رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر.. حضارةٌ شريفة.. ووطنٌ كريم

 

 

إن الشعوب التى لا تواظب على قراءة تاريخها تكلف أوطانها أثمانًا باهظة جدًا خاصة فى أوقات الاختيارات والاختبارات الكبرى! فتُكرر أخطاءَها فى متوالية لا تُرى إلا عبر صفحات ذلك التاريخ وقد تتكلف نخبتُها عناءً كبيرًا فى وقت الحسم بحثًا عن تلك الشعرة الحادة كالنصل التى تفصل بين التمسك والاتساق مع شخصية الأمة الأصيلة وأخلاقها والوفاء بوعودها الشريفة، وحماية علاقاتها التاريخية الأبدية من العبث من جهة، والحفاظ على هوية الأمة وحقوق أفرادها وحماية ما منحهم الله من مقدرات وخيرات، وما سطروه من تاريخ بدمائهم قبل عرقهم، وما حافظوا عليه من أمن بدماء أبنائهم وقت أن باع وطنه من باع وهرب من وطنه من هرب من جهة أخرى! فيترتب على ذلك ارتباك مشهد لا مجال فيه لرفاهية الخطأ أو الارتباك! عدم قراءة التاريخ خطيئة كبرى أسأل الله أن يحفظ الأمة المصرية من الوقوع فى براثنها وتحمل أعباء ذلك الإثم المبين!

منذ فجر تاريخ مصر بدا واضحًا أن الله قد منحها منحة أبدية فريدة وهى الموقع الجغرافى المتميز. تلك المنحة التى ستكون عبر عشرات القرون سببًا مباشرًا لأطماع الطامعين. ومن رحمة الله بمصر، أنه قد منحها ما يمثل توازنًا مع منحة الموقع المتفرد، وهو تلك الحماية الإلهية المتمثلة فى حدود طبيعية وعرة على الطامعين وتمنح للمصريين أمانًا ربانيًا وتمنحهم فسحة من الوقت للاستعداد فى حالات الخطر، فمنحها شرقًا وشمالًا حدودًا بحرية شاسعة، بينما منحها غربًا صحراء شاسعة، وتضاريس وعرة جنوبًا.

نيلٌ كريمٌ منحه الله للمصريين فلم يتكاسلوا عن شكر نعمة الله بالعمل الدءوب عبر القرون التى سبقت دخول مصر العصر التاريخى. وفى فجر عبورها للعصور التاريخية كان المصريون قد صاغوا بالفعل الأطر العامة لحضارتهم وعلومهم وأخلاقياتهم التى ستصبح هى الأطر الحاكمة لسلوكهم السياسى والحضارى وعلاقاتهم بجيرانهم عبر حقبهم التاريخية المتعاقبة. 

أهم تلك الأطر والسمات هى الشرف. نعم هذه حقيقة ساطعة لا يتجرأ على إنكارها أى قارئ منصف للتاريخ. تملك المصريون أسباب القوة وفاقوا جيرانهم حضارة وقوة، لكنهم اختاروا السلام والتعاون والتجارة وحسن الجوار ولم يجنحوا للغزو أو الطمع أو استغلال قوتهم للاستيلاء على ما منح الله غيرهم من الجيران. 

إن الأمم- كالأفراد- لا تُختبر فى شرفها وأخلاقها إلا فى ذروة قوتها، فقد تجنح أمة للسلام ضعفًا، ثم تنحيه جانبًا بمجرد تملك أسباب القوة.

منذ عام ٣٢٠٠ ق. م تقريبًا وحتى غزو الهكسوس لها، وفيما يقرب من ثلاثة عشر قرنًا ونصف القرن- مدة الدولة القديمة والدولة والوسطى دون احتساب ما تخللهما من عصور انتقالية- اختارت مصر السلام اختيارًا مجردًا نابعًا من شرفها وأخلاقها، وضعت لنفسها أطرًا أخلاقية صارمة نابعة من معتقداتها الدينية فى خيرية السلام وإيمانها الحقيقى بمعنى ماعت أو الحق والعدل. مدت يديها بالسلام والتعاون مع الجميع.

