رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السودان على حافة الهاوية

القتال الذى اندلع فى السودان كان حتمية قائمة وقاتمة، منذ أن أطاح الجيش الوطني ووحدة شبه عسكرية تُعرف باسم "قوات الدعم السريع" بالرئيس السابق، عمر البشير، من ديكتاتوريته التي استمرت جاثمة على صدر البلاد ثلاثين عامًا، في 2019، بعدما تقاسم الفريقان سلطة غير مستقرة.. قد يكون السودان ثالث أكبر دولة في إفريقيا، لكن من الواضح أنه ليس كبيرًا بما يكفي لكليهما.. فمع التمرد الذي بدأه حميدتي، ضد المجلس العسكري الانتقالي هناك، والذي يشغل بنفسه منصب نائب رئيسه، الفريق أول عبدالفتاح البرهان.. ومع قصف الطائرات لمعسكرات قوات الدعم هذه العاصمة الخرطوم، ومع انتشار القتال في جميع أنحاء البلاد- يكمن الخطر في أن السودان سوف يسقط في حرب أهلية كاملة.. ستكون كارثة، ليس فقط لسكان السودان، البالغ عددهم خمسة وأربعون مليون نسمة، ولكن أيضًا للمنطقة الأوسع.
ويبدو الحال في السودان الآن وكأنه قتال حتى الموت.. فقد قُتِلَ المئات من المدنيين، وتحطمت أحلام الانتقال إلى الديمقراطية، التي تلاشت بعد شهور من احتجاجات الشوارع التي أدت إلى الإطاحة بالبشير.. بعدما ساد الرجال المسلحون "الميليشيات"، والمصالح التجارية غير المشروعة، ناهيك عن تلطخ أيديهم بالدماء.. ومع ذلك، فإن الآمال الدولية في إمكانية دفع السودان نحو الديمقراطية من خلال الإغراء بـ"الجزرة"، بما في ذلك إنهاء العقوبات الغربية واحتمال تخفيف الديون، تبدو الآن ساذجة.
لقد استجاب قادة السودان للغرب، بما في ذلك عندما استجاب البرهان لمطالب الولايات المتحدة بالاعتراف بإسرائيل، وفتح الآفاق في هذه العملية، إلا أن الخطر الأكبر هو أن الصراع في السودان قد يجذب قوى خارجية.. دعمت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية الحكومة العسكرية، والأولى مقربة من حميدتي، ودعمت مصر السلطة الشرعية في البلاد، كمبدأ دائم لها، مع أن قوات حميدتي ألقت القبض على عشرات الجنود المصريين الذين كانوا يقومون بتدريبات مشتركة مع الجيش، في ظل بروتوكولات عمل مشترك.. لروسيا أيضًا مصالح.. تقول وزارة الخزانة الأمريكية إن يفجيني بريجوزين، الرجل الذي يقف وراء مجموعة "فاجنر" شبه العسكرية، يمتلك شركة ذهب سودانية، ويقال إن له صلات بعمليات الذهب الخاصة بحميدتي في دارفور.. لم تستفد موسكو من شحنات الذهب فحسب، بل ضغطت على قادة السودان من أجل الوصول العسكري إلى بورتسودان.. وأمريكا التي تريد السودان خالصة لها.
لكن رؤية السودان ينحدر إلى الحرب لا تخدم مصالح أي أحد، ولا حتى مصالح روسيا.. وبقدر ما سيطرت الجهات الفاعلة الدولية على الخصمين الرئيسيين، يجب عليهم الضغط من أجل وقف إطلاق النار ومساعدة السودان على التراجع عن حافة الهاوية.. يجب على واشنطن، التي لا تزال تتمتع ببعض النفوذ المالي، أن تفكر في فرض عقوبات على البرهان وحميدتي وشركائهما لمحاولة وقف تدفق الأموال والأسلحة.. بطبيعة الحال، فإن أي انقطاع في الأعمال العدائية، سيترك الرجلان، على الأرجح، للقتال في يوم آخر.. وبالنسبة لمن يريدون الديمقراطية، يقدم السودان حكاية تحذيرية.. حتى عندما يخرج ملايين الأشخاص إلى الشوارع.. ساعتها، من الصعب للغاية إبعاد الرجال المسلحين عن السلطة، إلى أن يُجبرهم الجيش على ذلك- وهو احتمال بعيد المنال الآن- وهنا، فإن آفاق البلاد تبدو قاتمة.
