والطبيعية، لأنها لو اتحدت مع محيطها الجغرافي ونهضت، ستمثِّل أكبر تهديد وجودي على أوروبا ومصالح الامبراطوريات القديمة.. وقال إنَّ الحل الوحيد لتقزيم دور هذه الدولة المصرية، هو زرع دولة في الشام، تمنع اتحاد الشام ومصر في امبراطورية موحدة.. وفي نفس الوقت، تكون حاجزًا يمنع أي محاولات للزحف العسكري المصري نحو أوروبا.
وبالفعل، دعا نابليون، للمرة الأولى، إلى هجرة اليهود إلى فلسطين، وأرسل إلى الجمعية الصهيونية ـ التي كانت دينية، ولم تكن قد أصبحت سياسية في ذلك الوقت، وتتخذ من موسكو ولندن مقرًا لها ـ بالنداء إلى الهجرة الأولى إلى فلسطين.. وتلقفت الجمعية الصهيونية الفكرة من نابليون، وبدأت ـ لأول مرة ـ في صياغتها بشكل سياسي.. وهاجرت بالفعل مئات الأسر اليهودية إلى فلسطين، ولكنها لم تتمكن من تكوين دولة.
كانت الامبراطورية الروسية والغرب والعثمانيين في صراعات دائمًا.. لكن أمام مصر، كان هؤلاء المتحاربون يؤجلون صراعاتهم، لأنَّ مصر لو قامت، ستكون خطرًا على الجميع.. قام الأسطول الروسي ـ البريطاني ـ الفرنسي المشترك بتدمير اسطول محمد علي، بعد التأكد من استسلام الأسطول العثماني على يد المصريين عام 1837.. وبعدها، تم اتفاق لندن عام 1840، لإجبار محمد علي باشا على تحديد حجم الجيش المصري وعدد قواته ومعداته، كشرط لوقف الحرب والاستقلال عن الدولة العثمانية.. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت معاهدة لندن استراتيجية دائمة في التعامل مع مصر.. مصر يجب تحديد قوتها دائمًا، لأنَّها الدولة الأخطر على العالم.. لو نهضت لن يستطيع أحد اللحاق بها.
حاول حفيد محمد علي، الخديوي إسماعيل، بعد ذلك، التحايل على معاهدة لندن، وزيادة عدد الجيش، وبناء نهضة زراعية وعمرانية كبيرة، وافتتاح قناة السويس.. وفي عهد إسماعيل أيضًا، تضاعفت قيمة موقعها الاستراتيجي بافتتاح قناة السويس، أهم ممر ملاحي في العالم لحركة التجارة، وحركة السفن العسكرية في نفس الوقت.. فمَنْ يسيطر على قناة السويس من القوى المتحاربة، في الشرق أو الغرب، يضمن نقطة تفوق استراتيجي قوية جدًا.
فاليوم تعتبر قناة السويس أحد أجزاء طريق الحرير الصيني الرئيسي، والذي يُقرِّب الصين من التفوق الاقتصادي على أمريكا.. لذلك، فإن سيادة أمريكا ـ مثلًاـ على قناة السويس، تضرب طريق الحرير في مقتل.. من هنا، كانت قناة السويس هدف استراتيجي دائم لقوى الغرب والشرق، منذ افتتاحها وحتى اليوم.
وتمر الأيام والسنون.. وقد نجحت مصر، من خلال ثورة 1952، في مقاومة الهيمنة الغربية والاحتلال، وأعادت بناء نفسها، في نهضة لا مثيل لها في الشرق، في خمسينيات وستينسات القرن الماضي، ليبدأ فصل جديد من المؤامرة.. كانت النتيجة، أن تحالف الروس والغرب، والأعداء اللدودين، الذين لا يتفقون تاريخيًا إلا على حِصار مصر.. وحدثت نكسة 1967، لتعود عشرات السنين إلى الوراء.. لكن الرئيس السادات استدرك الخطأ سريعًا، فقاومنا وانتصرنا، ونجحنا في استرداد أرضنا بمفردنا، بعد طرد الروس، في أكتوبر 1973.
وتمر السنون ثانية.. واليوم، وبعد ثورة الثلاثين من يوليو 2013، تقوم في مصر أكبر نهضة حديثة في تاريخها الحديث، منذ عهد محمد على والخديوي إسماعيل وجمال عبد الناصر والسادات.. نهضة عمرانية واقتصادية وعسكرية وتنموية غير مسبوقة.. فهل سيسمح الغرب لمصر أن تنهض من جديد؟.. هل نسي الغرب استراتيجية معاهدة لندن 1840؟.. هل نسي العالم مؤامرة المائتي عام على مصر؟.
إجابة هذا السؤال بالتأكيد: لا.. فخطة حصار مصر قديمة، ولم تسقط من استراتيجيات الغرب.. وما مناورات إثيوبيا وتركيا وإيران وإسرائيل لنا، سوى خيوط لشبكة عنكبوت واحدة، يتم نسج خيوطها في لندن.. فالخوف من قوة مصر مازال يحكم الفرقاء.. وهدف منع نهضة مصر لن يموت أبدًا، مهما مرَّ الزمان.. ومن هنا، تواجه مصر اليوم أكبر تهديدات متوازية لأمنها القومي، ولبقائها ووجودها في آن واحد.. حصار اقتصادي غير مُعلَن.. حرب نفسية مُمنهجة، وحرب معنويات على مدار الساعة، لتشويه جيشها ونشر الكراهية ضدة، وجهود مُضنية لتوطين الإرهاب داخلها، وعلى حدودها.. محاولات لحصارها من الجنوب، بتهديد أمنها المائي.. فِخاخ متواصلة لإظهار عدم قدرتنا على إدارة قناة السويس.. مؤامرات مستمرة لعزلها عن محيطها الجغرافي.. مناوشات كل حين وآخر، من إسرائيل وتركيا وإيران وإثيوبيا.. وكل هؤلاء، ما هم إلا قطع شطرنج على رقعة العالم الخفي لإدارة العالم.. مثلهم مثل الإخوان والإرهاب، كلهم جماعات وظيفية، وكلها مسألة تقسيم أدوار لإرباكنا.
هذا السرد التاريخي، والاعتراف بوجود المؤامرة علينا والحصار حولنا، ليس شماعة ولا تبريرًا لانعدام أو قلة الكفاءة في فترات مختلفة.. وما يفعله الرئيس عبد الفتاح السيسي اليوم، وما أنجزه في سنوات قليلة، بالرغم من تضاعف جهود المؤامرة، يكشف الكثير من الفرص الضائعة خلال سنوات كثيرة مضت.. لكن العبرة هنا، هو الفهم والوعي، حتى لا نكون أدوات في أيدي المتآمرين دون أن ندري، مع السعي الدائم للتطوير والتحسين والتنمية، والإصلاح والمواجهة، والتصدي للمؤامرة، في نفس الوقت.
هذا هو قدر مصر.. أن تكون رأس حربة الخير، في المعركة الأبدية مع أهل الشر.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.