أثبتت الحضارة المصرية أنها الحضارة الشريفة حقًا وواقعًا وتاريخًا موثقًا، لا ادعاءً زائفًا كاذبًا.

ومن تلك الأطر الأخلاقية الشريفة التى ألزمت مصر بها نفسها أنها اختارت أن تكون وطنًا كريمًا يقصده الخائفون والجائعون والفارون من كوارث الطبيعة أو صراعات القبيلة، أو هوس صراعات الدم من أجل المذاهب الدينية أو عروش الحكم. 

اختارت مصر لنفسها أن تكون بنت أصول، لا تشيح بوجهها وقت قوتها وأمانها واستقرارها عن غوث جيرانها أو حتى البعيدين عنها جغرافيًا. اختارت لنفسها أن تكون صادقة فى الغوث لا متاجِرة أو صاحبة صوت زاعق منافق يقول غير ما يفعل. هذه سيرتها منذ الأزل التى سطرتها صفحات التاريخ. هذه سيرتها مع الجميع مهما اختلفت النحل والملل والطوائف، هذه أخلاقيات حضارتها الشريفة، يلجأ إليها المذعورون فلا تصد أبوابها دونهم وتمنحهم الأمان.

أدرك هذا كل من جاورها، فبعضهم حفظ لها جميلها، وبعضهم غير ذلك! بعضهم تغنى بها وبكرمها وحاول جاهدًا رد جميلها، وبعضهم حاول سرقتها بعد أن أمن بعد خوف، وشبع بعد جوع.

محاولات سرقة مصر عبر التاريخ لا علاقة لها بما تعرضت له مصر من محاولات غزو عسكرى. ففعل الغزو المسلح أشرف كثيرًا من محاولات سرقة الأوطان. ففى الغزو المسلح يأتيك عدوك سافرًا وجهه ممتطيًا عجلاته الحربية، أو جياده العربية، أو بارجاته الصليبية، أو على ظهر دباباته ومحلقًا بطائراته..! أما محاولات سرقة الأوطان- كما حدث مع مصر مرارًا وتكرارًا- فتتخذ أشكالًا وصورًا شتى ضجت بها وثائق التاريخ.

وفى هذه المجموعة من المقالات القصيرة، سوف أعرض لبعض صفحات هذا التاريخ التى أرى أن استرجاعها وبروزتها الآن وأمام الجميع أصبح حتمية وجوبية يأثم من لا يقوم بها ممن طالعوها. وما سوف أقوم باسترجاعه لا يمكن وصفه بأنه كل ما حدث، لأن أمة كالأمة المصرية لا يمكن إطلاقًا الإحاطة بأى فصل من فصول تاريخها أو حقبة من حقبها بشكل كامل فى مجموعة واحدة من مقالات محدودة أو حتى كتاب واحد. لكننى سأنتقى بعضًا مما تواتر توثيقه عبر صفحات الوثائق التاريخية المختلفة، فلا مجال للتشكيك تاريخيًا فى مصداقيته. 

فتلك المحاولات لم تتوقف فى أى حقبة تاريخية، كما لم تقتصر على جهة واحدة دون غيرها من الجهات الأربع المحيطة بمصر، بدأت منذ فجر التاريخ شرقًا وجنوبًا أولًا، ثم شمالًا وغربًا ثانيًا، وقد تنبه لها حكام مصر منذ لحظة بدئها الأولى، فصاغت رؤاهم ورؤيتهم القومية وسياساتهم اللوجستية، بل وأسهمت بشكل مباشر فى تكوين بعض أفرع مؤسسات الدولة الصلبة فى بدء تكوينها وصاغت أدبياتها وعقائدها الوطنية التى سترسخ لآلاف السنوات.