من هو محمد حمدان دقلو "حميدتي"، الذي أصبح لاعبًا أساسيًا في المعادلة السياسية في السودان؟
كان التوتر قد تصاعد بين حميدتي والبرهان مؤخرًا، بسبب الخلاف بين الطرفين حول الجدول الزمني للانتقال إلى حكم مدني بموجب "الاتفاق الإطاري"، الذي تم التوقيع عليه أواخر العام الماضي، ودمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني، ومن يقود المؤسسة العسكرية التي تتمخض عن دمج القوتين.. في أعقاب الإطاحة بحكم الرئيس عمر البشير في انقلاب عسكري عام 2019، بعد أشهر من الاحتجاجات الجماهرية، تم تشكيل المجلس العسكري الانتقالي، وكان جميعهم من أفراد المؤسسة العسكرية، إلا حميدتي، الذي لم يكن في يوم من الأيام من أفراد هذه المؤسسة، رغم أنه يحمل رتبة فريق أول بقرار من البشير نفسه.
في 13 أبريل عام 2019، رقي الفريق محمد حمدان دقلو الشهير إلى رتبة فريق أول، وتم تعيينه نائبًا لرئيس المجلس العسكري الانتقالي، الذي ترأسه الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، وذلك في أعقاب عزل الرئيس السوداني عمر البشير.. وفي 20 أغسطس من نفس العام، تم تشكيل مجلس السيادة لقيادة المرحلة الانتقالية لمدة 39 شهرًا، والذي تكون من 11 عضوًا، ستة مدنيين وخمسة عسكريين، وأصبح حميدتي النائب الأول لرئيس المجلس الذي ترأسه البرهان أيضًا.
بدا مسار صعود حميدتي إلى مقدمة المشهد السياسي في السودان غريبًا، إذ جاء من خارج المؤسسة العسكرية والأحزاب السياسية التقليدية.. وهو يعد أحد العناصر الأساسية التي أطاحت بالرئيس السابق البشير، الذي كان قد قربه منه ودعمه وأضفى الشرعية على الميليشيا القبلية التي كان يقودها، ودمجها في المؤسسة العسكرية تحت اسم "قوات الدعم السريع".. وينحدر حميدتي من قبيلة الرزيقات ذات الأصول العربية التي تقطن إقليم دارفور غربي السودان.. وقد ترك الدراسة في عمر مبكر، وعمل في العشرينات من عمره في تجارة الإبل بين ليبيا ومالي وتشاد بشكل رئيسي، فضلًا عن حماية القوافل التجارية من قطاع الطرق في مناطق سيطرة قبيلته.. جنى حميدتي ثروة كبيرة من عمله هذا في التسعينيات، مما مكنه من تشكيل ميليشيا قبلية خاصة به تنافست مع ميليشيات قبلية أخرى، وعند اكتشاف الذهب في جبل عامر سيطرت ميليشياته على مناجمه.
تبدأ قصة حميدتي عام 2003، عندما حشدت حكومة البشير قوات من الرعاة العرب لمحاربة المتمردين في دارفور، وكانت نواة هذه القوات، التي عرفت لاحقًا باسم (الجنجويد)، مؤلفة من رعاة إبل من عشيرتي المحاميد والماهرية، من قبائل الرزيقات في شمال دارفور والمناطق المتاخمة لها في تشاد.. وخلال الحرب الضارية في دارفور، بين عامي 2003- 2005، كان قائد الجنجويد الأكثر شهرة والأسوأ سمعة هو موسى هلال، زعيم عشيرة المحاميد.. وبرز حميدتي، الذي كان يعمل إلى جانب هلال، عندما تمكن من توسيع الميليشيا التي يقودها من الماهرية وضم إليها قبائل أخرى، لينافس زعيمه السابق هلال وليستعين به البشير لاحقًا إثر خلاف مع هلال.
أضفى البشير الشرعية على هذه الميليشيا بتسميتها "قوات الدعم السريع"، وفق مرسوم رئاسي أصدره عام 2013، وكان قوامها الأساسي مكونًا من خمسة آلاف عنصر، كانوا مسلحين ونشطين قبل ذلك بوقت طويل.. لم يعجب ذلك رئيس أركان الجيش، إذ أراد أن يذهب المال لتعزيز القوات النظامية، لكن البشير كان متخوفًا من وضع الكثير من السلطة في أيدي جهاز الأمن والمخابرات الوطني، بعد أن كان قد طرد مديره للتو بتهمة التآمر ضده.. لذا أصبحت قوات الدعم السريع مسئولة أمام البشير نفسه، وقد أعطى البشير لحميدتي لقب "حمايتي"، بمعنى "الذي يحميني".. وشاركت قوات الدعم السريع في عدد من النزاعات الإقليمية، ومن أبرزها دورها في القتال ضمن قوات التحالف بقيادة السعودية في جنوب اليمن وعلى طول سهل تهامة، الذي يشمل مدينة الحديدة الساحلية.. كما وفر حميدتي وحدات للمساعدة في حراسة الحدود السعودية مع اليمن.. وأشارت تقارير إلى أن عدد "قوات الدعم السريع" التي يقودها حميدتي وصل إلى أكثر من أربعين ألف شخص عام 2019.
