رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر الكبيرة

الأحداث الاستثنائية تكون مسرحًا مناسبًا لمطلقى الشائعات وصناع البلبلة وأبواق الأجهزة المعادية.. وظيفتهم اليومية هى صناعة البلبلة.. يتلمسون الأخبار.. يفحصون الأحداث.. يتربصون بنشرات الأخبار ليلتقطوا حدثًا ما.. ويبدأون العزف القبيح.. كلمة من هنا على كلمة من هناك.. كذبة من هنا على كذبة من هناك.. حقائق يتم تصويرها على عكس ما هى تمامًا.. معانٍ يتم قلبها ومحاولة إقناع الناس بالكذب لا بالحقيقة.. هذه هى البضاعة اليومية للمتربصين بهذا البلد.. يقلقهم الاستقرار.. يؤلمهم أن تمضى بنا الأيام ونحن آمنون.. يزعجهم أن يكتشفوا أننا نسير للأمام رغم الصعوبات وأن عجلة التنمية لم يستطع إيقافها أحد.. أحداث السودان الشقيق كانت فرصة مثالية لهؤلاء.. حدث كبير على حدودنا الجنوبية والبعض يريد توريطنا فى الصراع لسبب أو لآخر.. عقل ما يوزع الأدوار.. مصر الكبيرة ردت بأعلى قدر من الاحترافية والانضباط والمهنية.. أعدنا أبناءنا وبدأنا مخططًا كبيرًا لإجلاء مواطنينا ومواطنى الدول التى طلبت منا المساعدة.. عناصرنا التى ذهبت لإتمام الإجلاء كانت أكثر من مشرفة.. رسائلنا كانت منضبطة وواضحة وصارمة.. ترأس الرئيس جلسة استثنائية للمجلس العسكرى الأعلى.. لكنه صرح فى الاجتماع بأن مصر ليست طرفًا فى الصراع الداخلى فى هذا البلد الشقيق.. رفعنا شعار.. أخى لا مزيد.. أخذنا إخوتنا ودعونا كل الأطراف للحوار والجلوس على مائدة المفاوضات وتمنينا للجميع السلامة.. أُحبط ما قامت به أبواق الفوضى وعملاء الأعداء فانتقلوا للمرحلة التالية.. وهى الطنطنة بالحديث عن النازحين السودانيين لمصر.. هذا موضوع مناسب لإثارة الخلافات والشقاق ونشر الأكاذيب.. الموقف من الأجانب فى أى مجتمع فى العالم هو محل خلاف سياسى بين اليسار واليمين.. بين المحافظين والمنفتحين.. بين المرحبين بالأجانب والمتخوفين منهم.. خلاف طبيعى لكن فئران الإرهاب وأبواقه لا يريدون لأى شىء فى مصر أن يكون طبيعيًا.. بعيدًا عن الإثارة والمبالغة فإن التطرف فى العداء للوافدين نوع من الفاشية والتساهل فى دخول الوافدين دون إجراءات هو نوع من التفريط.. ومنهج مصر دائمًا هو الاعتدال والوسطية والحرص على مصلحة الجميع ومراعاة الأبعاد القومية والعاطفية والمصلحة الوطنية أيضًا.. من الناحية الواقعية لم تتدفق أعداد كبيرة من السودانيين على حدودنا الجنوبية.. عدة آلاف لا يشكلون أى خطر على بلد الجماهير الغفيرة وأم الدنيا.. المواطنون العرب فى مصر ظاهرة طبيعية وتاريخية والمعدة المصرية معدة قوية تهضم الزلط.. وقد هضمت غزاة وفاتحين وعربًا وأتراكًا وأوروبيين وشوامًا وأمازيغ وغيرهم كثيرون.. والمواطنون العرب فى مصر شرائح متنوعة وكثير منهم جاءوا برءوس أموال وافتتحوا مشاريع وأفادوا واستفادوا.. ومن حيث الوضع الحالى فإن حدودنا الجنوبية تبعد عن منطقة الصراع بـ١٦٠٠ كيلومتر مربع، فضلًا عن وجود عدد كبير من المناطق فى السودان بعيدة عن الصراع يمكن أن تشكل ملاذًا آمنًا للسودانيين.. وفى كل الأحوال فإن الشواهد تؤكد أن ملف النازحين لمصر فى أيدٍ أمينة وأن القرارات فيه تُتخذ بناء على معايير علمية وتقديرات منضبطة.. فى نفس الوقت فإن مصر ينطبق عليها قول الشاعر.. قدر الكبير بأن يكون كبيرًا.. كون مصر هى الكبيرة هو حقيقة تاريخية وجغرافية وسياسية وثقافية وعسكرية.. لا نستطيع أن نهرب منها إذا أردنا.. ولا يستطيع الآخرون أن ينفوها عنا إذا أرادوا مهما فعلوا.. إننا لسنا فى حاجة لأن نقول ماذا تعنى مصر للسودان ولا ماذا يعنى السودان لمصر رغم حرصنا الكامل على عدم التورط فى أى نزاع.. يكفى أن عاصمة السودان بناها المصريون.. وأن كثيرًا من مبانى الحكم المصرى فى السودان ما زالت مستخدمة كمقرات للدولة السودانية حتى الآن.. وبالمصادفة فإن قصر الاتحادية لدينا يقع فى شارع «الميرغنى» المسمى على اسم العالم والصوفى السودانى على الميرغنى مؤسس حزب الأشقاء الذى صار حزب الاتحاد والذى يطالب بالاتحاد مع مصر وتستضيف مصر رجاله وقادته من زعماء الختمية حتى الآن بكل ترحاب وود.. الشعب السودانى شعب مثقف وطيب وكريم ويحب مصر.. والسودانيون لا يمثلهم مجموعة من حسابات الفيسبوك تسىء إلى مصر بفعل فاعل وتحريض محرض.. لا.. علاقات مصر بالسودان أكبر من أن يفهمها محدثو السياسة والجهلة بالتاريخ.. فى هذا الإطار توقفت كثيرًا أمام مقال كتبه المحلل السياسى الأمريكى وليد فارس عن موقف أمريكا من الصراع فى السودان.. ينصح فيه الإدارة الأمريكية باللجوء إلى دولتين كبيرتين إذا أرادت الاقتراب من حل الأزمة فى السودان، وهو يقول إن «مصر هى أولى الدولتين بحكم حدودها الطويلة مع السودان.. وقدرتها العسكرية العالية للتحرك فى مهام سلام جنوبًا إذا قبلت بدور ما بمشاركة أطراف أخرى فقواتها هى الأقرب للوصول إلى العمق السودانى».. انتهى الاقتباس من مقال وليد فارس الذى لا يعنى أن مصر قد تقبل أو ترفض إذا ما عرض عليها العالم مهمة ما.. فهذا أمر مرهون بقرار مصر واستراتيجيتها وقيادتها.. ولكنى أنقل فقط كيف يرى الآخرون دور مصر.. وأرد على بعض الباحثين عن دور من أبناء النخب المصرية.. الذين تحدثوا عن غياب الدور المصرى.. فى حين أن الغياب هو لمعلوماتهم عن الدور المصرى وليس للدور المصرى.. وربما كان بعضهم يردد أمنيات أعداء هذا البلد لسبب أو لآخر.. إن النظرة للمشهد بعد عشرة أيام من اندلاع الصراع تقول لنا إن مصر كبيرة وقادرة وقوية وواعية وعصية على كل تدبير وإننا كنا كبارًا وسنظل كبارًا لأن هذا هو قدرنا.. قدر الكبير بأن يظل كبيرًا.