اتخذت محاولات سرقة مصر أشكالًا شتى، أكثرها تكرارًا كان ما يحدث بعد سنوات قليلة أو كثيرة عقب ما يمكن أن نطلق عليه بحثًا عن أمان وفرارًا من فزع وهربًا من فقر وقفر، وبحثًا عن قطعة خبز فى وادى النيل ودلتاه، واطمئنانًا لشخصية مصر التاريخية الأصيلة الكريمة. وكان منها ما يسبق أو يحاول تمهيد الأرض لغزو عسكرى أو يكون مقدمة استطلاعية تجسسية لغزو عسكرى، وكان منها ما يأتى لاحقًا لغزو عسكرى واستقرار الحكم فى أيدى غزاة جدد فيفتحون ثغور مصر وخيراتها أمام عشائرهم وقبائلهم الباحثة عن رغد الحياة وخيرات وادى النيل وسرقة ما بذل المصريون فى سبيل إنجازه قرونًا طويلة من العمل والعرق والدم، وكان منها من أتى رافعًا شعارات ناعمة براقة دينية أو غيرها من الدعاوى.

لقد أجبرت تلك المحاولات حكام مصر على السير بها وسط حقل ملتهب من الألغام والنيران والجمر الملتهب للنجاة بها وحمايتها! فى حقب قوتها نجت هى من السرقة، ونجوا هم من أن يلاحقهم عار التفريط! ويشهد التاريخ أن حكام مصر- من المصريين- لم يفرطوا أو يخونوا، ولم تكن خيانة الأوطان من المصطلحات المتداولة فى صفحات التاريخ المصرى قديمه وحديثه، وأن ما ألمّ بها فى حقب ضعفها لم يكن إلا بعد استنزاف طاقاتها وعصرها للرمق الأخير، وأن كل حقبة ضعف ألمت بها إنما أتت عقب نجاح حكامها فى صد موجات عاتية متتالية من الغزو العسكرى الهمجى يستنزف خير وقوة كل شبر بأرضها، وأن بعض حكامها قد ارتكبوا أخطاءً كارثية عقب الدولة الحديثة- أواخر القرن الحادى عشر قبل الميلاد- عن غير قصد وبعد أن تم استنزاف قواهم وقوة مصر.

كما أوضحت، فإن هذه المجموعة من المقالات القصيرة ليست لاستعراض مشاهد غزو عسكرى، إنما لرصد بعض محاولات سرقة مصر- أرضًا وخيرًا وحضارة- أتتها من كل صوب استغلالًا لشخصية مصر التاريخية الكريمة. وقد كان لازمًا قبل استعراض بعض تلك المحاولات أن أوثق لصفات تلك الشخصية حتى نفهم جزءًا من تاريخ مصر بشكل عادل وصحيح، وأن أوضح أنّ تعرض مصر لتلك المحاولات- التى نجح بعضها وكُشف وأجهض بعضُها- لم يثنِها فى أى فترة عن التمسك بشخصيتها التاريخية الكريمة أو يجعلها تعيد النظر فى أخلاقياتها الحاكمة لسلوكها السياسى، أو يجعل حكامها المتعاقبين ينكصون على أعقابهم أخلاقيًا، وأن هناك واجبًا ضميريًا وأخلاقيًا يجب على النخبة الفكرية القيام به فى الأوقات الحرجة، وهو تقديم كل ما لديها من معلومات قديمة أو حديثة بشكل واضح يساعد غيرها من النخب على رؤية أى مشهد كاملًا بشكل غير ضبابى، كما يساعد تلك النخب فى أى وقت على اتخاذ ما يرونه من قرارات بشكل عقلى وذهنى غير مشوش، وبشكل يحفظ لكل أمة شخصيتها الأخلاقية الأصيلة، وفى ذات الوقت يحفظ للأمة وأبنائها هويتهم وحقوقهم ومقدراتهم... أى باختصار يساعد من كُتب عليهم السير بأمتهم وسط حقل الألغام والنيران والجمر الملتهب لا أن يشوش عليهم أو يعوقهم عن ذلك السير أو يتهمهم بما ليس فيهم.