اتهم المتمردون في دارفور الخرطوم عام 2003 بتهميش مناطقهم اقتصاديًا وسياسيًا، الأمر الذي أدى إلى نشوب نزاع مسلح بين الطرفين، وقالت الأمم المتحدة إن ما يقرب من ثلاثمائة ألف شخص قتلوا في ذلك النزاع ونزح الملايين عن ديارهم.. واعتقلت الحكومة السودانية عام 2014 الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة، بسبب انتقاده لممارسات قوات الدعم السريع التي كانت تقاتل إلى جانب الحكومة في إقليم دارفور.. وحتى عام 2017 كانت قوات الدعم السريع تابعة لجهاز الأمن والمخابرات، ثم أصبحت تابعة لمؤسسة الجيش، بالرغم من أن معظم أفرادها ليسوا عسكريين.
اشتد التنافس بين حميدتي وهلال عندما اكتُشف الذهب في جبل عامر في ولاية شمال دارفور عام 2012.. وجاء ذلك في اللحظة التي كان فيها السودان يواجه أزمة اقتصادية، لأن جنوب السودان قد انفصل، مستحوذًا على 75% من نفط البلاد، وبدا الأمر وكأنه هبة من السماء.. واستولى رجال ميليشيات هلال بالقوة على المنطقة، وقتلوا أكثر من ثمانيمائة شخص من قبيلة بني حسين، وباتوا أثرياء عن طريق تعدين الذهب وبيعه.. وبحلول عام 2017، بلغت مبيعات الذهب 40% من صادرات السودان، وكان حميدتي حريصًا على السيطرة عليها.. وكان يمتلك بالفعل بعض المناجم وأنشأ شركة تجارية تعرف باسم "الجُنيد".. ولكن عندما تحدى هلال الرئيس البشير مرة أخرى، ومنع الحكومة من الوصول إلى مناجم جبل عامر، قامت قوات حميدتي بشن هجوم مضاد، واعتقلت قواته هلال، واستولت قوات الدعم السريع على مناجم الذهب الأكثر ربحية في السودان.. وهنا، أصبح حميدتي بين عشية وضحاها أكبر تجار الذهب في البلاد، بينما ظل هلال قابعًا في السجن.
في أعقاب إقالة البشير، بات حميدتي يظهر أسبوعيًا في الأخبار وهو يوزع الأموال على رجال الشرطة لإعادتهم للخدمة في الشوارع، وللعاملين في قطاع الكهرباء لإعادتهم إلى مواقع عملهم، والمعلمين للعودة إلى مدارسهم، أو يوزع السيارات على رؤساء العشائر.. وسيطرت قوات الدعم السريع على معسكرات قوة حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي التي بدأت في الانسحاب من دارفور، قبل أن توقف الأمم المتحدة هذا الانسحاب.. وقال حميدتي إنه زاد من عدد قوات الدعم السريع المشاركة في اليمن، ونشر لواء في ليبيا للقتال إلى جانب قوات خليفة حفتر.
وقد اتُهمت قوات الدعم السريع بالاشتراك فيما عرف إعلاميًا بـ"مجزرة القيادة العامة"، عندما قامت قوات مسلحة قيل إنها تابعة لقوات الدعم بفض اعتصام سلمي في 3 يونيو 2019، أسفر عن مقتل أكثر من 120 شخصًا، وألقي العديد من القتلى حينها في نهر النيل.. وتقول ويلو بيردج، مؤلفة كتاب "الانتفاضات المدنية في السودان الحديث"، وأستاذة التاريخ في جامعة نيوكاسل البريطانية، "لقد ارتكبت قوات الدعم السريع فظاعات في دارفور، ويثير تحركها بعد الإطاحة بالبشير ريبة الكثيرين، وخاصة المتمردين في دارفور".
ومنذ تعيين حميدتي نائبًا للبرهان في المجلس العسكري، ثم عضوًا في مجلس السيادة الانتقالي الذي يترأسه البرهان، كانت تقارير إعلامية تظهر بين الحين والآخر تتحدث عن وجود خلافات بين الرجلين.. ورغم العديد من البيانات الصادرة عن المجلس للتأكيد على عدم وجود صراع، وتأكيد البرهان نفسه على أن القوات المسلحة وقوات الدعم السريع بزعامة حميدتي، "على قلب رجل واحد"، ترددت أصداء خلافات بينهما حول عدد من القضايا، من بينها حركة وانتشار قوات الدعم في الخرطوم وولايات أخرى، فضلًا عما تردد عن محاولة الدعم السريع عقد صفقات ذات طابع اقتصادي، مع عدد من الشركات الدولية دون علم الدولة.. كما تحدثت تقارير إعلامية، نقلًا عن مصادر عسكرية، عن أن الصراع يتركز بالأساس حول النفوذ الشخصي، أكثر من كونه صراعًا بين القوات المسلحة والدعم السريع، ويبدو أن هذا ما أدى إلى احتدام الصراع بين الرجلين مؤخرًا.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.