رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حلوة.. وفيها كل حاجة حلوة

 

لا أريد المزايدة على صناع الأغنية الرائعة «فيها حاجة حلوة»، وليس فى نيتى التقليل منها ومنهم، بداية من الكلمات الدافئة للشاعر الغنائى الجميل أيمن بهجت قمر، مرورًا باللحن الرائق للموسيقار الكبير عمر خيرت، ووصولًا إلى الصوت شديد العذوبة للمطربة ريهام عبدالحكيم، لكننى أود لو أعترف بأننى كلما ضبطت نفسى فى حالة دندنة بها، أردد سرًا «حاجة واحدة بس؟!»، وأجيب «بالتأكيد لأ»، ثم أتساءل: «هو فيها إيه مش حلو؟!» هنا ربما يكون مفيدًا أن أعيد النظر إلى باقى كلمات الأغنية، لأجد أن أيمن، بمهارة أحسده عليها، يتخذ عبارته الافتتاحية مجرد مفتاح، لكى يصل بى وبالمستمع لأغنيته إلى ما أريد، ويبدو لى أنه هو ذاته ما كان يريده هو.. «فيها كل حاجة حلوة».

فها هو يعدد ما تيسر له عده من «حاجات» فى أغنية محدودة الزمن، وعدد الكلمات، لكى يصل بنا جميعًا إلى أنها «حلوة.. فيها كل حاجة»، تلك هى الحقيقة التى أعرفها جيدًا، ويعرفها كل من أسعده الحظ بالمرور على أرضها.. هى الحلو كله، و«كل حاجة فيها حلوة»، وإن عاندتها الظروف، أو مرت بها السحب، وغطت سماءها الغيوم. 

ربما يأخذنا الغضب أحيانًا، فنكتب عن أيامنا الصعبة، وعن مشاكلنا، وأزماتنا، عن ما نحتاجه من مواجهات، أو تعديل فى السلوك، فى السياسات، فى البيع والشراء، فى السوشيال ميديا، إخفاقاتنا فى الحب، وتعثرنا فى القفز بين الأرصفة المكسورة، والمحجوزة، والمستولى عليها، نكتب عن زحام الشوارع ووسائل المواصلات، وارتفاع الأسعار، وجشع التجار، وضيق ذات اليد.. نكتب عن الهبيدة، والمتطاولين، وتجار المخدرات، وسارقى الكحل من العين، عن المتسولين فى إشارات المرور، وقساة القلوب، لكننا وسط هذا كله نعرف أنهم «الضِدُّ» الذى «يُظهر حسنه الضِدُّ»، وأنهم القلة التى لا بد منها لكى ندرك ما حولنا من جمال.. ولكننا وسط هذا كله، أيضًا، نعرف جيدًا أننا محظوظون، لأننا ولدنا هنا، فيها، على أرضها، وبين ناسها وأهلها.. أهل مصر الذين هاجر إليهم أبو الأنبياءِ، إبراهيم عليه السلام، طلبًا للمأوى، بعدما حل ببلاد كنعان من قحطٍ وجفاف، والذين لجأت إليهم سيدة الدنيا، مريم العذراء، هربًا بطفلها «المسيح» عليه السلام، من بطش «هيرودوس» بما كان يضمره له.. كلم الله نبيه موسى من فوق أرضها، وعاش يوسف عليه السلام فى عزها، وتزوج محمد، صلى الله عليه وسلم، من أهلها.

نحن الذين سكن آل البيت أرضهم، فكانت بردًا وسلامًا على رفاتهم التى أشبعتها محبةً، وامتنانًا.. فهنا رأس الحسين بن على «رضى الله عنهما»، وإن اختلف الرواة حول مسارها، أو مكان دفنها، فى كربلاء أم عسقلان، أم قصر الزمرد بالقاهرة، أم فى مشهدها الحالى، وهنا اختارت السيدة زينب أن تقضى حياتها فى غرفة واحدة من القصر الذى وهبه لها والى مصر عندما هددها يزيد بن معاوية فى فترة الفتنة الكبرى.. ومن قبل هؤلاء التمس الإسكندر ما يرضى أهلها لكى يقبلوه بينهم.

هنا «خير أجناد الأرض»، و«أولياء الله».. هنا القساة والمتشددون والطيبون والبين بين، هنا من يسرقون الكحل من العين، ومن يعيدون اللقمة من أفواههم من أجل عابر سبيل جائع، هنا اللصوص والظرفاء ومن يسارعون لنصرة المظلوم، ومد يد العون إلى المحتاج، هنا المتبرعون بما يكفى لإنشاء المستشفيات والمدارس والجامعات والملاعب الرياضية، ومن يستحلون السطو على ما يصلون إليه من تلك التبرعات، هنا من ينفقون العمر من أجل تمهيد الأرض لأجيالٍ تاليةٍ، لا يعلمون عنها شيئًا، ومن يقضون الساعات فى «الفرجة على خلق الله»، القصور والعشوائيات والمدن الجديدة.. هنا الأضداد كلها، والمتشابهات كلها، ضجيج الأسواق، وسكينة المعابد، موسيقى الأرض، وألحان السماء.. هنا تحدث طه حسين وملأ السماء بنور علمه، وعاش نجيب محفوظ أحلامه ورؤاه، هنا تعلم مصطفى مشرفة، وجلجل صوت جمال عبدالناصر.. هنا عاش سيد درويش، وأم كلثوم، وبليغ حمدى، وما زالت أصواتهم تتردد ومعها أصوات عبدالحليم حافظ وشادية وسعاد حسنى وعادل إمام، يجاورها النقشبندى والطبلاوى ومصطفى إسماعيل، هنا تعيش كلمات صلاح جاهين والأبنودى وبديع خيرى ومرسى جميل عزيز، فتنتنا سعاد حسنى بعذوبتها، وسافرت بنا شادية وليلى مراد إلى أراضٍ لا يعلم بها إلا الله، وتمايلت بنا ألحان عبدالوهاب وسيد مكاوى ومحمد فوزى والسنباطى وعبدالعظيم عبدالحق.

هنا تلاوة القرآن، بصوت الشيخ محمد رفعت، تسبق أذان المغرب فى عصارى رمضان، وتواشيح ما قبل الفجر بصوت نصر الدين طوبار، تحلق بنا إلى ما شاء من سماوات.. هنا الماء والخضرة والوجه الحسن، وهنا مقهى «الحرية»، وبن «عبدالمعبود»، وسجائر «كليوباترا»، وهنا أسواق الرويعى والموسكى ووكالة البلح.

هنا ملاعب الكرة الشراب، واستاد القاهرة، ولمسات صالح سليم والفناجيلى وحمادة إمام ومحمود الخطيب.. ومحمد صلاح.. هنا طواجن المسقعة، وأطباق المحشى، وأكواز «البوظة»، وعصير القصب، و«كيف يمرض المصريون وعندهم البصل والليمون»، المقولة التى ينسبها البعض إلى هيرودوت.

هنا عشنا حياتنا، وانبسطنا، بكل ما لدينا من مبررات وأسباب، بمن مروا بنا من كبار العامة والخاصة والبين بين، عِلية خلق الله وصفوته، ومن يعيشون بيننا لكننا لا نراهم مؤقتًا.. ومن سوف يأتون فى القادم من أيام.

هنا.. مصر، «الحلوة اللى فيها كل حاجة حلوة».